مقالات

شيرين فلسطين تكتب تاريخها بنفسها.

بيدر ميديا.."

شيرين فلسطين تكتب تاريخها بنفسها

 هيفاء زنكنة

 

من بين الاسئلة التي نواجهها، ونحن نعيش حقبة تزوير وتضليل سياسي ـ إعلامي مذهل، فضلا عن إزدواجية المعايير، بعد جريمة إغتيال الصحافية الفلسطينية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، تحت أنظار العالم، مع استمرارية حرب أُريد لها ان تكون عالمية، هو كيف تتم عملية تقطير الأحداث المعاصرة لتصبح الخلاصة، ملائمة للمنتصرين أو أصحاب القوة؟ وكيف تُدّرس على هذا الأساس وإن كان من عايشها، من أفراد وحتى شعوب، لايزال على قيد الحياة؟
في عديد الكتابات والنقاشات والآراء المتبادلة اليوم، في حلقات المثقفين العرب، خاصة العراقيين والفلسطينيين، يحضر التاريخ بقوة تنافس الحاضر، بمستوياته من التاريخ الشخصي والعام، وعلى إختلاف مستوياته المتعددة، من كتابة المذكرات إلى البحوث والدراسات، لتنشر أما بشكل كتب أو على صفحات التواصل الاجتماعي. الحاضر، في معظم الحالات تائه بين محاولات فهم التاريخ والأدلجة وإثبات الهوية وتجزئة القضايا. مما ينعكس بقوة على توثيق الحقيقة وجهود إثبات المصداقية.
فلسطينيا، يعتبر التوثيق الآني الفردي والعام والتاريخي المتضمن، أيضا، كتابة اليوميات والمذكرات وتسجيل الشهادات المحكية، أداة مقاومة للسردية الصهيونية المختلقة، ولعل آخرها المُختلق الصهيوني لتغطية جريمة إغتيال شيرين. لذلك نجد اهتماما جديا، يتنامى بشكل متزايد، خاصة في المجالات الأكاديمية، بدراسة التاريخ وتوثيق كل ما يرتبط بفلسطين، بشكل علمي يتوخى المحافظة على المصداقية بمواجهة «الأسطورة» والأكاذيب الصهيونية والتركيز على حفريات «الذاكرة» المصطنعة. ويمتد الاهتمام ليشمل كيفية دراسة وتدريس التاريخ، وهي حقول معرفية تغتني بالبحث والتحليل والمقارنة، والربط الموضوعي بين الأحداث.
عراقيا، لدينا فقر حقيقي في مجال كتابة التاريخ. ينعكس في البحوث والدراسات الأكاديمية كما نراها، بأوضح صورها، في الكتابات المنشورة كأوراق بحثية أو المتداولة في مواقع التواصل الاجتماعي وهي تحمل توقيع « مؤرخ» أو «مفكر». إذ قلما نجد من يكتب عن حدث ما بدون السقوط في فخ الأديولوجية بقوالبها الجاهزة، وانتقائية الحدث حسب الظرف الاجتماعي والسياسي الذي يمر به الشخص/ البلد، وطغيان نفي كل ما لايتماشى مع ما يراد إنتقائه. لتصبح كتابة التاريخ المعاصر، تحديدا، عملية شخصنة تمر عبر مراحل تجميل أو تشويه، كل حسب وجهة نظره وخلفيته السياسية والاجتماعي، والدور الذي تلعبه الذاكرة الشخصية في إضفاء المديح والوطنية أو التشكيك والتخوين. في بحث له، يذكر حيدر لشكري هو أستاذ مساعد للتاریخ الإسلامي الوسیط في جامعة کویه ـ إقليم کردستان العراق: « يقع الباحثون، بسبب تكوينهم الإيديولوجي، في دوامة المسائل المنهجية، لأنهم يتجاهلون كيفية تكوّن النص التاريخي، ويأخذون من هذه الروايات ما يساعدهم على تجميل الصورة التاريخية لهويتهم وما يؤكد فاعلية جماعتهم في الذاكرة العراقية».

