مقالات

دمعة وحيدة.

بيدر ميديا.."

دمعة وحيدة

بقلم: مؤيد داود البصام

 

(دمعة وحيدة ) رواية الناقد والكاتب مؤيد جواد الطلال، اول عمل روائي يكتبه. كتب القصة القصيرة والمقالة بأنساقها الاجتماعية والمعرفية، وتخصص في النقد الادبي, وصدرت له عدة كتب في النقد الادبي ….

في روايته ( دمعة وحيدة ) الصادرة عن دار العراب للنشر في القطر السوري، والتي تقع في 190 صفحة من القطع المتوسط، يقدم لنا نموذجاً من الرواية لعلها عودة فكرية وسردية يقودنا الطلال لاكتشاف عظمة دوستويفسكي مرة أخرى، الذي اثر بأجيال متتالية في السرد الروائي ولم يخرج من شرنقته عبر قرن الا القليل لحين ظهور رواية الحداثة, ومن ثم ما بعد الحداثة, اللتان اكدتا كل واحدة منهما حسب مظهريهما عن حالة التشيؤ، واتخذت الرواية سيرها على هذا المنوال الا القلة منها كرواية ( آكل الافيون ) للكاتب ” توماس دي كوينسي ” او كما ترجمت ( اعترافات متعاطي الافيون –  صفحات من حياة دي كوينسي ), والتي عدها البعض من الخيال العلمي لما تنطوي على رؤية النظر إلى الافيون والتغني به كمنبع للخلاص، كما صوره ” كوينسي ” ليبرر تعاطيه للأفيون .. وإذ نأخذ حالة السرد التي قدمها كوينسي للمقارنة مع رواية ( دمعة وحيدة ) ليس من أجل تقديم فكرة عن تعاطي المخدر أو عدمه، بل لأن  الطلال يحيلنا في نصه إلى التحدث عن الجسد بوصفه عتبة في حياة البطل يتداخل مع روحه التي لها رغبات أخرى, بقدر ما يفسر وسع معلومات البطل ورؤيته للحياة؛ وهي إشكالية يصل بها إلى حد أن ينهي حياته (( بعد أن زاد من أخذ حبوبه المنومة القاتلة بطريقة مفرطة )) ((1))

 

 السرد وابطال الرواية

يبحر بنا بطل رواية دمعة وحيدة ( ماجد ) في بوحه الداخلي الذي يختلط بالذكريات والمذكرات والتضمين والإعادة (( الباك كراوند )) ليصل بنا في نهاية مسير القطار إلى المحطة التي تجعل الرجل الستيني يعتبر سقوط دمعة جارته الطفلة ” نور ” بمنزلة حسرة على حياة لم يجد في آخرها ما لم يجد في أولها منذ بدء مسيرة الحياة حتى نهايتها, هي كل ما آل اليه من هذا الوجود.

هذا يفسر أولا دراما حياة البطل الذي ظل يلهث لاستكشاف متناقضاتها، وأخيراً يجد كل شيء سيكون معلقاً بدمعة وحيدة هو عنوان الرواية وعتبتها.

يتحرك مؤيد الطلال في روايته التي هي رواية نص أكثر منها رواية صراع الاضداد، بوح داخلي يتداخل سرديّاً بين الرواية والنص بلغة النثر المحكم لغة وشعراً، فهو يبلغ بسرده الذروة التي يحاول الروائيون الوصول اليها وهي عملية الشد والاندهاش والتأمل، مستخدماً     ” الهو “, ثم يغيبه بالسارد العليم الذي هو نفسه الرجل الستيني ( ماجد ) على اعتاب السبعين؛ لإيجاد تفاعل مستمر بينه وبين المتلقي في تدوير الإحالة من التشيؤ الشخصي إلى أعماق الشخص في البحث والحفر في الداخل لاستخلاص المستور في الأعماق.

