مقالات

بعيدا عن أوكرانيا… مبادرة جديدة تتحدى شرطي العالم.

بيدر ميديا.."

بعيدا عن أوكرانيا… مبادرة جديدة تتحدى شرطي العالم

هيفاء زنكنة

 

لتحدي سياسة فرض العقوبات الاقتصادية التي ترتكبها الولايات المتحدة من خلال استخدام القانون، ولتسليط الضوء على الطبيعة غير القانونية، والظالمة، والاستعمارية للتدابير الاقتصادية القسرية، أعلنت مجموعة من المنظمات عن تأسيس ” المحكمة الشّعبية الدوليّة حول العقوبات الإمبرياليّة الأمريكيّة”. من بين المنظمات الدولية : “معهد سيمون بوليفار للسلام والتضامن بين الشعوب”، و”جمعية المحامين الوطنية”، و”الجمعية الدولية للمحامين الديمقراطيين”، و”تحالف حقّ العودة الفلسطيني في الولايات المتحدة”، و”صامدون” شبكة التضامن مع الأسرى السياسيين الفلسطينيين، و”تحالف السود من أجل السلام”، و”مؤسسة فرانز فانون”، وحركة “المسار الثوري الفلسطيني البديل”، و”التحالف من أجل العدالة العالمية”.
تأتي المبادرة بناء على واقع تزايد فرض العقوبات، أمريكيا، على الدول والحكومات والأفراد، آخرها منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. وهي عقوبات تهدف إلى إلحاق الضرر، بأقصى درجة ممكنة، على النظام المعتدي في ذات الوقت الذي يضمن عدم إلحاق الضرر بالدولة أو الدول المشاركة في فرض العقوبات، كما يتوخى قانونيا، عدم إلحاق الضرر بالشعوب. وهو ما لم يحدث، وغالبا، كما يدل تاريخ فرض العقوبات، على أنظمة توصف بأنها مارقة، لتعيش الشعوب عبء ضنك العيش وهدر الكرامة. حتى ولو كانت الأنظمة لا تمثلها والمراد من فرض العقوبات استهداف رؤساء الأنظمة، في حقبة زمنية معينة، بعد انتهاء صلاحيتهم، ومع تسارع عملية شيطنتهم. الأمر المهم في هذه السيرورة المبنية على الضخ الإعلامي المؤدلج، والتزوير وفبركة الأخبار والتلفيق المنهجي، من كل الجهات المتحاربة، هو تجاهل وجود الشعوب المعرضة ليوميات العقوبات كشكل جديد من أشكال الحصار، بتفاصيله المريرة، والذي لا يختلف إلا بالتسمية عن حصار التجويع وانتشار الأمراض في القرون الوسطى. مما يجعل فرض العقوبات الاقتصادية حربا من نوع آخر أو سلاحا لأخضاع الشعوب.

الأمر المهم في هذه السيرورة المبنية على الضخ الإعلامي المؤدلج، والتزوير وفبركة الأخبار والتلفيق المنهجي، من كل الجهات المتحاربة، هو تجاهل وجود الشعوب المعرضة ليوميات العقوبات كشكل جديد من أشكال الحصار، بتفاصيله المريرة

