ثقافة

فيلم «البعض يفضلونها ساخنة»: تساؤلات عن قمة الكوميديا والمشاهدين.

بيدر ميديا.."

فيلم «البعض يفضلونها ساخنة»: تساؤلات عن قمة الكوميديا والمشاهدين

زيد خلدون جميل

 

تتغير أذواق المشاهدين في عالم السينما مع الزمن، وبالتالي تضيع أفلام في متاهة النسيان حتى إذا كانت شهيرة في عصرها. ومع ذلك تبقى بعض الأفلام خالدة ومحط اهتمام متابعي الفن السابع، وتعتبر من أعظم الأفلام في تاريخ السينما العالمية، ويدل هذا على أنها ترضي رغبات الأجيال المتعاقبة التي تعتبر من الصفات التي تميز المجتمع ولا تتغير بسهولة. وفي مجال السينما الكوميدية، يعتبر فيلم «البعض يفضلونها ساخنة» Some Like It Hot، الذي عرض عام 1959، الأشهر في تاريخ السينما الكوميدية على الإطلاق بالنسبة للنجاح التجاري، وآراء نقاد السينما حتى الآن. ويعد هذا الفيلم دليلا على قدرة مارلين مونرو Marilyn Monroe على تمثيل الأدوار الفكاهية. كما شكّل الفيلم أول بطولة للممثل توني كيرتس Tony Curtis، والبداية الحقيقية لمسيرة الممثل جاك ليمن Jack Lemmon الذي أصبح في ما بعد أحد علامات السينما الأمريكية.

أحداث الفيلم

تدور أحداث الفيلم في مدينة شيكاغو الأمريكية عام 1929 حيث كان اثنان من الموسيقيين (توني كيرتس وجاك ليمن) الشباب يعملان في فرقة موسيقية تعزف في حانة غير قانونية لمجموعة من الراقصات، لكنهما يتركان عملهما سريعا بسبب غارة تقوم بها الشرطة على تلك الحانة. وأثناء بحثهما على عمل جديد يذهبان إلى مرآب للسيارات لأخذ سيارة تمتلكها صديقة لهما، وإذا بهما يكتشفان أن هذا المرآب في الحقيقة مركز لعصابة إجرامية إيطالية. وهناك يشاهدان هجوما تقوم به عصابة منافسة على عصابة المرآب، وتودي بجميع أفرادها، فيهرب الموسيقيان قبل أن تقضي عليهما العصابة المهاجمة. وللإفلات من مطاردة العصابة يقوم الموسيقيان بالتنكر في ملابس نسائية وينضمان إلى فرقة موسيقية نسائية متجهة بالقطار إلى ولاية فلوريدا للعزف في أحد الفنادق الفخمة هناك. ويلتقي الاثنان بفتاة جميلة (مارلين مونرو) في الفرقة، وبعد مطاردات من قبل العصابة والعديد من المواقف المضحكة تقع الفتاة في غرام أحد الموسيقيين اللذين ينجحان في الهرب معها بسلام.

تحليل الفيلم

كان بيلي وايلدر Billy Wilder، أحد أشهر المخرجين في الولايات المتحدة الأمريكية، أهم علامات الفيلم. وإذا وجد المشاهدون أن أداء توني كيرتس وجاك ليمن رائعا، فقد تفوقت عليهما مارلين مونرو، على الرغم من وجود مشكلة في دورها، ألا وهي كون الشخصية التي مثلتها أصغر منها بعدة سنوات على الأقل، حيث كان واضحا أن الممثلة الكبيرة لم تكن شابة في أوائل العشرينيات، بل امرأة في بداية الثلاثينيات. ومع ذلك، لم يشعر أي من المشاهدين بأي شائبة في الفيلم. وكان تطور الأحداث في الفيلم سلسا، على الرغم من كونها غير منطقية.

