ثقافة

الجرح الذي حوّل «ولّادة» إلى رماد.

بيدر ميديا.."

الجرح الذي حوّل «ولّادة» إلى رماد

واسيني الأعرج

 

في قصص الحب العالمية هناك لحظات حاسمة تستطيع أن تدفع بهذا الحب إلى الأمام، أو تقتله وتحوله إلى رماد. لا يتفطن لها العاشقان إلا متأخرين، مما يجعل التجربة كلها تذهب مع الريح، لأن المحب عندما يصل إلى درجات العشق العليا يصبح هشاً مثل النور، أي شيء يمكن أن يخدشه ويحرفه عن مساره، بل ويحرقه. كل حواسه تزداد حدة؛ السمع يتسع، فيصغي لأدق الذبذبات التي تحدث من حوله، بما في ذلك رفيف الفراشات، والنظر يرى كل التفاصيل، حتى الصغير منها التي لم ينتبه لها من قبل إذ كانت تمر عادية في الخلفية. حاسة الشم تلتقط كل شيء حتى أبسطه، يفرق العاشق بين مختلف العطور، الأصيلة في حبيبته والطارئة منها. اليد والأصابع والكف تتحسس المسطحات التي تعود عليها والنتوءات الصغيرة. لن يصبح الكلام عادياً، فاللغة ترتقي وتنزل بحسب الحالات والوضعيات والحالات. كل كلمة تغادر مكانها ونظامها تصبح مدعاة للتساؤل والتأمل: ماذا تعني الكلمة؟ لماذا غير سياق الجملة؟ ليس الكلام الذي سمعه من قبل؟ لهذا تتسع الحساسيات عندما تتغير الأشياء وتدخل في نظام جديد غير معهود.
الحب هو استيقاظ الحواس كلها دفعة واحدة، ما يجعل السيطرة عليها مستحيلة. عندما يختل النظام تحتل الشكوك التجربة العشقية، فتدفع بها نحو الهاوية وتسممها. الجراحات تستمر زمناً طويلاً وربما إلى آخر العمر، لأن المحب يمنح كل شيء بلا حساب حتى ولو ظلت حياته معلقة على منقار عفريت، ويمكن أن يتخفى وراء ذلك الحب، الموت. العاشق يقبل بالفناء في الآخر والنفي الكلي فيه، لهذا عندما يجرح بقسوة في الأعماق يتشقق كل شيء مثل الزجاج الذي يستحيل رتقه، فجرح العاشق لا يراه إلا هو ولا أحد غيره. تستيقظ الحواس كلها بشكل سلبي، وتدخل في دوامة التخييل: ماذا حدث يا ترى؟ ما الذي يبرر تلك «الخيانة»؟ الذي باعك اليوم وأنت تمنحه كل شيء، ما الذي يمنعه من بيعك إذاً؟ وتنكسر الأيقونة المقدسة، وتجبيرها يصبح صعباً، لأنها تغفو وتعود إلى الظهور من خلال سلسلة الحواس المتيقظة التي بها ملامس وروائح وعطور الآخر ولغته وحنينه. ويؤدي هذا الانكسار على الأمد القريب أو المتوسط، إلى النهايات المفجعة، عندما تصبح الحواس مثقلة بما لا يمكن تحمله.
ما أصاب «ولّادة» بنت المستكفي، الشاعرة الحساسة والرقيقة، العاشقة بجنون والمعشوقة، هو هذا بالضبط، وهي واحدة من أجمل قصص الحب في الأندلس. كانت ولادة مثقفة كبيرة وسيدة مجتمع، أصيبت بشاعر دافئ وحساس، «ابن زيدون»، فانتمت إليه كلياً. أشعارها كانت وسيلتها لإيصال حرائقها العاطفية لحبيبها. قال عنها المؤرخ الأندلسي ابن بسام، في كتابه «الذخيرة»: «كانت في نساء أهل زمانها واحدة من أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، كانت درة يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها». كانت عاشقة كلية، أي أنها حينما تدخل تجربة عشقية لا تتردد في وضع حياتها في الميزان. هذا النوع من الحب «الأعمى» شديد التطرف، العقل فيه يكاد يكون مغيباً. ردة فعله تكون عادة في مستوى خيبته. لهذا، يوم قررت «ولادة» المغادرة، كان ذلك بلا رجعة.
