ثقافة

الخيال السياسي في رواية «الأنفس الحية» لديمتري بيكوف.

بيدر ميديا.."

الخيال السياسي في رواية «الأنفس الحية» لديمتري بيكوف

جودت هوشيار

 

من الصعب الإحاطة بكل أنشطة الكاتب الروسي ديمتري بيكوف، هذا النجم الصاعد في الأدب الروسي المعاصر، الذي حولته دور النشر والإشهار الروسية إلى ماركة تجارية شهيرة، لأنواع متعددة من السلع الأدبية. فهو صاحب أكثر من سبع صنايع (كاتب وشاعر وناقد أدبي ومحلل سياسي ومقدم برامج إذاعية وتلفزيونية ومحاضر جماهيري في الأدب الروسي والعالمي، ويكتب عدة أعمدة صحافية في مجلات مختلفة كل أسبوع، وينشر كتابين أو ثلاثة كتب نثرية ضخمة (سير كبار الأدباء الروس، روايات) سنوياً. اشتهر في وقت من الأوقات ككاتب عمود رئيسي لأول مجلة أسبوعية ملونة في أواخر الحقبة السوفييتية.
وهو أحد الأدباء الروس القلائل الذين أتيح لهم إلقاء محاضرات عن الأدب الروسي في بعض الجامعات الأمريكية. ويسعى الآن لكسب المزيد من الشهرة في العالم الغربي عن طريق التظاهر بمعارضته للنظام البوتيني. سنركز في هذا المقال على إضاءة وتحليل واحدة من أهم رواياته الموسومة «ژ. د» الصادرة عام 2006، التي أثارت موجة من النقد اللاذع في روسيا، وترجمت إلى الإنكليزية عام 2010 وأثارت بدورها الكثير من ردود الفعل المتباينة في العالم الناطق بالإنكليزية.

عنوان مشفر

«ژ.د.» عنوان غريب ومربك، لكنه من السمات الأيديولوجية والفنية المهمة لهذه الرواية. يقول بيكوف: «ليس لديّ تفسير محدد لهذا العنوان. وأترك للقارئ فرصة فك شيفرته بشكل مستقل». وإذا حاولنا ذلك نجد أن الحرفين « ژ.د» اختصار له معان عديدة لا حصر لها في اللغة الروسية، منها مثلا (دكتور ژيفاغو، السكك الحديد، البيت الأصفر، السمين ديما، يوميات حية، الأنفس الحية). وهذا العنوان الأخير، ألمح إليه بيكوف في إحدى مقابلاته الصحافية. وللرواية عنوان فرعي هو»قصيدة طويلة» في إشارة واضحة لرواية نيكولاي غوغول «الأنفس الميتة» التي تحمل في الطبعات الروسية هذا العنوان الفرعي. وقد أدركت مترجمة الرواية إلى الإنكليزية كاثي بورتر لعبة بيكوف فأطلقت على الرواية «الأنفس الحية» وهو العنوان الذي نعتمده في السطور اللاحقة.
وصف بيكوف – المولود عام 1967 لأب يهودي وأم روسية – «الأنفس الميتة» بأنها «معادية للروس وللسامية في آن واحد». وفي مقدمة الطبعة الروسية اعتذر لأي شخص، قد تكون مشاعره قد جرحت، خاصة إن نطق الحرفين « ژ. د» مثل نطق كلمة « ژيد» وهي تسمية ازدراء لليهودي في اللغة الروسية. ولهذا لجأت كاثي بورتر إلى حذف العبارات والكلمات المسيئة لليهود من الترجمة الإنكليزية، واستبدال «ژ.د « أينما وردت في الرواية بكلمة «يهودي».
يقول بيكوف: «لقد ولدت لأكتب هذا الكتاب، وقضيت عشر سنوات في تأليفه، وجمعت فيه قصصي المفضلة وأفكاري الرئيسية. كتابي هذا يجب أن يكون كتاباً سيئاً، لا أعتقد أنه كان يمكن أن يكون جيداً. أتوقع على الأرجح إن رد الفعل الذي سيثيره، لن يكون رفضاً أيديولوجياً حسب، بل رفضاً جمالياً أيضاً، لأن هذا هو الكتاب الخطأ في كثير من النواحي. أود كتابتها بشكل مختلف، لكنني لأ أعتقد أن ذلك ممكن. لم يكن من المهم لي أن أكتب كتابا جيداً، بل أن أكتب ما أريد».