المخرج بيلي وايلدر

لم يكن اختيار ثنائي ساخر في الفيلم اعتباطيا، إذ كان اتباعا لخدعة قدمها العديد من الفكاهيين في السينما الأمريكية قبل ذلك، حيث يشكلون ثنائيا متناقضا ويكون أحدهما مهرجا (جاك ليمن في هذا الفيلم) بينما يكون الآخر جديا (توني كيرتس في هذا الفيلم). وأشهر من ألف ثنائيا من هذا النوع «لوريل وهاردي» و»أبوت وكاستيللو» و»دين مارتن وجيري لويس». وتم تصوير الفيلم بالأبيض والأسود، بسبب مساحيق التجميل على وجهي توني كيرتس وجاك ليمن، حيث ظهر الممثلان بشكل بشع بالألوان.
تقول المصادر التاريخية إن من اختار الممثلين كان المخرج بيلي وايلدر، على الرغم من أن الكلمة الأعلى في هذه العملية تقع عادة على عاتق الشركة المنتجة لكونها ممول الفيلم. والسؤال المهم هنا لماذا اختير جاك ليمن وتوني كيرتس لهذا الفيلم، فلم يكن أي منهما نجما بعد، لاسيما جاك ليمن، وكان من الممكن الاعتماد على داني كَي، أو جيري لويس، ولذلك كان الفيلم بحاجة ماسة إلى نجمة شباك حقيقية لدعم الفيلم، وكان الاختيار الأفضل مارلين مونرو، حيث كانت أشهر ممثلة في تلك الفترة والوحيدة القادرة على تمثيل ذلك الدور بالذات، وبذلك أنقذت الفيلم. وتذكر المصادر أن الممثلة اتصلت بالمخرج معربة عن رغبتها في تمثيل الدور، لاسيما أن الاثنين اشتركا في فيلم سابق، لكن دور مارلين مونرو، لم يكن في الواقع سوى دور ثانوي في الفيلم، وهي التي امتازت بكونها الممثلة الرئيسية في أفلامها السابقة، حيث كانت ترفض أن يطغي عليها أي ممثل. ويتساءل المرء عن سبب هذا التنازل من قبلها لمصلحة جاك ليمن وتوني كيرتس، حتى إذا كان اسمها فوق أسماء بقية الممثلين في بداية ونهاية الفيلم، وقد يكون الجواب أن مارلين مونرو كانت قد بدأت تشعر ببداية أفول نجوميتها.

إن الممثل الرئيسي في الفيلم كان توني كيرتس، حيث ظهر في الفيلم أكثر من غيره، وكان الشاب الوسيم الذي حصل على الفتاة الجميلة. وبالتالي كان الفيلم أول بطولة مطلقة لهذا الممثل الذي أصبح في ما بعد ممثلا شهيرا.

من الممكن القول إن الممثل الرئيسي في الفيلم كان توني كيرتس، حيث ظهر في الفيلم أكثر من غيره، وكان الشاب الوسيم الذي حصل على الفتاة الجميلة. وبالتالي كان الفيلم أول بطولة مطلقة لهذا الممثل الذي أصبح في ما بعد ممثلا شهيرا. ولا يعني هذا أن توني كيرتس وجاك ليمن لم يبرعا في الفيلم، حيث تركا بصمتيهما عليه، وأصبح دوريهما نموذجا لأدوارهما في المستقبل، فلم يترك جاك ليمن طريقته في المبالغة في التعبير، واستمر توني كيرتس في تمثيل دور الرجل الوسيم حاد الذكاء. كانت مارلين مونرو مصدر مشاكل أثناء التصوير بسبب إدمانها على الحبوب المسكنة، ما جعلها غير منضبطة في مواعيد حضورها مثيرة غضب الجميع، لاسيما توني كيرتس لأنه مثّل معها في أغلب مشاهدها. ومما زاد الطين بلة تدخل زوج مارلين مونرو، الكاتب الشهير آرثر ميلر، ومدربتها للتمثيل في طريقة إخراج الفيلم وتفاصيل الأحداث، ما أزعج المخرج. لكن المخرج أظهر صبرا غير عادي معها حتى أنه كان مستعدا لإعادة شرح المشهد لها بمختلف الطرق عشرات المرات حتى أنه أبلغ جاك ليمن وتوني كرتس، أن اللقطة التي سيضعها في الفيلم هي تلك التي تبرع فيها مارلين مونرو، وأما تمثيلهما في تلك المشاهد، فليس مهما.
كان الفيلم مقتبسا من فيلم فرنسي عرض عام 1935 وقام المخرج بإعادة كتابة بعض التفاصيل بذكاء، حيث أضاف وجود العصابات الأيطالية لرفع مستوى الإثارة في الفيلم، خاصة أن الجمهور تواق دائما إلى مشاهدة أفلام العصابات. وامتازت موسيقى الفيلم بشكل عام، كونها من موسيقى الجاز.

