مجتمع

الأسيرة الفلسطينية إسراء جعابيص: كل شيء صعب في المعتقل والحل هو استرداد الحرية

بيدر ميديا.."

الأسيرة الفلسطينية إسراء جعابيص: كل شيء صعب في المعتقل والحل هو استرداد الحرية

حاورها من معتقل الدامون: عبد الحميد صيام

 

من أكثر القصص مأساوية وألما حكاية الفتاة إسراء جعابيص، بنت جبل المكبر القريب من القدس. حكايتها توجع القلب وتفتح جروحا عميقة على مدى الظلم الذي لحق بها وبعائلتها من دون أن تأخذ حكايتها الاهتمام الذي تستحق. وهي تقبع الآن في زنزانة بسجن الدامون مع 32 إمرأة أخرى بمن فيهن ثلاث قاصرات.
ولأن إسراء تحفظت في رواية تفاصيل الحادث يوم 11 تشرين الأول/أكتوبر 2015 حتى لا يستخدم ما تقوله ضدها، حاولت جمع تفاصيل القصة من والديها أبو جميل وأم جميل، وأختها منى ومحامي الأسرى والمعتقلين الذي رافقني خلال الزيارة لبيت إسراء في جبل المكبر قرب القدس.
لقد أثير حول عملية حرقها كثير من الروايات الغريبة والتي تحاول أن تجعل منها أسطورة وبطلة خارقة للعادة، لكن بطولتها الحقيقية في بساطتها وصدقها وعفويتها وحبها للأطفال لأنها أم عادية وتحب طفلها معتصم. وقد تم ترتيب زيارتي لبيت والدي إسراء مع اتصال هاتفي محدود يمنح للأسرى مرة في الأسبوع بحيث يتم الاتصال على هاتف أرضي فقط موافق عليه من سلطات السجون.
اقتصر حديثي مع إسراء حول حياتها في المعتقل بعد الحادث لا عن الحادث نفسه قائلة: أما حكاية قاروة الغاز التي اتهمتها قوات الاحتلال بالعمل على تفجيرها فسنأخذ القصة من أختها منى وكذلك ما يتعلق بحياة إسراء قبل الحادث.
كانت إسراء تدرس في الجامعة (الكلية الأهلية في بيت حنينا) وكانت تحب أن تضفي روح المرح على الأطفال ويسمونها «بابا نويل» الذي يوزع الهدايا، حيث كانت توزع الهدايا على ظهرها للأطفال. كانت تقوم بدور المهرج وتسمي نفسها «سوسو المهرج» وتقوم بفعاليات في المدارس والمستشفيات.
وكانت إسراء تقوم بأعمال خيرية وتطوعية كثيرة وتتقمص دور المهرج لإسعاد الأطفال وكل ذلك على نفقتها الخاصة. كونت فرقة مع طلاب الجامعة للأعمال التطوعية وكانوا يجمعون تبرعات يقدمونها لتغطية رسوم طلاب لا يتمكنون من ذلك. وكانوا يشترون بالتبرعات أدوات وأثاثا للناس الفقراء ويتركونها أمام بيوتهم بدون أي توقيع أو إشارة للمتبرعين.
كانت إسراء قد اكترت بيتا في القدس وتريد أن تنتقل إليه من أريحا. وكانت تحمل أغراض البيت في سيارة السوبارو القديمة. وفي ذلك اليوم 11 تشرين الأول/أكتوبر 2015 كانت تنقل أدوات المطبخ بما في ذلك قارورة غاز فارغة.
الحادث حصل قبل حاجز «زعيّم» بـ 1300 متر. تعطلت سيارتها ووقفت على جانب الطريق. الطريق مخصص للحافلات والسيارات العمومية وسيارات الإسعاف وليس للسيارات الخاصة. اضطرت إيقافها على هذا المسلك. جاء شرطي (إسرائيلي) كان مارا في سيارته، توقف قربها وطلب منها أن تفتح الشباك ليكلمها. قالت له الشباك لا يفتح، وقالت له أكاد أختنق من رائحة تنطلق من داخل السيارة. طلب منها مرة ثانية أن تفتح السيارة وهي لا تستطيع وقالت أكاد أختنق. حاولت الخروج بعد أن تمكنت من فتح الباب، لكن الشرطي رمى بها داخل السيارة وأطبق الباب على يدها الشمال فبقي نصف يدها في الخارج ونصفها في الداخل وفجأة اشتعلت النار من داخل تابلو السيارة وأكياس الهواء دون أن يكون أي مسبب خارجي للحريق. تفاقمت النيران. لم يكن هناك إطلاق نار. لم يكن هناك جنود. الضحية الوحيدة كانت إسراء. كانت تحمل أدوات المطبخ. لم تنفجر قارورة الغاز كما ادعى الصهاينة. والنار آتية من مقدمة السيارة لا من خلفها. والسيارة لم تنفجر، والزجاج ظل سليما.
في المستشفى قيدوا يديها ورجليها وقد أعدوا السيناريو تماما. فقد كان الحكم قد صدر ضدها. كانت تحس بأصابعها تماما وعندما كانت تريد أن تحرك شيئا ما كانت تستخدم أصابعها. وعندما أرادوا بتر الأصابع قالوا لها إنها عملية بتر طرف بسيط من الأصابع. وعندما صحت من التخدير كانت أصابعها ملفوفة بالشاش الأبيض. فاكتشفت أن بتر الأصابع كان شبه كامل. تصور أنهم أحضروا لها إمرأة ذات أصابع جميلة ومزينة بالطلاء الأحمر وسألت إسراء ما رأيك بأصابعي فقالت لها إسراء جميلة جدا. فقالت لها: «أنت ما عندك أصابع». فقالت لها بل أنا عندي أصابع. فحاولت النظر إلى أصابعها لكن كانت مربطة بالسرير. فقالت لها المجندة: «تستأهلين بتر أصابعك».
بقيت ثلاثة شهور وعشرة أيام، ثم نقلوها إلى سجن الرملة الذي يسميه الأسرى «المسلخ». إسراء تعاني من الإهمال الطبي مثلها مثل الآلاف من أبناء وبنات هذا الشعب المناضل الذين يعانون من الإهمال الطبي الذي أودى بحياة ما يزيد عن 280 أسيرا.
الحوار من الزنزانة فقد اتصلت إسراء بوالديها وأختها بعد ترتيب مسبق لأكون في البيت ساعة الاتصال. وهنا نص الحوار.

