مقالات

تضاريس الخوف والموت بين الجبل والمدينة .

بيدر ميديا.."

تضاريس الخوف والموت بين الجبل والمدينة .

حكايا ذات زمان …

بعد أن أسدل الستار على أعمال المؤتمر الرابع لحزب الشيوعيين العراقيين في١٥ تشرين الثاني العام ١٩٨٥ . ورفعت خيمة المؤتمر من منطقة ” أرموش السفلى ” في شريط لولان الحدودي وفيها ألغى النصف من الرفاق النصف الآخر . إتجهت السياسة الجديدة في تعزيز تنظيمات الداخل من خلال زج عدد أكبر من الرفاق نحو صوب مدن الوطن في محاولة لإعادة تنظيمات حزبية . وأتخذ من الفصيل المستقل في وادي ” زيوه ” على نهر الزاب خلف مدينة العمادية نقطة إنطلاق وتجميع الرفاق وتهيأتهم لوجستياً وتنظيمياً ومعنوياً من خلال المناطق الذي ينتمون لها ” الفرات الأوسط ، الجنوبية ، بغداد ، والمنطقة الوسطى ” . بأشراف مباشر من قادة الحزب عمر الشيخ ” أبو فاروق ” ، حميد البياتي ” أبو داود ” ، أرا خاجادور ” أبو طارق ” بعد أن أزيح باقر إبراهيم ” أبو خولة ” عن القيادة المركزية للتنظيم أثر كلمته التي ألقاها في خيمة المؤتمر بتخليه عن مسؤولياته كافة وأعتذاره من المندوبين عدم ترشيح نفسه ثانية لاي مسؤولية حزبية مما سبب أرباكاً داخل تنظيمات الفرات الاوسط شكلت لهم صدمة باعتبروها مفاجأة مدوية وخارج الحسبان ، بما كان يطمح أن هناك أفق في التعويل عليه في إدارة دفة الحزب بأزمته المستعصية .

تجمعنا في وسط ذلك الوادي الضيق والطويل والممتد الى قمة جبل ”متين” ، والذي أستهدف فيما بعد بالاسلحة الكيمياوية بسلاح الطيران الحكومي ، كانت جريمة ما زالت تداعياتها تلاحق ملفات جرائم النظام الراحل ، وقد بلغ عددنا التقريبي ستون رفيقاً من كل بيدر حبة . وفي شتاء قارص من نهائيات العام ١٩٨٥ وفي غرف رطبة ولم يكسر رطوبتها الا دفء الأفاق وحديث الرفاق بالعزم نحو أماني جديدة من النضال والأجواء الحميمية الطاغية بين الرفاق والأماسي اليومية حول وثائق المؤتمر ونتائجه ودعواته نحو تعزيز العمل الحزبي في الداخل ودعمه الكامل لهذا التوجه وليبقى الجبل نقطة تجمع وهدف لالتحاق الرفاق من بطش الدكتاتورية والالتحاق من الخارج نقطة ” القامشلي”وعبر المنافذ الإيرانية وتعد المنفذ الأهم والمهم للالتحاقات لأجل الحفاظ على كيان الحزب والخوف من العزوف عن الركب الحزبي والنضالي . تعزيز تلك السياسة الجديدة تجاه الوطن أنعشت الروح المعنوية في روحية الرفاق المتداعية من جهل وممارسة وبيروقراطية سياسة الكفاح المسلح وفعاليتها في خرمشة جلد النظام ، لكن الطرق التي أعتمدت في تعزيز تلك السياسة تركت مأسي وخسائر كبيرة .

