مجتمع

التباسات في فهم القطيعة ونبذ التبعية.

بيدر ميديا.."

التباسات في فهم القطيعة ونبذ التبعية

نادية هناوي

 

غريب جداً أن يربط بعضهم بين البحث عن تحقيق الهوية وتأكيد الخصوصية في أي ميدان، وبين مقاطعة الآخر الغربي ونبذ منجزاته الفكرية والعلمية بدعوى رفض التبعية، ناسيا أو متناسيا حقيقة أن أية منجزات وكشوفات واكتشافات ــ في أية بقعة من بقاع العالم ــ هي نتاج العقل الإنساني، وقد قصد مبتكروها منها خدمة الإنسانية جمعاء، وبحسب أسبقية هذا البلد أو ذاك في ميادين العلم والتحضر والتقدم الفكري والتقني. ولا عيب أن تأخذ الأمم المتخلفة عن ركب التحضر والتقدم وسائلها في النهوض والانبعاث من الأمم التي سبقتها في ذلك. بيد أن ما بات بديهيا أن ثمة فرقاً بين ما يتحقق من منجزات علمية وبين استغلال هذه المنجزات من لدن القوى الحاكمة غربيا أو شرقيا للتسلط على الشعوب وقهر إراداتها.
ونعلم تماما أن الشعوب المقهورة والمحكومة بنير الاستعمار وظّفت شعارات كان الغرب نفسه قد صاغها للانعتاق والتحرر؛ فالمساواة والعدالة والأخاء هي مبادئ الثورة الفرنسية التي ألهمت الشعوب المسحوقة للاندفاع في نضالاتها وحركات تحررها حتى حققت إرادتها في الاستقلال والتحرر من تبعية الاستعمار بكل أشكاله. وأهم المبادئ الحقوقية التي رفعتها هذه الشعوب هو مبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها وهو مبدأ صاغه الفكر السياسي الغربي.
إن دعوات القطيعة مع ايجابيات الآخر أو وسائله وطرائقه وكشوفاته تحمل قصدية غلق الأبواب أمام امتلاكنا الوسائل التي تكفل لنا النهوض والتقدم والصيرورة والتي كان الآخر قد امتلكها وحققت له التفوق وأدامته. وتذكرنا مثل هذه الدعوات بذاك الجاهل الذي دعا إلى مقاطعة ركوب وسائل النقل الحديثة ــ الطائرة والسيارة والقطار ــ وكلها مخترعات غربية، ونضيف إليها اليوم كل الوسائل التقنية المتقدمة التي هي عماد حياتنا المعاصرة.
إن ما دفعني لطرح هذا الأمر ــ الذي أراه صار من الماضي ــ ما واجهني به أحد المتداخلين في محاضرة لي من إحدى المنصات، وفيها دعوتُ إلى أقلمة السرد العربي ليكون إضافة إلى علم السرد العالمي؛ فكان هذا المتداخل أن لوح بقفاز التبعية للمناهج الغربية مما يتناقض ودعوتي إلى بعث خصوصية سردنا العربي من خلال التلاقح البناء مع منجزات علم السرد ما بعد الكلاسيكي. وهو ما تغاضى المتداخل عن مناقشتي فيه، وراح يسحب النقاش من إطاره العلمي إلى بعد سياسي، متحدثا عن أمريكا والعراق والسرديات الكبرى والواقع الدولي العالمي، منكرا خصوصية مصطلحات النقد ومنها مصطلح علم السرد والتي جاءت إلينا من حاضنة غربية، وناسيا أو متناسيا أن ما حققته ثقافتنا المعاصرة من تطورات فكرية إنما جاء من جراء الإفادة من الكشوفات النظرية والمنهجية الغربية كما في الثورة الثقافية التي أحدثها طه حسين باعتماده منهج الشك الديكارتي.
إن البحث عن الهوية لا يعني القطيعة مع المنجز الفكري الإنساني أينما حصل وكيف كان، وها هو واقعنا المعاصر يسير بوتيرة أسرع من أي وقت مضى وبتعقدات والتفافات وتعرجات، تفرض علينا ألا نتجاهلها أو ننساها أو نتقاطع معها. ومن يتجاهلها أو ينساها فإنما يحكم على نفسه بالتخلف والرجعية، ضائعا في متاهة تميعت فيها ــ بسبب المد العولمي ــ كل المركزيات النخبوية والصلبة، فاضمحلت الحدود وتحوّل العالم إلى كليّة بلا نهائية، ولم يعد متاحا إثبات الهوية وصناعة الذات والتحصن من التلاشي والضياع سوى بالتفاعل البنّاء والمواكبة الجادة بعيدا عن القطيعة وتحررا من التبعية ومشاعر الدونية.
وتشير التوقعات المستقبلية للعولمة أن الإنسانية سائرة باتجاه اللاعودة حيث الكل شركاء في المصير بلا حدود فاصلة ولا قطبية أعلى/ متفوق وأسفل/ متخلف، وإنما هو التهجين والمثاقفة والاندماج والانفتاح والتجسير الذي به نكفل لثقافتنا الارتقاء في سلم الحضارة الإنسانية.
ولا يعني نبذ التبعية القطيعة الابستمولوجية والثقافية، وإنما المغامرة في مواكبة المستجدات العالمية تطويرا لأنفسنا. ولعلنا نحقق بالثقافة ما لا نستطيع تحقيقه بالسياسة والاقتصاد. ومعلوم أن تطوير الذات لا يتحقق، ما لم تسع هي إليه بوعي يعطي لها خصوصية معرفية، متخلصة من تبعات ما يسميه نيتشه (بروسنتيما) أي النشاز ما بين التطرف في النظر إلى الآخر غازيا استعماريا يهدد أصالتنا، وبين النظر إليه عملاقا مرعبا ليس لنا سوى الامتثال لثقافته والانحياز إليها.