مقارنة تاريخية

على الرغم من كون أحداث الفيلم خيالية، فبعضها كان مقتبسا من الواقع، فأحداث الفيلم تدور عام 1929 عندما كان إنتاج وبيع وشرب الكحول ممنوعا في الولايات المتحدة. وقد بدأ المنع عام 1920 وألغي عام 1933. ونتيجة لهذا المنع قامت العصابات الإجرامية بتهريب الكحول وتأسيس حانات غير قانونية اختلفت في درجة تعقيدها حيث كان البسيط منها عبارة عن غرفة صغيرة تقدم فيها مشروبات كحولية رخيصة، بينما كانت الفخمة منها كبيرة الحجم وتشمل بيع أغلى أنواع الكحول وفتيات يقدمن رقصات مثيرة على أنغام موسيقى تعزفها فرقة موسيقية. واشتهرت إحدى هذه الحانات بشكل خاص في مدينة نيويورك، حيث كان لديها رجال يراقبون الشوارع المجاورة خشية مداهمة الشرطة، وخدع متقنة تجعلها تبدو كمبنى عادي من الخارج. وقد استندت الحانة في هذا الفيلم إلى تلك الحانة الشهيرة بالذات. لم يكن اختيار موسيقى الجاز في الفيلم اعتباطيا، حيث كانت هذه الموسيقى المفضلة في الحانات غير القانونية لسبب تاريخي، فقد قامت العصابات الإجرامية الإيطالية في ستينيات القرن التاسع عشر بتأسيس حانات ودور للدعارة في مدينة «نيوأورلينز» الأمريكية. وفي نهاية القرن التاسع عشر كذلك ظهرت موسيقى الجاز في أواسط المواطنين ذوي الأصول الافريقية في تلك المدينة، وفي بداية القرن العشرين قامت العصابات الإيطالية بالاتفاق مع عازفي الجاز بالعزف في الحانات ودور الدعارة التي كانت تديرها تلك العصابات.

تثير الشعبية الكبيرة لأفلام العصابات حيرة علماء النفس، وحاول بعضهم تقديم تفسير لهذه الظاهرة. وكان التفسير الأكثر ترجيحا أن المشاهد العادي يتمنى أن يكون في عصابة إجرامية ليفعل ما يشاء ويضرب القوانين، التي تزعجه في حياته، بعرض الحائط ومثيرا الرعب في قلب كل من حوله.