في إعداد الخيارات والاعداد من الرفاق بالتوجة الى مدن العراق تجري بسرية تامة في عمق ذلك الوادي ، لكن ممن تكثر اللقاءات به داخل الوادي أو على سطوح غرف المقر جيئةً وذهاباً مع المسؤولين تعطي ضوء أخضر للرفاق الآخرين إنه هذا الرفيق مهيأ قريباً في النزول الى الداخل . بداها الرفيق الشهيد محمد وردة ” أبو جيفارا ” للتهيأ ، فبدل من أن يأخذه الدليل ” شهاب ” أبن قصبة ” العمادية ”العميل المزدوج الى مدينة الموصل أمناً نحو المحطة الحزبية  في ” جديدة الشط ” في محافظة ديالى  دخل به الى مديرية أمن دهوك وضاعت أخباره بين الرفاق حيث رفاق تنظيم الداخل يتطلعون الى وصوله بلهفة للاطلاع على نتائج وأخبار عقد المؤتمر وبين قيادة التنظيم في الجبل المطمئنة الى وصوله بسلام لانه تعتقد كان بيد أمينة ، بعد فترة زمنية أنحصرت بأربعين يوماً ، وهو ما زال يتلوى من وطأة التعذيب اليومي في أقبية البعث المنحل ، كان يدور في خلده وفي حساباته الامنية ، إنها فترة زمنية كافية للرفاق بأن يتخذوا الاجراءات الاحترازية المعمول بها في العمل الحزبي ” السري ” ويقدموا على تغير أوكارهم الحزبية وطرق تحركاتهم وأتصالاتهم ، لكن لم يدر على باله ، وهو المركون في زاوية ميتة بأقبية الامن العامة أن رفاقه ينامون بهدوء بعيداً عن تلك التوقعات ، فأجبر أن يبيح ما في صدره من أسرار خطيرة عن الاوكار الحزبية وأجهزة الطبع والاسلحة تحت ظروف قاسية من الذل والتعذيب والموت البطيء ، كانت ساعة صفر واحدة أتخذتها أجهزة الامن في الواحدة ليلاً في أول ساعة من السنة الجديدة من شهر كانون الثاني العام ١٩٨٦ . في الهجوم على عدة أوكار حزبية أربكت حسابات أجهزة السلطة في وهمها إنها قضت على الشيوعيين وتفاجأت في قدراتهم على بناء هذا التنظيم رغم أساليبهم القذرة في تشويه ومعاداة الشيوعية ، رفاق سطروا ملاحم بطولية ” أبو غسان ، أبو أزدهار ، أبو سهيل ، أبو قيس ، أبو جلال ، أبو ستار ، سفانة ، أم ستار . أبو جلال ” محمد الخضري ” هو القائد الفعلي للتظيم أستشهد في مقاومة بطولية في محاولة لالقاء القبض عليه في بيت سري في العاصمة بغداد ، أما أبو قيس خالد جاسم معاوية ، وقع بيد المخابرات بعد مقاومة بطولية في بيتهم في مدينة بعقوبة ومحاولته للإلتحاق الى الجبل عبر منافذ قرى مدينة الموصل .

بعد كارثة الرفيق محمد وردة ” أبو جيفارا ” . تهيأ للنزول الى مدن العراق والتي تعد كابوساً في ظل نظام مرعب ومخيف فرض سطوته بقوة الحديد والنار وألاعيب المخابرات والأمن ، كل تلك السطوات المخيفة والمرعبة لم تحد من إرادة الشيوعيين في مواصلة النضال والتحدي .  في يوم ما غابا عنا وعن عداد الفصيل الرفاق المرحوم علي الجبوري ” أبو أحمد ” رفيقي الابوي زهرة العقل والقلب والضمير مع عبد فيصل ” أبو عبير ” . في دقيقة أو ساعة لا أحد يعرف توقيتها في التحرك ومع من ، من الرفاق والطريق المؤدي للقرب من المدن القلقة بأتجاه العاصمة بغداد . غابوا وبعد شهور وربما سنة كاملة تواردت الأخبار عبد فيصل معتقل وعلي الجبوري عاد الى الجبل محملاً بحكايات وهموم لم تحكى بعد .