أننا في الحقيقة أمام نص يغوص في أعماق الشخصيات التي لا نجد لها اثر ألا من خلال البطل ماجد أو السارد العليم [ أو الشخصية المحورية الأساسية ]، بإحكام القبضة على اللغة السردية التي تحرك أبعاد رؤية الحالم لتحقيق حلمه، ونقد اجتماعي لمفاصل الحياة والواقع، وأن تداوّر ( وتناوب ) في المكان بين العراق وسوريا لكنه ظل ضمن التحكم بسرده في قالب البحث لكشف أعماق الأشخاص أكثر من اهتمامه بالأشياء .. فهو نص غير عادي يفترض بنا اننا نقرأ رواية تعتمد عنصر الصراع وتصعيد التوتر أساساً في تعاملها السردي بين الشخصيات [ ابطالاً او الأدوار الثانوية ], ألا أن نصه دراسة شاملة لمجتمعين وإن لم يتشكل بمفهوم الدراسة البحثية وانما ضمن عالم من التشويق لإبقاء المتلقي ملتصق بالنص، من حيث ملاحقة معرفته إلى اين سيصل بعلاقته مع (( جمارة قلبه – صفحة 9من الرواية )), أو إلى أين سيصل في بحثه مع مجموع الشخوص الثانويين في الرواية الذين هم ابطاله يقربهم ويبعدهم حسب مكانتهم الفكرية لديه أو المشاعر التي تتملكه بعلاقته معهم.

إننا امام شخصية فكرية تحمل ثقافة موسوعية, ولها آرائها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية، وأغلب اصدقاءه الذين يتحدث عنهم هم من نفس الصنف بتفاوت نسب ثقافة كل واحد منهم … فروايته تأخذ الواقع كما هو وترهنه بالمعرفة مع طبيعة النص السردي المختلف عن النصوص السائدة. إن رواية ( دمعة وحيدة ) رواية بوح داخلي أكثر مما هي رواية احداث، وحتى في تحوله من البناء الروحي إلى الشبقي فانه يتحدث عن شخوصه ضمن مفهومه الجديد كما كان يتحدث عنهم عندما لم يضع الجنس النقطة الرئيسة في تحوله مع التي يصفها (( إنك شكل من اشكال ذلك الابداع الفني، شكل من أشكال الفتنة الجبارة! )) (( 2 )).

إشكالية التأرجح بين الروح والجسد

وهنا تكمن الإشكالية: ((أنتم أيها الحكماء ، المليئون بالعلم الراقي والعميق / أنتم من يفهم ويعرف / كيف ومتى وأين يتحد الكل / لماذا يتبادل الكل الحب والقبلات / أنتم الحكماء العظام، أخبروني عن حقيقة الامر؟! )) – مقتطف من شعر جوتفريد أوجست بورجير (( 3 )) …هذه الحيرة والصرخة ستاتي مغايرة لما كان يحاول اقناع فاتنته (( أن الروح هي الأصل )). ((4))

هذا هو محور الإشكالية لديه في لحظة تحوله وتأرجحه بين الروح والجسد. ولعل المقدمة التي وضعها في عتبة الاستهلال تفتح طاقة ضوء في سماء الرواية للدخول إلى فهم سرده ببناء رواية مغايرة للسائد، كما شرحها مُتقصِّدا من المقدمة التي وضعها د. ( يوسف تيبس ), مقتطفاً من الشاعر الألماني جوتفريد أوجيست بورجير في مقاله [ تطور مفهوم الجسد: من التأمل الفلسفي إلى التصور العلمي ] (( 5 )) ؛ إذ يبقي الحسرة على عدم الوصول إلى فض الاشتباك بين الجسد والروح حتى اللحظة التي لم يعد يهتم لهذا الوجود.

واذا كان المثال يدنو من رواية ( الانسان الصرصار ) او كما تُرجمت أيضاً ( في القبو أو رسائل من باطن الأرض ) لدوستويفسكي وكذلك رواية (( بينما ارقد محتضرة )) لوليم فوكنر، فأنها تبقى اقرب إلى رواية كوينسي في تبرير حب تعاطيه الافيون، كما يتحدث عنها كوينسي: ” وإذا كنت ملزما بالاعتراف بأنني انغمست فيه على مستوى مفرط لم يبلغه بعد أي رجل آخر، فإنه ﻻ يقل عن حقيقة إنني كافحت ضد هذا الاسترقاق الفاتن بحماس ديني، وأنجزت بإسهاب مالم أسمعه بعد يُعزى إلى أي رجل قد تحرّر تقريباً من روابطه النهائية، ومن السلسلة الملعونة التي قيّدتني ” .. وهو نفس التبرير الذي يقدمه الطلال في روايته النص: (( فهل افصحت هذه الرسالة الأولى عما يدور في أعماقي من إشكالية ملغزة أو عن هذه التناقضات بين رغبة الوفاء المطلق، ورغبة امتلاك الجمال المطلق، في الآن معاً ؟! )) ((6)).