ولا يخفى أن النقد الأدبي بمناهجه ونظرياته ليس آلة صماء، بل هو كائن حي ذو وجه وقفا، ولا بد من النظر إليه بالاثنين معا، فلا نكتفي بالوجه ونتجاهل القفا، مما نجده في مواقف النقاد الأصوليين أو بالعكس نضخّم القفا فلا يكون بوسعنا رؤية الوجه، مما نجده في كتابات النقاد الاتباعيين المصابين بعقدة الخواجة.
وباستعادة الحال التي كانت عليها النهضة الأدبية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين سنعرف كيف كان للمثقفين وقتذاك دور طليعي، فحرصوا على الأخذ من معارف الغرب وأفادوا منها في دراسة التراث العربي الإسلامي كما طوروا آليات التفكير النهضوي، خذ مثلا فرح انطون في مشروعه الاشتراكي العقلاني.
إن نبذ التبعية هو في الحقيقة نبذ لفكرة الوصاية ــ أيا كان المتبوع عربيا أو غربيا ــ من خلال إعادة النظر في الثوابت وفهم التحولات مع استقراء آفاق الوعي بالهوية، بغية المساهمة في صناعة ثقافة عالمية جديدة. ولعل ما تشهده الحياة الراهنة من ثورة عولمية اتصالية دائمة، هو الذي يجعل الفرصة متاحة للشرقيين عامة والعرب خاصة في ممارسة تدويل وجودهم ضمن فضاء الثقافات العالمية. وهو ما فعله اليابانيون الذين فضلّوا خيار الانفتاح على خيار العزلة والقطيعة، فاستوعبوا قيم الغرب وهضموها بشكل ساعد في توكيد الهوية اليابانية.
وحري بالمثقف العربي أن يجعل من نبذ التبعية محفزا له على التشارك والتنافس وليس التخوف والانغلاق، فيكتفي بما تحقق في السابق من منجزات. وقد يتصور بعضهم أحيانا أن في التفاعل مع الآخر بحساسية مفرطة وتوجس حذر، ما يحافظ على الأصالة، بل ذاك كله هو الذي يهدد الأصالة. ومن ثم لا تجد تجاربنا ومشاريعنا طريقا يمكنها من خلاله الإسهام الحضاري العالمي فتضيع فرصة التحاور مع الآخر التي من خلالها قد نقف على سلبياته وقد نكشف ثغرات فكره وقد نضيف إلى منجزاته أو نعترض عليها أو نتنافس معها.
ولا مناص من القول إن نبذ التبعية والتيقظ من الغزو الثقافي شيء والانغلاق على الذات وتمزيق قيمتها بشيزوفرانيا التعالي العلمي والاكتفاء الفكري شيء آخر، يقول الشاعر الأمريكي إميرسون «أن تأكل بقوة لا يعني أن تتحول إلى بقرة». وما نريده هو التفاعل الواعي فلا نستورد منجزات الغرب ونعتاش عليها بعماء استهلاكي وتبعية ودونية كما لا ننغلق على ذواتنا بثبات وتحجر يجعلنا غير قادرين على الأخذ والعطاء.
وإذا كانت الآلية التي عليها يقوم نبذ التبعية دفاعية في رفض الوصاية، فان ذلك لا يكفي لوحده ما لم ترافق هذه الآلية آلية الهجوم بعقلانية وعلمية استفزازا للآخر ودفعا إياه باتجاه التحاور والتوليف والتوفيق تأثرا وتأثيرا. هذا هو الذي يحمينا من التبعية ويضعنا على أعتاب عصر جديد، متفاعلين مع المحيط المعرفي بلا قطيعة ابستمولوجية ولا انكفاء ذاتي أو تخندق نخبوي أفلاطوني يشل الثقافة بدل أن يحييها وقد يجعلها تبدو ببعد واحد فقط.
ومثلما يُفترض بالمثقف العربي أن ينبذ التبعية، فإن من المهم أيضا أن يُدين القطيعة والانغلاق سواء في تحديث التقاليد والخطابات أو في اليقظة من التقوقع بحساسية («نحن» و«هم»/ شرق وغرب) سعيا إلى التفاعل البناء والفعال بطاقة عقلانية تؤمن بالاختلاف والغيرية، وتحترم أيضا الخصوصية. يقول ادوارد سعيد: «الثقافات بالغة التداخل، ومضمون كل منها وتاريخه يتفاعلان تفاعلا بالغا مع غيرهما إلى درجة يمتنع فيها النقاء العنصري لثقافة ما». «المثقف والسلطة»، ص21.
ومحصلة الحساسية المفرطة في نبذ التبعية هي التعصب الذي هو ألد أعداء الفكر الحر والمتطور، لأنه يقتل التفاعل ويمنع الإحساس بالإثارة في اكتشاف الجديد والأصيل كما يعيق التوفيق بين استقبال المعارف الغربية وبين المحافظة على الهوية العربية. وحل هذه المشكلة ليس بالعسير إذا ما تذكر المثقف بوجه عام مسؤوليته العلمية والأخلاقية في البحث عن الحقيقة وبكل ما يستطيع من طاقة وبما يملكه من وسائل، رافضاً التبعية لأية سلطة معرفية.
*كاتبة من العراق

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com