○ أحب أن أسمع رواية ما حدث منك مباشرة فقد أثير كثير من اللغط حول حقيقة ما جرى يوم 11 تشرين الأول/أكتوبر 2015.
• نحن نتحدث عبر هواتف مراقبة تماما. وسأظهر في المحكمة يوم عشرين من الشهر الحالي وقد أتطرق لكثير من التفاصيل. الآن من الصعب أن أذكر بعض الأمور والتي قد تستخدم ضدي.
○من البداية، هل تأخرت سلطات الاحتلال في إطفاء الحريق؟
• ليسوا هم من أطفأ الحريق. الذي أطفأ الحريق شاب كان في حافلة خلفي. وهو الذي ساعدني في الخروج من السيارة الملتهبة. ما بدر منهم هو رفع السلاح علي. هددوني باستخدام السلاح. صرخت في وجوههم. قال أحدهم: إرمي السكين. فقلت لهم: «بلا هبل (غباء)». أنا أحترق فكيف يمكنني أن أمسك بيدي السكين؟ عندئذ أمرهم الضابط بإنزال السلاح. لم أستطع حمل جسمي. ارتميت على الأرض، وجسدي يحترق.
○ كيف كانت معاملتهم لك عندما خرجت من السيارة وأنت تحترقين؟
• أنت تعيد لي ذكرياتي المريرة التي حدثت قبل سنين، وهذا يترك أثرا نفسيا عندي.
○ أنا أريد أن أنقل آلامك وأحاسيسك كي تصل إلى الناس وتنتقل مشاعرك وآلامك للجمهور العريض في الوطن العربي. كيف تعاملوا معك بعد إخراجك من السيارة المشتعلة؟
• الحقيقة أن معاملتهم لي كانت في منتهى الحقارة. تمت تعريتي وتصويري وأنا أحترق والناس حولي. ونفس الشاب الذي أنقذني خلع جاكيته وغطاني به فاعتدوا عليه وضربوه وطلبوا منه الرجوع. حتى المسعف في سيارة الإسعاف كان يشتمني بكلمات بذيئة.
○ هل فقدت وعيك في سيارة الإسعاف؟
• لا. لم أفقد وعيي في سيارة الإسعاف. في مستشفى عين كارم فقدت الإحساس بالوقت واختلطت علي الأمور ولم أعرف أين أنا ولم أعرف الدنيا كانت ليلا أم نهارا.
○ أين كانت الحروق في جسدك؟
• الحروق كانت متعددة وهناك ثلاث درجات منها كلها من منتصف الظهر وفوق. الجزء الأسفل من جسمي تغيرت ألوانه وتعرض جلدي لعمليات مختلفة لأنهم قصوا أجزاء منه للزراعة في أجزاء أخرى.
○ وماذا عن العمليات التي تمت أو أنجزت؟
• عملوا لي عمليات بسيطة في ظهري وأكتافي ويدي اليمنى وبتروا أصابعي. كانت يداي سليمتين، ولم يكن هناك خطورة على يديّ وأصابعي. ما بترت الأصابع في وقت الحادث. رايتها وأنا في الشارع مصابة بالحروق لكن ليس لدرجة تتطلب البتر. أؤكد أنني رأيتها سليمة. وأؤكد أن بتر أصابعي كان متعمدا. لكن عندما تكون في مستشفى إسرائيلي يثبتون روايتهم.
○ هل تستطيعين الآن أن تستخدمي أصابعك؟
• عمليا أصابع يدي اليمين من تحت البتر ملتصقة ببعضها. وأصابع يدي اليسار أول إصبعين منفصلان وهو ما يساعدني على أن أمسك الهاتف وأتكلم معك. والثلاثة الأخرى في اليسار ملتصقة بمفصل واحد من تحت.
○ وماذا عن الوجه؟
• الحروق بالوجه كاملة درجة أولى وثانية وثالثة. نصف الوجه فيه حروق بسيطة من جهة ومن جهة حروق بليغة درجة ثانية وثالثة.
○ على أي أساس تمت محاكمتك وإصدار حكم بالسجن لمدة 11 عاما؟
• في المحاكمة أخذوا بكلام الشرطي الذي غير أقواله واتهمني بما لم أقم به «لمن أشكو والقاضي غريمي». ألبسوني تهمة أنا بريئة منها تماما.
