ثقافة

السرد غير الواقعي.

بيدر ميديا.."

السرد غير الواقعي

نادية هناوي

 

الواقعية مذهب أدبي له مكانة مهمة في الرواية العربية، وبه يتمكن المؤلف من جعل رؤاه الذاتية وتجربته المخصوصة مصورة ومشكلة، وهي تتحرك داخل فضاء درامي تتنوع فيه قنوات التوصيل حسب حركية الإبداع كمنطلق ومنتهى، فيه قبل وبعد محددان؛ فأما القبل فغير معروف ولكنه مهيأ للتشكل عند كاتب ربما لم يكن في حسبانه أن ينطلق منه، إلا حين ابتدأ بوضع محددات، تمكنه من اطلاق ذاك الذي هيأه وأدرك أنه ملزم بأن يظهره للملأ، متحدثا ومركزا بدقة على حيز يراه أهم من غيره، وأما البعد فهو المنتهى الذي به يبلغ المؤلف مراده، وهو توصيل ما يريد للقراء أن يعرفوه حين يقرأون عمله ويجدون مقصده متحققا في شخصية أو مشهد أو منظور، يستوجب منهم التفاعل. وكلما كان الما قبل ذا منوال غير مألوف، بدا الما بعد أكثر استفزازا في تشكيل البناء السردي.
وليس البناء الروائي سوى كون مصغر لواقع يرسمه الكاتب، وفق خطة قبلية موجودة في ذهنه، وبها يعبر عن أفكاره فيتحرك حينا بتؤدة وهو يضع الخطوط الأولية لسرده، وينتقل فجأة أحيانا أخرى ليراوغ في أساليب التعبير كشفا وتعمقا، مختصرا ومستطردا، مبسطا ومعقدا.
وباجتماع الما قبل والما بعد يكون المؤلف قد أنجز عملا روائيا جمع فيه بين الخيال كبنية أفقية، لأنه مفتوح لا حدود له، والواقع كبنية عمودية محكومة باللغة. وبحسب رجحان كفة البنى تتحدد طبيعة الكتابة الروائية. ومن الطبيعي أن أي مغالاة في البنى تؤدي إلى أزمة تجعل بعضها يعمل عكس بعضها الآخر. ويتوقف أمر النجاة من هذه الأزمة على ما يبتكره المؤلف من طرائق وما يضعه من لمسات، وما يرسمه من اتجاهات، فيقدم عمله الروائي إلى القراء بإدراك ومسؤولية، محمِّلا إياهم أيضا مسؤولية إدراك ما في متخيله الواقعي من أبعاد، وما يبعثه فيه من رسائل أو أفكار.
ومن المعتاد أن يسير الكاتب في السرد الواقعي، وفق أعراف محددة الأبعاد قبليا ومرسومة ما بعديا بسنتمترية عالية. وقد يكون للتجريب في ما هو ممكن وغير ممكن أو ما هو معروف وغير معروف دور مهم في أن يبتكر المؤلف ـ الملتزم بالواقعية وقواعد كتابتها ـ أساليب إبداعية جديدة غير مطروقة سابقا ويوظفها في كتابة الرواية. ومن ثم لا يكون السير على التقاليد متعارضا مع التجريب فيها، فالكتابة لا تستغني عن الإبداع، ومن الطبيعي أن كلا منهما يأخذ بيد الآخر. وهذا التعامل مع الواقع الاجتماعي كفضاء روائي أو التعبير عن هذا الواقع بوجهة نظر محاكاتية هو أمر عام، لا يشذ عنه أي أدب من الآداب العالمية، ومحصلاته ناجزة سواء في الأعمال الروائية العظيمة وغير العظيمة معا، لكن الذي يجدد طرائق هذا التعامل ويجعل التعبير مغايرا هو طبيعة النزوع الواقعي نفسه كمذهب له صور تبدأ بالنقدية ولا تنتهي بالسحرية. فالواقع حسب سارتر يملك خاصيتين: في الاولى يُهيَّأ الجسد للفعل، وفي الثانية ينبجس الوعي إلى خيطين متناظرين، خيط يتخلف في الماضي بينما الآخر يندفع إلى المستقبل.
ولا غنى لأي كاتب واقعي من قدر من الحرية سواء وهو يكتب بالتزام واقعي، أو وهو يجرب في عناصر نصه بمسؤولية، وقد يظفر بالاثنين أو يكتفي بواحد منهما في إنتاج سرد واقعي لا يخلو من تضاد وجدل تماما كالحياة التي فيها السامي وفيها المبتذل، علوا ووضاعة، جمالا وشناعة، حقيقة وزيفا. وقد يولي هذا الكاتب قراءه اهتماما فيجعلهم فاعلين مع ما يطرحه من نماذج روائية، من دون أن يجعلهم يشعرون بوجوده. وقد يحصل العكس فيكون موجودا يتدخل في تشكيل أفق توقع القراء بصور وأفعال وأقوال تذكِّر القراء بأن المؤلف حاضر كذات متفاعلة وفاعلة في الما قبل والما بعد.