ديمتري بيكوف

«الأنفس الحية» رواية طويلة تقع في حوالي 700 صفحة، وهي مزيج من الأفكار والحكايا الخيالية، والهجاء اللاذع والمقاطع الغنائية، وتغطي مستقبل روسيا القريب. ويحاول المؤلف فهم التناقضات الأبدية لبلده، واستشراف مستقبله. أثارت الرواية الكثير من الجدل بسبب حبكتها: بعد عدة سنوات سوف تصبح روسيا فقيرة ومهمشة، فقد تم اكتشاف مصدر جديدة للطاقة في الغرب يسمى فولجستون، الذي توجد رواسبه في كل مكان باستثناء روسيا. لم يعد أحد بحاجة إلى النفط الروسي. الاقتصاد في تراجع، والأخلاق في حالة تدهور، والبيروقراطية في حالة ازدهار، وأيديولوجية الدولة تجمع بشكل غريب بين الخطاب العسكري الإمبراطوري والبلاغة الأرثوذكسية والدوافع الغامضة. لم يعد النفط مطلوباً لدرجة أن السكان انتهى بهم الأمر إلى تناول الطعام الصناعي، ما وضع روسيا على شفا كارثة، وأطلق العنان لحرب أهلية، وما عدا بيع النفط فإن النشاط الوحيد الذي يمكن أن يتخيله حكامها هو الحرب. حسب بيكوف: « تدور روسيا منذ القرن السابع في حلقة مفرغة: من الديكتاتورية إلى ذوبان الجليد، أي (الحرية النسبية) ومن ذوبان الجليد إلى الركود، ومن الركود إلى ثورة جديدة تتكرر كل مئة عام. روسيا ليس لها تاريخ على الإطلاق، على عكس جميع البلدان الأخرى، لكن لديها دورة مغلقة. يخوض الجيش الروسي حروباً عبثية لا تنتهي، ولا معنى لها، ويسود فيه الإذلال الروتيني للمحاربين». وهذا يذكرنا بوصف حالة الجيش القيصري خلال حرب القرم في رواية «الحاج مراد» لليف تولستوي. ويشعر أحد أبطال رواية بيكوف الكابتن غروموف، الشاعر السابق، أن هناك شيئا في بلده يتجاوز القبح المحيط – جمال الريف الخلاب، وكرم الطبيعة، ولطف النساء. تصور الرواية التاريخ الروسي على أنه صراع مستمر بين كيانين عرقيين، «الفارانجيين» و»الخزر» وحسب بيكوف فإن الخزر (اليهود) غزوا روسيا في القرن السادس الميلادي، بينما جاء الفارانجيون بعد حوالي أربعمئة سنة. منذ ذلك الحين، يتقاتل الفارانجيون والخزر باستمرار من أجل السيطرة على روسيا.

بيكوف يتجاهل الجانب الاجتماعي للتاريخ الروسي. زعيم الخزر ميشا إيفرشتاين ينسب إلى نفسه بسهولة الدور المنسوب إلى اليهود في التاريخ الروسي، التي تلومهم على ثورة أكتوبر/تشرين الأول1917 البلشفية، وإجبار الفلاحين على العمل في المزارع الجماعية، والتصنيع في الثلاثينيات.

الفارانجيون مسؤولون عن كل القسوة والازدراء للفرد، والخزر والمفكرون المرتبطون بهم يقدرون الحياة، لكنهم يفسدون الحياة البشرية بمكرهم ونفاقهم وحبهم للتجارة والمال. كلاهما يعتقد أن روسيا ملك له. وقد وصل الصراع بينهما إلى نوع من الجمود، حيث لا أحد من الطرفين حريص على القتال. يبدو الفارانجيون، على سبيل المثال، أكثر حرصا على تدمير الذات. وهم يرون أن الموت في المعركة من أجل البلد أكثر شجاعة وأفضل من قتل العدو. علاوة على ذلك يواصل الفارانجيون استئصال المؤامرات الداخلية المزعومة، ويقتلون جميع المتورطين فيها من أجل رفع معنويات قواتهم. ثم هناك السكان الأصليون لروسيا، أناس وديعون ومتسامحون، حفظة الحكمة الشعبية، الذين يبدو أنهم غير مبالين تماما بما يحدث من حولهم. وبشكل عام يمكن القول إنهم قانعون، وقادرون على التكيف مع أي من الجانبين. يتحدثون لغتهم السرية الخاصة التي تستخدم الكلمات الروسية نفسها، لكنها تحمل معاني مختلفة، ما يجعل كلامهم يبدو كالهراء. في بعض الأحيان يتم الحفاظ عليهم والاعتناء بهم، وفي حالة شح المواد الغذائية، عندما لا يستطيع الناس تحمل تكاليف إعالتهم، يتم التخلص منهم أو إعدامهم.
بيكوف يتجاهل الجانب الاجتماعي للتاريخ الروسي. زعيم الخزر ميشا إيفرشتاين ينسب إلى نفسه بسهولة الدور المنسوب إلى اليهود في التاريخ الروسي، التي تلومهم على ثورة أكتوبر/تشرين الأول1917 البلشفية، وإجبار الفلاحين على العمل في المزارع الجماعية، والتصنيع في الثلاثينيات. ميشا يفتخر بكل ذلك، ويشير على وجه الخصوص إلى التغييرات الليبرالية في التسعينيات على أنها إنجازات خزرية، وهو لا يدرك، ولا المؤلف يدرك أن هاتين العمليتين دفعتا البلاد في اتجاهين متعاكسين.

