مقالات

الاشكاليات الجمالية في مسرحية أنطون تشيخوف “النورس”

أثر عمل انطون تشيخوف مع مسرح موسكو الفني على حياته كثيراً. فقد جرى في ذلك المسرح أول عرض لمسرحية “النورس”  (او كما ترجمها البعض “طائر البحر”) في 17 كانون الاول عام 1898 ونالت المسرحية نجاحاً منقطع النظير وصارت بحق حدثاً تاريخياً , فمن  ذلك الوقت صار النورس الطائر شعاراً لذلك المسرح.

تتميزمسرحية “النورس”  كثيراً عن جميع مسرحيات تشيخوف الأخرى بعاطفيتها  وغنى رموزها وتصادمها الحاد مع التصورات المختلفة للفن والحياة , الحب في “النورس”  يعني الكثير , اذ يحس بهذا الشعور جميع الابطال  فالممثلة اركادينا تعيش قصة  غرامية مع الكاتب تريغورين العازب وهو في سنين  وقاره. إنهما يفهمان الحياة والفن بشكل واحد تقريباً.

والعاشقان الأخران ابن اركادينا  وقنسطنطين  تريبيليف الذي يحلم بأن يصبح كاتباً وابنة أحد الاقطاعيين  الأغنياء نينا زارينتشينا الحالمة بأن تكون ممثلة ، لكن يوجد في المسرحية حب من نوع اخر : انه حب زوجة مدير الضيعة شامرايفا للدكتور دورن الأعزب المسن، وحب ماشا ابنه شامرايف لتريبليف الذي يصدها فتتزوج بسبب يأسها وقنوطها من انسان لا تحبه، وحتى المستشار المتقاعد سورين وهو شيخ مسن يعترف بأنه يستلطف نينا زاريتشينا , وكان تشيخوف نفسهه يقول مازحاً ان في “النورس” “خمسة ارطال من الحب”.

تقلبات الحب في المسرحية تتطوربشكل عاصف. فقد طُعنت اركادينا من جراء ولع تريغورين بزاريتشنايا،  وكان هو صديقها الوفي “والمحطة  الاخيرة في حياتها ” ولما  كانت هي نفسها مولعة بالنزوات  فقد غفرت له كل شيء .

أثارت علاقة تريغورين بزارتشنايا ألماً لا يحتمل لتريبليف الذي أحب نينا . وظل يحبها حتى بعد أن ذهبت الى تريغورين  وولدت منه طفلاً وبعد أن تركها وبعد افتقارها , لقد تمكنت زارتشينايا بلا أية  مساعدة من احد ان تعيد ثقتها بنفسها. فبعد انقطاع دام سنتين  ظهرت نينا من جديد في الامكان التي أحبتها وصارت  تزور حتى عزبة سورين .

واستقبلها تريبليف  بفرح غامر معتقداً أن السعادة عادت له ثانية . لكنها كالسابق عاشقة  لتريغورين وتكيل له التبجيل. ويعد ان تعرف ان تريغورين في الغرفة المجاورة لغرفتها تتحاشى اللقاء معه وتغادر فجأة , لم يتحمل تريبليف مثل هذه المعاناة الثقيلة على نفسه فينتحر مطلقاً الرصاص على نفسه .

يشكل الحب الذي يستولي على جميع الابطال الحدث الاساسي في المسرحية . ولا يقل اهمية عنه اخلاص ابطال المسرحية للفن , وربما كان هذا الشعوراسمى من الحب وصار اقوى محفز لتصرفات الشخصيات الرئيسية في المسرحية.

إذ  تتَّحد عند اركادينا صفتا الأنوثة والموهبة كلتاهما في بودقة واحدة. وكان تريغورين مهماً وممتعاً بصفته كاتباً بالذات , فهو في مجال الادب  شخص معروف للجميع، ويقال عنه انه يقارن بتولستوي وأميل زولا فقط  والكثير يرونه يأتي بعد تورغينيف.

لكن تريغورين الانسان كائن بلا ارادة ويغازل  اركادينا لانه معتاد على فعل ذلك  ويتركها بعد ان يرى الشابة زاريتشنايا , ومع ذلك هو كاتب، لهذا  يمثل له الحب الجديد صفحة جديدة من نوع خاص في الحياة وهذه الصفحة مهمة  لابداعه , فهو  يسجل في دفتر ملاحظاته فكرة  لمعت في خاطره عن “مضمون لقصة قصيرة” تكرر حياة نينا زاريتشنايا بكل دقة : تعيش على شاطىء احدى البحيرات  فتاة سعيدة وحرة ، لكن ” فجأة جاء شخص  شاهدها و ” بسبب الفراغ والملل” دمرها. لقد ارى  تريغورين  زاديتشنايا النورس الذي قتله تريبليف , إن تريبليف قتل طائراً بينما تريغورين  يقتل روح نينا.

تريبليف أصغر بكثير من تريغورين وينتسب الى جيل آخر ويعارض بوجهات نظره عن الفن تريغورين ووالدته , ونعتقد ان تريبليف تعرض الى هزيمة قاسية : اذ لم يتحقق شيء من احلامه: حبيبته تتركه، يُسخر من افكاره في البحث عن صيغ جديدة في الفن ثم يقدم على الانتحار.

اما اركادينا فتقتلها ذكرياتها عن نجاحاتها في خاركوف وكيف احتفل بها الطلاب وكيف اهديت لها ثلاث سلات من الزهور واكليلَيْن من الورود  ودبّوس قيمته خمسين روبلاً.

يصف تشيخوف في “النورس” صراعاً بين جيلين من الفنانين في طور التغير السريع في الثقافة من خلال تصرفات اركادينا الممثلة  وابنها تريبليف الذي يكتب مسرحية طابعها حديث. ونستطيع ان نرى موقف نشيخوف في هذا الصراع وهو يقف الى جانب تريبليف لأن حياته  امتع واغنى من الحياة الروتينية  والذابلة التي يعيشها الابطال الاخرون بما فيهم الخيرون من امثال  اركادينا وتريغورين لان اركادينا تبخل  بالمال على عائلتها وتريغورين يدمر حياة الفنانة نينا زاريتشنايا  .

يرمز النورس في بداية المسرحية الى رغبات نينا لكن موته يشير الى الموت والى تدمير الطاقة التجديدية لدى الشباب , اما الشخصيات الثانوية في المسرحية فهي مضحكة بهواجسها لكنها محزنة دوماَ.

 

بقلم الكاتب

الدكتور تحسين رزاق عزيز

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com