يعتبر التوثيق الآني الفردي والعام والتاريخي المتضمن، أيضا، كتابة اليوميات والمذكرات وتسجيل الشهادات المحكية، أداة مقاومة للسردية الصهيونية المختلقة

تقودنا هذه الملاحظات إلى التساؤل عن كيفية تكوين المؤرخ العراقي، بالمقارنة مع نظرائه في العالم، هل هو وليد تدريس التاريخ في الجامعات العراقية أم أنه عصامي التكوين؟ وماهي منهجية إعداد «المؤرخ» جامعيا؟
تطغى الانتقادات الموجهة بشكل كبير على كيفية ومنهجية تدريس التاريخ، وإن كان النظر إلى أهمية دور المؤرخ لايشوبه الشك. من بين الانتقادات التي تكاد تنطبق على عموم التدريس بالعراق «أن تدريس التاريخ يتم بالطريقة اللفظية الاستظهارية» ويُنظر الى التاريخ «باعتباره مادة تقريرية تتألف من مجموعة نصوص وأحداث مسطرة في الكتاب المدرسي» بدون مراعاة ضرورة» تنمية القدرة على التعامل مع المفاهيم الزمنية وادراكها واكتساب القدرة على تمحيص الأحداث والقراءة النقدية للتاريخ». وتلخص إطروحة دكتوراه أحمد هاشم محمد، في فلسفة التربية، المعنونة «طرق تدريس التاريخ» بعض مشاكل تدريس مادة تاريخ العراق المعاصر من وجهة نظر 247 من طلاب وطالبات السنة الأخيرة، بقسم التاريخ بجامعة بغداد. توصّلَ الباحث إلى نتائج تساعد على إلقاء الضوء على كيفية إعداد ونوعية مدرسي التاريخ و« مؤرخينا» مستقبلا.
ففي مجال الأهداف العامة للمادة كانت المشكلة الأولى ضعف تنمية التفكير النقدي عند الطلبة. وشكلت أساليب التدريس كإعتماد الطريقة الالقائية عند تناول الموضوعات التاريخية، وافتقار مدرسي المادة إلى مهارة التمهيد للدرس، وقلة زيارة الطلبة إلى المتاحف التاريخية، وقلة اللجوء إلى استخدام الوسائل التعليمية والتقنيات التربوية المتمثلة بالمصورات والخرائط والأفلام ذات العلاقة بمضمون التدريس، بالاضافة إلى غموض الأهداف الداعية إلى دراسة تاريخ العراق المعاصر، تشكل هذه العوامل عائقا في عدم تنمية رغبة الطلبة في فهم المادة وأحداثها بشكل عام، مما إنعكس، على عدم رغبة الطلاب في التخصص بتاريخ العراق المعاصر، وبالتالي على كتابتنا لتاريخنا المعاصر بأنفسنا.
إن عدم كتابتنا لتاريخنا لا يعني فقط عجزنا عن فهم الحاضر والمستقبل معا، فالتاريخ كما يذكر أستاذ التاريخ البريطاني جي كورفيلد « لا مفر منه». وهو خلافا لما يشاع في مدارس ما بعد الحداثة الفكرية، ليس موضوعًا ميتًا، لذلك يشكل قرار طلاب التاريخ العراقيين عدم جدوى دراسة تاريخ بلدهم المعاصر كارثة حقيقية، لا من ناحية عدم الدراسة والتدريس فقط وإنما لفسحه المجال واسعا أمام الآخرين لكتابة تاريخنا، وفق ما يريدون، بشكل انتقائي، يُبرز أحداثا تُحفر في الذاكرة الجماعية بينما يتم حذف أحداثا أخرى. ويتم ذلك كله وفق ميزان القوى الخارجية والجهات المتحكمة بالسلطة داخليا المتزامن مع غياب المؤرخين.
وهذا ما نواجهه في بلداننا، عموما، وهو منبع القصور في فهم الأسئلة والمعضلات الحالية وتوليفة العلاقات العالمية والوطنية والمحلية بين المجتمعات والأفراد وكيفية التعامل معها. إذ لانزال خاضعين بشكل مباشر أو غير مباشر، لكتابة الاحداث وتحليلها وصياغتها وحتى تدريسها لنا، إنتقائيا، كما أراد المستعمر، على حساب مسح الذاكرة الجماعية.
كان الاستعمار ولايزال، بتركيبته الاستيطانية العنصرية في فلسطين، يتغذى على تدمير الثقافة وطرق فهم العالم وإبادة الانسان. وكلما ينتهي من إرتكاب واحدة من جرائمه يشرع بعملية محو جرائمه من الذاكرة العامة واستبدال الحقائق الآنية لئلا تُصبح تاريخا كما يشاء. وهو ما نشهده، الآن، بعد اغتيال الشهيدة شيرين. وسينجح في تحويلها إلى صورة تضاف إلى قائمة صور الشهداء المرسومة على جدران المخيمات، ما لم تواصل الاصوات الغاضبة المستنكرة مسار شيرين / فلسطين في كتابة تاريخها بنفسها.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com