حاليًا، تقوم الولايات المتحدة الأمريكية، بدعم من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، بفرض عقوبات وتدابير اقتصادية قسرية أخرى على أكثر من 30 بالمئة من سكان العالم، معظمهم في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، على الرغم من فشل العقوبات في تغيير سلوك أنظمة البلدان الخاضعة للعقوبات؛ لكنها نجحت بالحاق الأذى بأفقر الناس في تلك البلدان.
المعروف، أيضا، أن ثلثي العقوبات الـ 104 التي فُرضت في جميع أنحاء العالم من عام 1945 إلى عام 1990، كانت من قبل أمريكا، وأحادية الجانب دون مشاركة دول أخرى. وتشمل قائمة البلدان التي فرضت عليها عقوبات طويلة الأمد كل من كوبا وإيران وكوريا الشمالية وسوريا.
ولا يمكن الحديث عن تأثير تطبيق العقوبات أو التدابير القسرية الانفرادية على تمتع السكان المتضررين بحقوق الإنسان، ولا سيما تأثيرها الاجتماعي والاقتصادي على النساء والأطفال، في الدول المستهدفة، إلا ويأخذنا المسار إلى العراق. حيث عاش الشعب العراقي 12 عامًا و8 أشهر من “الحصار”، بموجب قرار الأمم المتحدة رقم 661 الصادر في 6 أغسطس / آب 1990. أثر الحصار على كل جانب من جوانب الحياة العراقية، مما تسبب في تدهور اقتصادي سريع أدى إلى تدهور عموم الأوضاع. من التعليم والصحة والخدمات العامة الأخرى، إلى البطالة الهائلة، والوفيات الزائدة وتقريبا نهاية أي نوع من التنمية البشرية. إن دراسة آثار الحصار في ضوء إعلان حقوق الإنسان، يبين بوضوح حجم وكيفية انتهاك حقوق الإنسان لجميع العراقيين، النساء والأطفال على وجه الخصوص.
وقد قدرت منظمة ” اليونيسف” أن السنوات الخمس الأولى من العقوبات ضد العراق أسفرت عن مقتل نصف مليون طفل دون سن الخامسة. كان ذلك في عام 1996، أي أقل من نصف الطريق خلال سنوات العقوبات، عندما كانت مادلين أولبرايت، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة آنذاك، التي صرحت، عند مواجهتها بهذه الحقيقة، قائلة أن “الثمن يستحق” تغيير نظام صدام حسين.
ويأخذنا المثال الصارخ الآخر إلى فلسطين المحتلة التي تعيش حصارا شاملا، يتبدى خاصة في قطاع غزة، الذي تحول منذعام 1994 من معسكر لاجئين كبير إلى أكبر سجنٍ مفتوحٍ على سطح الكرة الأرضيّة يتعرض فيه السكان للعدوان المستمر على كافة جوانب الحياة، حيث تتفاقم الآثار الاقتصادية والصحية وارتفاع معدلات البطالة وانهيار المنظومة الصحية أمام الاصابات والضحايا، فلم تعد المستشفيات ولا الأدوية ولا الأطباء قادرين على مواجهة الكارثة الإنسانية. وتحولت حياة الناس إلى جحيم لا يطاق مُغّلف بصمت المجتمع الدولي أما بقيادة أو مباركة أمريكية، لسياسة الإبادة التي يمارسها كيان الاستيطان الصهيوني.
لذلك، يبدو تأسيس ” المحكمة الشّعبية الدوليّة حول العقوبات الإمبرياليّة الأمريكيّة”، ضروريا. حيث ستستضيف المحكمة الشعبية، على مدى ستة أشهر، من يناير/كانون الثاني إلى يونيو/حزيران 2023، شهودا خبراء، وقانونيين دوليين، ومقررين من 13 دولة مستهدفة حاليا بالعقوبات والإجراءات القسرية، باعتبارها إحدى الأدوات الرئيسية لهيمنة الإمبريالية الأمريكية، وكونها تسبب مجاعات ومعاناة جماعية للشعوب في الجنوب العالمي، بينما تفتح الأسواق للشركات الأمريكية والأوروبية.
يُدرك منظمو المحكمة من محامين ونشطاء وعلماء، محدودية قدرة المحكمة الشعبية القانونية على تحدي ما ترتكبه الولايات المتحدة من انتهاكات وجرائم من خلال إجراءات قسرية متعددة الأطراف أو أحادية الجانب، إلا انهم يؤمنون، بأن “المحكمة ليست مجرد تكتيك قانوني بل إنها أيضا أداة تنظيمية”. قد تدفع مستقبلا إلى تطبيق القانون الدولي والإنساني بشكل ينطبق على جميع الدول بلا استثناء، وألا يُستغل فرض العقوبات كأداة لمعاقبة دول وحكومات وشعوب تحيد عن صراط أمريكا كشرطي للعالم، مهما كانت طبيعة الحكومات، كما يجب عدم السكوت على انتهاكات حقوق وحياة السكان لأن حكوماتهم في صراع مع دول قوية أو مؤسسات متعددة الملكية، ووفق إنتقائية مخالفة للقوانين الدولية والإنسانية.

٭ كاتبة من العراق

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com