اللقاءات الجانبية في الفيصل تضع الجميع لمن الدور القادم في النزول الى بغداد . الرفاق الشهداء ” أبو بشرى ، أبو سالار ، أبو سرمد ، أبو أحمد ” جمعتني معهم غرفة نوم واحدة وسط ذلك الوادي وتمتد تلك العلاقة الى موقع ” هزارستون ” في سليمانية . أستيقظنا في صباح ندي ، والشمس ما زالت غائبة عن سفوح الوادي وكلمعتاد تجمعنا حول سقيفة المطبخ في وسط المقر ننتظر من يد خفر المطبخ وجبة الفطور خبز منقوع بالدهن تفقدنا رفاقنا الأربعة شعرنا بغيابهم وعلى أقل تقدير بالنسبة لي لاني كنت أنام وسطهم وبينهم ، أنهم زجوا الى الى الفرات الاوسط . غابت أخبارهم ولم نعد نسمع شيء عنهم الا بعد شهور أزداد الهمس بين الرفاق أنهم في قبضة أجهزة السلطة ومن بينهم الرفيق ” أبو سرمد ” الذي أستشهد في بيته في ناحية ” الدغارة ” محافظة الديوانية ، عندما حاولت أجهزة السلطة في القاء القبض عليه فقاومهم ببطولة فاستشهد . وألتحق به لاحقاً أخيه هاتف ” عمار ” شهيداً في الجبل ، والشهيدان تجمعني بهم مواقف مشتركة حول قضايانا الساخنة . قدمت هذه المقدمة لكي أبين للقاريء المتابع طبعاً ومن يمتلك حساً في فرزنة الاحداث مسالك عملنا في مواجهة أعتى نظام دكتاتوري .