القصة بين «ولادة بنت المستكفي»، آخر الخلفاء الأمويين في القرن الحادي عشر، و»ابن زيدون» بدأت بالإعجاب الشعري المتبادل في مجلس «ولادة» في قرطبة الذي كان قبلة للشعراء ومبدعي ذلك الزمن، ومنهم «ابن زيدون المخزومي»، الذي كان حضوره فارقاً بين بقية الحضور الشعري، وهو ما جعل «ولادة» تميل إليه. كان يعني لها الاستثناء. لم تخفِ «ولادة» حبها وشعورها العاطفي الذي نما بسرعة، وكانت الرسائل وسيطهما قبل أن يلتقيا في حديقة قرطبة، في عالم سياسي غير مستقر من الناحية التحولات الخطيرة التي كانت تتهدد سكينة المدينة، لكن ذلك لم يمنع القلبين من أن يبثا أشواقهما ولواعجهما لبعضهما. فنشأت قصة حب جارفة، أشعلت المجالس الأدبية حينها بسجالات شعرية وأدبية رائعة، ولا تزال أشعارهما تشهد على العشق الملتهب الذي جمعهما في واحدة من أجمل مدن الأندلس، قرطبة. عيون الحاسدين المحيطين بهم، لا تغفو. كان ابن زيدون الشاعر الأنيق والجميل، معشوقاً من نساء أخريات. في مرة من المرات، عرفت بسر علاقة جمعته بجاريتها، فكان الجرح عميقاً. بدلها بأخرى، «جارية»، جاريتها الخاصة. فكان ذلك ضربة قاصمة للظهر. ولم تكن «ولادة» في حاجة للحساد الذين أوصلوا لها الخبر. فقد عرفت الحقيقة بنفسها من فم الجارية نفسها التي لا أحد يتحدث عن مصيرها، ولا يستبعد أن تكون قد قتلت لأن الحقد الذي أعقب الحادثة كان مظلماً. قالت بحزن شفاف:
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا لم تهو جاريتي ولم تتخـــــير
وتركـــــت غصنا مثمـرا بجمـاله وجنحت للغصن الذي لم يثمر
إخفاء الحقيقة القاسية هو جزء بنيوي من قصص الحب. فكرة أن غضبها من «ابن زيدون» كان بسبب نقده لبعض أبياتها الشعرية، لا يستقيم ولا يقنع أحداً. نقد شعري لا يمكنه أن ينتهي بحالة حقد كالتي نشأت بينهما. لم يكن الوزير «ابن عبدوس» العاشق لولادة منذ زمن بعيد، في حاجة لهذا النقد لتفجير العلاقة بين العاشقين. كان معروفاً أنه كان يحبها ولا يستبعد أن يكون أول من أثار انتباهها لعلاقات ابن زيدون السرية، فراقبت الأمر بنفسها. رسالته التي كتبها لها فيها العديد من الغمزات بهذا الاتجاه. بهذه الوشاية كان يقدم نفسه بديلاً لـ»خائن» لا يستحقها (ابن زيدون). فكتب «ابن زيدون» رسالة احتقارية للوزير، نشرها في دائرة المثقفين الواسعة، في قرطبة. بهذا الفعل سفّه «ابن زيدون» مؤسسة الحكم التي كان يديرها والدها «المستكفي»، الضعيف سياسياً الذي انتهى حكمه، وحل محله عصر ملوك الطوائف. حتى عندما أراد «ابن زيدون» أن يبرر موقفه، انتهى به الأمر إلى السجن. صرخ وكتب لها كثيراً، لكن نداءاته ظلت ردّاً؛ الجرح كان عميقاً. هل نغفر عندما نقرر ذلك أم عندما نريد جرحاً لا يندمل، توقظه الحواس في كل لحظة؟ وظل داخل الحنين حتى وفاته:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا
وللنسيم اعتــلال في أصائله كأنمــــا رق لــــي فاعتــــل إشــــفاقا
عندما عفا عنه الخليفة لكبر سنه، وكتب نونيته المعروفة «أضحى التنائي»، لم تعر «ولاّدة» شكواه أي انتباه، حتى وهي في عمر الثمانين، فقد كان الجرح عميقاً. بهذا الجرح القاتل، انتهت أيقونة الحب الأندلسي في العزلة والموت. ماتت ولادة وفي قلبها غصّة مضمرة ضد معشوق منحته كل شيء، وخانها لمدة طويلة مع جاريتها التي لا تملك أي شيء يؤهلها لتصبح غريمتها. نقرأ القصة اليوم فتتحول القصيدة إلى مرايا متقعرة نرى فيها أنفسنا لندرك كم أن الإنسان ظل هو هو في داخله، وفي علاقته بحواسه، لم تغيره الأزمة والقرون. نفس الأحاسيس والضغائن والجراحات، ما تزال تشتغل بالطريقة نفسها. لكن ماذا لو استمرت العلاقة وانتهت إلى زواج، هل كنا سنعرف قصتهما بالقوة التي نتداولها اليوم؟

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com