هناك معنى آخر محتمل للعنوان. ثمة بلدتان في الرواية، وهما زادرونوفو وديجونينو. يتم الاستيلاء على الأخيرة ثم فقدها مرات عديدة من قبل أي من الجانبين. الإمدادات لا تنفد في ديجونينو بطريقة سحرية، فهي تحتوي على موقد سحري، وشجرة تفاح سحرية. تبدأ الرواية مع الفارانجيين تحت قيادة النقيب غروموف، الذين استولوا على البلدة للمرة الثانية عشرة، ودون قتال لأن محتليها السابقين، بعد أن أكلوا وشبعوا من خيرها ولوا هاربين. الحرب الآن في عامها الثالث، ولا يرغب أي من الطرفين قتل الآخر، وكلاهما حاول يائسا تجنب القتال، لكنهما غير قادرين على العيش معا. وفي الوقت نفسه يخجلان من وضع حد لصراعهما. بلدة زادرونوفا مكان مختلف جدا، يقال إذا ذهبت إلى هناك فلن تعود. لا أحد يمكن أن يجزم أن هذا بسبب عدم قدرتك على الهروب من براثنها، أو أنك لا تريد ذلك. البلدتان في كلتا الحالتين، هما الهدفان اللذان يلجأ إليهما معظم الشخصيات الرئيسية للرواية، حيث يشارك البعض في المعركة النهائية – التي تم الاتفاق على موعدها مسبقًا بين جنرالات الفارانجيين والخزر- والبعض الآخر للنجاة بأنفسهم. يروي بيكوف قصص عدد من الأشخاص الذين وجدوا أنفسهم متورطين في الحرب الأهلية.

ويحاولون النجاة من الفوضى وغباء الحرب من حولهم :غروموف، هو الآن رجل عسكري كبير في جيش الفرانجيين، انفصل عن حبيبته، ويحاول العودة إليها. وحاكم إقليمي لديه علاقة غرامية مع فتاة محلية، وهو أمر يثير استياء السلطات بالتأكيد، خاصة عندما تصبح حاملاً وقد تنجب طفلاً يكون عدوا للمسيح. وهناك فتاة مراهقة تتبنى رجلاً بلا مأوى ـ فقد أصبح من المألوف تبني السكان الأصليين مثل الحيوانات الأليفة تقريبا. ومع ذلك، فهي تعامله بشكل جيد وتذهب معه عندما تكون المغادرة ضرورية. أخيراً، هناك عسكري من الفرانجيين وقع في حب امرأة خزرية (أي يهودية) وانتهى به الأمر إلى خوض غمار الحرب، وأصبح قائداً مهما، رغم أنه كان ما يزال يحب صديقته الخزرية.
يمكن القول إن «الأنفس الحية» رواية مترهلة رتيبة، وغير صحيحة سياسيا، وليست بارعة فنياً وفكرياً. المؤلف ينتقل بشكل غير متوقع من أسلوب رفيع إلى أسلوب مبتذل. ويبدو أنها كتبت بإهمال متعمد، وفيها أكثر من مئتي شخصية رئيسية وثانوية. وتضم العديد من القصائد الشعرية والحكايات الفرعية، والنكات النابية، وكل ما كان يفكر فيه المؤلف خلال السنوات العشر التي استغرقتها كتابتها: تجربته الحياتية، والعلاقات الإنسانية، والأحزاب البوهيمية، والسلطات الفاسدة ضيقة الأفق، وماضي روسيا ومستقبلها، ما أدى في نهاية المطاف إلى اختلاط العديد من الأنماط والأنواع الأدبية. هذا الترهل البنائي يشتت الانتباه، ما أرغم مترجمة الرواية إلى الإنكليزية على اختصار الرواية إلى حوالي 550 صفحة، لتبدو أكثر تماسكا وتشويقاً.

كاتب عراقي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com