بدأ الحديث معي حول التهيأ للنزول الى بغداد ، وكنت مهيأ نفسياً ومعنوياً ونضالياً وبقناعة لاتلين في مواصلة العمل النضالي الصعب والخطير مسنوداً على قناعات كاملة وبدون خوف ولا تردد ولا شيئ يحيد عن موقفي أن تطلب الآمر الاستشهاد . وكان معي سلام العكيلي ” محمد عرب ” من أهالي الخالص محافظة ديالى ، والذي يعد من الشيوعيين المنتميين بصدق وقناعة وشجاعة متميزة ، تعرفت عليه عن قرب في قاطع سليمانية وكركوك قبل سنوات قبل توجهه الى بغداد في المرة الأخيرة عام١٩٨٤ ، وترشيحي للعمل معه في بغداد زادني قوة لمزاياه النضالية والشخصية بحكم تجربة سابقة في العمل معه . تحركنا في ليل’ دامس وتحت رذاذ مطر خفيف يعتكر حركتنا أحياناً مع مفرزة من الأنصار صوب قرى محافظة الموصل ، ولأنه كان عائد تواً من بغداد يحمل أنطباعات عن حركة الناس وخطط العمل والتحرك ، أتفقنا أن أتسلل قبله الى بغداد ، وأعتمد على حالي لمدة أيام لحين وصوله الى بغداد وحددنا نقطة اللقاء الاول في موقف الباص ” حافلات النقل ” بحي الأعظمية بجانب سينما الأعظمية والتي تحولت فيما بعد الى دائرة مسرح السلام ، وحددنا أن يكون يوم الجمعة الواحدة ظهراً وأن يكون الانتظار لا يتجاوز خمسة دقائق وأن لم يتم يعاد في يوم الجمعة التي تليه ، وأن لم يتم تلغى كل المواعيد وتلغى الاتفاقات وأن لانعرف بعضنا ولم نلتقي سابقاً ، وفعلاً لم نلتقي لانه في اللحظات الأخيرة منع من التسلل لتوارد أطراف حديث الى قيادة الحزب وقيادة التنظيم في الجبل عن حملة كبيرة في بغداد ومحافظة ديالى ضد تنظيمات وأوكار الشيوعيين ، والتي مرتبطة بعملنا وتحركنا الجديد ، أدت تلك الهجمة من قبل أجهزة السلطة الى تحطيم أركان التنظيم بالكامل ، بدأت أبحث عن مآوى حتى يأويني من ليل بغداد الموحش ، فلم أجده الا على رصيف مرآب النهضة محشوراً بين مئات من جنود الحرب ذاهبين الى أتونها الحارقة وويلاتها المجهولة ، وحتى البيوت التي أختارته ربما ستأويني سدت أمامي فلم يبقى أمامي الا البحث عن منافذ لم تكن في الحسبان من أجل تأمين ليلة أمنة بعيده عن الكوابيس والمخاطر الجدية التي تحيط بي من كل جانب وركن ، في ظهيرة بغدادية من نهاية شهر شباط ١٩٨٦ والشمس تسدل ذيولها بسطوع على أرصفة الشوارع ، حاولت يائساً في الاتصال بالدكتور كريم عبد الرحمن دبش من سكنة مدينة الحرية عبر تلفون البيت الأرضي فتفاجأ بمكالمتي ، وكان التردد والخوف واضحاً من خلال نبرات صوته وصداها هل أنا هو فعلاً ” علي الجبلي ” الاسم الحزبي لي في مطلع الثمانينات في بغداد ، لقد مرت سنوات طويلة على غيابه وتقاذفته الدعايات بين الموت وقسم الاعدامات في بناية أبي غريب وعلى قمم الجبال وبين عواصم المدن ” دمشق ، طهران ”  في الختام أستجاب الدكتور كريم عبد الرحمن دبش الى تأكيداتي هو أنا بعينه فحددنا موعداً سريعاً لرغبتي الملحة في منطقة ” باب الدروازة ” بمدينة الكاظمية ، عندما وصل الى المكان حاملاً تحت ذراعيه جريدة الجمهورية الحكومية كنت جالساً في ركن مزوي بمقهى شعبي أراقب المشهد عبر الواجهة الزجاجية للمقهى ربما هناك من يتابعنا أو يرصد لحظات لقاءنا وبعد أن شعرت بتململه من طول الانتظار والذي لم يتجاوز الأ دقائق معدودة خرجت له فتصافحنا بحرارة فأطمئن أكثر عندما رآني مبتسماً بمظهر يوحي له بالأطمئنان أخذتنا حرارة الأحاديث تحت حرارة أشعة الشمس المتسلطة على رصيف الشوارع الى العبور الى حي الأعظمية عبر جسر الأئمة فمررنا بجانب منارات أبي حنيفة النعمان الى كورنيش الأعظمية عبر أزقة بيوتها القديمة . عادتني تلك اللحظات الى سنوات مضت عندما كنت طالباً في الآداب في التردد والعلاقة مع  تلك الأماكن ” مكتبة الاعظمية ، كورنيش الأعظمية ” وبيت أستاذنا المرحوم محمد يونس الساعدي عندما شكلنا وفد من طلبته في الآداب جامعة بغداد لزيارته بعد أن تعرض لأزمة صحية أقعدته لأيام في البيت ، وبسبب ظروفي الصعبة والخطورة المحيقة بي أن أرافقه الى بيتهم لقضاء ليلة هادئة من ليالي الخوف ، فذهبنا الى بيتهم في منطقة الحرية وتعرفت على أخيه راضي الطالب في جامعة بغداد ، ودارت بيننا أحاديث طويلة ولساعة متأخرة من الليل فركنا الى النوم بنفس غرفة راضي التي يطل شباكها على الشارع وبقي راضي يهمس بأحاديث العاشق الولهان بشوق حبيبته في التلفون مع خطيبته ، زميلته في كلية الأدارة والاقتصاد ، وأنا بين إيماءة النوم واليقظة وما بينها تعالت الأصوات الى سمعي بصراخ ينذر بوقع شيء خطير ، لم أعرف من أين هبطت عليه رباطة الجأش والهدوء الغريب وأنا السياسي المطارد والمختفي من عيون السلطات بمثل هكذا مواقف ، كان الأخ الصغير للدكتور كريم وراضي هاوي طيور ” حمام ” ومرتب لهم برج على السطح وحاولوا بعض منافسيه في تلك الليلة التسلق الى السطح وسرقتهن فأنكشف أمرهم قبل تنفيذ الجريمة وحدث ما حدث ، كنت معتقداً أنا المستهدف في ظل وضعي المضطرب . في الصباح تحول ما وقع الى مزحة وأستغراب من تلك المصادفة الرهيبة . بعد ساعات خرجت من بيتهم يائساً للبحث عن شبر في أرض العراق الواسعة لتآويني ساعات من ليل مخيف .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com