إذا كانت الرواية دالة على متخيل واقعي نصي، كان في ذلك استفزاز للقارئ في أن يجد لهذا المتخيل واقعا يوازيه اجتماعيا، وبه يتأكد دور المؤلف في تحمل المسؤولية، كما يتأكد دور هذا القارئ في الإحساس بمسؤوليته في التحدي القرائي.

وفي هذه التفاعلية وذاك الانفساح يبدو الكاتب الروائي لا كصانع اختلق واقعا حسب، بل مورطا القراء في إتمام هذا التصنيع الاختلاقي أيضا. فالقارئ حين يباشر بقراءة الراوية، يعيد تركيب أجزائها من جديد بحثا عن معطى ما، أو عن معنى يتمخض عنه نص معين أو مجموعة نصوص. وإذا كانت الرواية دالة على متخيل واقعي نصي، كان في ذلك استفزاز للقارئ في أن يجد لهذا المتخيل واقعا يوازيه اجتماعيا، وبه يتأكد دور المؤلف في تحمل المسؤولية، كما يتأكد دور هذا القارئ في الإحساس بمسؤوليته في التحدي القرائي. ولكن إذا كان الكاتب حيا في نظر القراء، فهل تظل حيوات الواقع السردي مختلقة خياليا من واقع اجتماعي معين؟ أم أن لا صلة لها سوى بالواقع النصي نفسه؟ وما مسؤولية المؤلف أمام القراء وهو مرجو منه كشف خفايا الواقع بكل ما فيه من معاناة وألم وفضائح يواجهها الفرد كل يوم ويتجرع غصصها كل حين؟ أليس حريا بالمؤلف أن يصنع واقعا جديدا وعلى القارئ أن يشاطره هذا الواقع بصورتيه القبلية والبعدية؟ وهل يعد مثل هذا المؤلف متنصلا عن مسؤوليته في إدراك معنى الكتابة الواقعية وما يمكن استشفافه فيها من إبداع؟
من المعتاد أن تكون محصلة الوعي بالمحاكاة حبكة منطقية ومعقولة يسفر عنها سرد واقعي، بينما تكون محصلة الوعي باللامحاكاة في السرد غير الواقعي مستحيلة ولا احتمالية، ولكن الذي يجعل الحبكة منطقية هو بلاغة التعبير الخيالي من جراء هذا التواشج غير المنظور بين وعي المؤلف ووعي السارد من جهة، وازدواج صوت السارد بصوت المؤلف خياليا وهو يخبر عن مسروداته من جهة أخرى. وعلى الرغم من التغاير في نتائج هذين النوعين من التمثيل السردي للواقع، فإن التشويق يفرض على القارئ ممارسة أدوار في السرد الواقعي تتغاير مع أدواره التي يؤديها في السرد غير الواقعي. ولقد أعتيد في قراءة العمل الروائي احتواؤه على أحداث، فيها الوضوح أو السخرية وفيها التغريب أو التلغيز أو أي أمر مجهول يراد بلوغه، وبه تكون خيبة أفق التوقع هي محصلة القارئ ومعها يشعر بالمتعة والفائدة.
قد يصح القول إن السرد غير الواقعي سرد تخليقي كاذب أو تلفيقي، بيد أن من الصحيح أيضا أن يكون السرد الواقعي غير مطابق للواقع بحذافيره، ومن ثم لا بد من مسافة جمالية بين التخليق التخييلي والصدق الوقائعي. والرواية كجنس سردي لا تعيقها تقاليد كتابة عناصرها ومواضعات التمثيل الفني لها، بل الرواية مع هذه التقاليد والمواضعات، هي قادرة على أن تتجاوز الحتمي وتتعداه. والسبيل إلى ذلك هو وعي الكاتب بحيوية دوره في تجسيد الواقع شعوريا ولا شعوريا أيضا، كأن تكون واقعية لكن بأوهام فانتازية أو أحلام سريالية. والواقعية من السعة ما يجعل الرواية شاملة للواقع واللاواقع بكل ما فوقه وما تحته، فضلا عن أجناسيتها التي تجعلها مؤهلة لأن تمثل وعي مؤلفها ولاوعيه أيضا، أيا كان جنسه، كبيرا في إبداعه أو متوسطا أو محدودا. وليس هذا بالمستغرب فالسرد اللاواقعي قديم والإنسان يسعى منذ القدم إلى الابتكار بالمحاكاة للواقع واللاواقع. وما صَنَعَ العجلة إلا لأنه يحاكي ما لا واقع له، يقول ابولينير: (عندما أراد الإنسان أن يحاكي السير على الأقدام ابتكر العجلة التي لا تشبه الساق في شيء)، فالمحاكاة ليست تقليد شيء كائن، بل يمكن أن تبتكر شيئا مستحيلا وغير معقول ولا ممكن الحصول واقعا. والابتكار أقوى من التقليد، لأن الإنسان في التقليد يتقوقع في ما هو معقول، بينما في الابتكار يتجاوز الحقيقي والممكن إلى ما هو جديد. والإنسان عموما يحتاج الاثنين، التقليد والابتكار، لضرورتهما لحياته وتطورها.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com