○ وماذا عن حياتك في الأسر؟ كيف تتدبرين أمورك من يوم ليوم؟
• بالنسبة لحياتي في المعتقل فكل شيء صعب بدءا من الحمّام. ليس في المعتقل أي نوع من الخصوصية. فالحمام للنساء خارجي، ولو حدث مع أسيرة طارئ في الليل لا تستطيع أن تصل الحمام. لا أستطيع أن أخرج للتعرض للشمس وخاصة أنني محجبة ولا أريد أن أنكشف أمام الجنود والجنديات، ما أدى إلى انتشار الفطريات على جسدي. وضعت كاميرات منذ 2018 في السجون ألغت أي نوع من الخصوصية. أما بالنسبة للمساعدة فصديقتي في المهجع، عائشة الأفغاني، هي التي تقدم لي كل العون من بين الـ32 أسيرة. تشرفت بالتعرف عليهن.
○ كيف تتعاملن مع بعضكن البعض داخل المعتقل؟
• استطعنا أن نتأقلم مع الظروف داخل السجن. الأسيرات القديمات تأقلمن مع الوضع أكثر وقدمن لنا المساعدة وخاصة لبنت مثلي تواجه صعوبة في حياتها اليومية. لكن الصعوبة عندما تصل قاصرات. وقد وصل أخيرا ثلاث قاصرات. واحدة منهن لا تستطيع أن تنظر إلي أو تتحدث معي. وانا أتفهم رد فعلها كأسيرة جديدة. لكن بشكل عام أهم شيء نعمة العقل، ولو لا العقل لذهبت الروح وذهب الجسد.
○ هل حاولت الاستفادة من ظروف الاعتقال بالكتابة أو الرسم أو الإبداع مثل كثير من السجناء الذين أنتجوا ما يسمى «أدب السجون».
• نحن نموت ولكي نحيى في السجن، نتحدى الظروف. كثير من الأسرى كتبوا أوجاعهم ومعاناتهم سواء بإنتاج الأدب أو الرسم، مثل الفنان خالد حوراني، أسير وفنان تشكيلي وعبر عن معاناة الأسرى من خلال الرسم. الظروف ساعدتني في صقل كينونتي. أخرت إصداراتي كي تنضج أكثر. كتبت عن الإهمال الطبي، ونصوصا أدبية وقصائد شعر ورسومات فنية وستخرج في كتاب قريبا تحت عنوان «موجوعة» خلال كانون الأول/ديسمبر.
○ قضية الإهمال الطبي قضية كبيرة داخل السجون الإسرائيلية. أنت شخصيا عانيت من هذه الظاهرة وما زلت تنتظرين عددا من العمليات الجراحية المهمة. حدثيني عن هذه الظاهرة.
• أنا بحاجة إلى ثماني عمليات والباقي عمليات تجميلية، أهمها عمليات فصل الأصابع ثم عمليات في الأنف والفم. هناك كتلة داخل الفم لازم أستأصلها. هناك مشكلة في الأذن. المخرج من هذا المأزق أن أسترد حريتي. لا أمل منهم في القيام بهذه العمليات. لا أنتظر منهم شيئا. ما دمنا نواجههم هنا في الأسر فالعلاج غير متاح، وهذه مشكلة تشمل كل الأسرى.
○ هل هناك زيارات منتظمة لابنك معتصم؟
• هو يحمل هوية ضفة غربية تبعا لوالده. وكانت زياراته نادرة عامي 2015 و 2016. آخر مرة ضممت ابني معتصم عام 2016 في سجن شارون. كانوا يؤخرون زياراته كثيرا. لكنه حاليا يزورني بانتظام ويرفع من معنوياتي هو ووالداي. باقي لي من المحكومية ثلاث سنوات ونصف ولكن أشعر أنها ثلاث دقائق ونصف وستمر بسرعة. وأقول أخيرا التضامن لا يكفي، يجب أن يصل صوتنا خارج أسوار السجون والمعتقلات.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com