 

صراع الاعماق والحفر في الدواخل

نلمس إشكالية الرغبة بين الشبق الجنسي والامتاع العقلي في رواية ( دمعة وحيدة ) وكان من الممكن ان نعتبرها ” رواية ايروتيكية “، لولا هذا التعاطي الفكري الذي يجرنا اليه ليحوّل فكرة الجنس ليس كهدف أو رغبة أساسية, انما لحظة تحول وصراع درامي ما بين الروح والجسد، وهي التي جعلت ( ماجد ) ينغمس في الجنس للتعويض عن فقدان ما اعتقده   (( رغبة في امتلاك الجمال المطلق)), الذي قلب تفكيره أعلى أسفل, وتحول من عاشق افلاطوني إلى شخص يريد أن يمتلك الناصيتين .. وفي كل افصاحه عن الحالات الجنسية التي كان يمارسها مع النساء اللواتي يقبضن ثمن المتعة التي يقدمنها للآخر, كان يتدارك أيمانه وسلوكه السابق ولكن بمحاورة حتى يترك العنان لا يمانه الجديد ان لا يفقد وهجه، ويؤكد غرضه الذي جعله يعتمد تشظية الحدث وتفتيته بناء على رؤياه واحاسيسه ومشاعره ليصل إلى حالة الحافز الذي صاغه عبر عشرات اللحظات التي قضاها يبحث ويحفر في الاعماق … إذ أن ” الطلال ” لا يقدم حدثاً رئيساً بل مجموعة أحداث ثانوية يلملمها ليقدم حدثه الرئيسي في نهاية الرواية.

إنّ حالة التخبط التي يسوّقها لنا بطله جاءت في لحظة تأمل فلسفي لإيجاد نزوع الذات ما بين الروح والجسد: (( أين سيعزل الجسد عن عالم العقول المحضة ويتحول إلى مجرد موضوع من موضوعات المعرفة، تكمن وظيفته الفعلية في تحديد الهوية الشخصية لكائن ما، عن طريق الاحتكام إلى سلطة الصورة أو الشكل المادي للشخص، ليتم في الأخير تجزيء الإنسان وتشيئه )) (( 7 )).

لا يعني سلاسة اللغة الذي يلامس المعنى برقة ألفاظه، ومحاولة تأثيرها الرومانسي، بكافي لجعل الرواية ذات أهمية، أنما هذا التحكم في السرد وكشف الأعماق الإنسانية لشخوصه في الرواية، والطلال استطاع ان يتعمق في دواخل شخوصه وتحريكهم ضمن الاطار الذي وضعه في عتبة الرواية كعنوان او الاستهلال الذي بنى عليه حالة التناقض بالسؤال الفلسفي الذي استله من مقالة تيبس: (( أنتم الحكماء العظام، أخبروني عن حقيقة الامر؟! )).

 

المصادر والهوامش

1 – دمعة وحيدة .. رواية مؤيد جواد الطلال ( ص 178 ) – اصدار دار العراب – دمشق 2019م

2 – نفس المصدر ( ص 14 ).

3 – ( ص 5 ) – مقتطف من شعر جوتفريد أوجست بورجر, وهو شاعر وكاتب ألماني عمل موظفاً ومدرساً جامعيّاً حراً, كما أصدر مجموعة شعرية باسم قصائد ( 1778 – 1779 ).

4 – دمعة وحيدة, مصدر سابق ( ص59 ).

5 – يوسف تيبس [ تطور مفهوم الجسد: من التأمل الفلسفي إلى التصور العلمي ] ضمن مجلة عالم الفكر, العدد 4 , المجلد 37 في نيسان 2009م.

6 – دمعة وحيدة ( مصدر سابق – ص 15 ).

7 – تطور مفهوم الجسد ( مصدر سابق )

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com