وكانت تلك بداية انطلاق شعبية موسيقى الجاز في مختلف أنحاء الولايات المتحدة نظرا لكونها مناسبة للجو الصاخب الفوضوي في تلك الحانات. وقد ارتبطت موسيقى الجاز منذ تلك الفترة برجال العصابات، وأصبحت موسيقاهم المفضلة في حفلاتهم، وكذلك في حفلات العالم السفلي من المجتمع الأمريكي بشكل عام. ومن الجدير بالذكر أن العصابات الإيطالية استمرت في إدارة حانات غير قانونية بعد السماح ببيع الكحول عام 1933.
كان مشهد قتل العصابة المتمركزة في المرآب من قبل العصابة المنافسة، مقتبسا من حادثة حقيقية شهيرة جدا وقعت عام 1929 في مدينة شيكاغو، حيث هاجم أفراد عصابة «آل كابون» الإيطالية، متنكرين في ملابس الشرطة، مرآبا كانت تتخذه عصابة «جورج موران» الأيرلندية مركزا لها. وكانت نتيجة الهجوم مقتل جميع أفراد العصابة الأيرلندية، باستثناء زعيمها لأنه لم يكن موجودا في المرآب. وقد أطلقت الصحافة الأمريكية على هذه الحادثة اسم «مذبحة يوم القديس فالانتين». وكان هذا الأسم الذي استعمل في الفيلم كذلك.

مارلين مونرو

كانت إضافة عصابة المافيا في الفيلم لمحة ذكية من قبل المخرج، نظرا لإعجاب الجمهور بهذا النوع من الأفلام، الذي بدأ بنجاح باهر عام 1931. وكان هذا النوع من الأفلام في تلك الفترة بداية نجومية ممثلين أصبحوا لاحقا من رموز السينما الأمريكية مثل أدوارد جي روبنسن وهمفري بوغارت وجيمس كاغني. وصاحب ذلك موجة من الأفلام التي امتازت بمشاهدها الإباحية، ولذلك تم سن قوانين يحد من درجة العنف في الأفلام والإيحاءات الجنسية، وغير المألوفة، ما قلل من ظهور هذه المشاهد في الأفلام بشكل واضح حتى نهاية الستينيات عندما عرض فيلم «بوني وكلايد» الشهير وألغيت تلك القوانين، وبذلك فقد خالف فيلم «البعض يفضلونها ساخنة» تلك القوانين بمشاهد القتل العنيف للمافيا في بداية ونهاية الفيلم، وكذلك بظهور الممثلين الرجال في ملابس نسائية، لكن الفيلم لم يتعرض لأي مضايقات أو عقوبات.

أفلام العصابات

تثير الشعبية الكبيرة لأفلام العصابات حيرة علماء النفس، وحاول بعضهم تقديم تفسير لهذه الظاهرة. وكان التفسير الأكثر ترجيحا أن المشاهد العادي يتمنى أن يكون في عصابة إجرامية ليفعل ما يشاء ويضرب القوانين، التي تزعجه في حياته، بعرض الحائط ومثيرا الرعب في قلب كل من حوله. ومن التفسيرات الأخرى أن المشاهد لا يستطيع توقع ما سيحدث في أفلام العصابات لأنهم، أي العصابات، تخالف القوانين والأعراف، ما يزيد من شعور المشاهد بالإثارة.
تنتمي بعض أشهر الأفلام السينمائية إلى ذلك النوع من الأفلام مثل «العراب» و»رفاق طيبون» و»كازينو». وما تزال هذه الأفلام سببا رئيسيا في شهرة بعض أشهر الشخصيات في عالم السينما حاليا مثل المخرج مارتن سكورسيسي» والممثلين هارفي كايتل وروبرت دي نيرو. ومن الجدير بالذكر أن هذه الأفلام سببت موجة من الاحتجاجات ضد روبرت دي نيرو في إيطاليا حيث اتهمه المحتجون بأنه حصل على الشهرة والمال عن طريق تشويه سمعة الإيطاليين في العالم، لكن هذه الاحتجاجات لم تنجح في إجبار الحكومة الإيطالية على تغيير قرارها بمنح الجنسية الإيطالية للممثل الشهير. على الرغم من النجاح الهائل لهذا الفيلم، فإن محاولات اقتباسه كانت مخيبة للآمال، ومنها محاولة السينما المصرية متمثلة في فيلم «أذكياء لكن أغبياء» الذي كان من تمثيل عادل أمام وسمير غانم ومديحة كامل ورشدي أباظة، وعرض عام 1980.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com