متفرقات

قطار الشرق السريع… رحلات سحرية في التاريخ والفن.

بيدر ميديا.."

قطار الشرق السريع… رحلات سحرية في التاريخ والفن

 زيد خلدون جميل

 

أدهشت فخامة المكان المسافرين، الذي كان عددهم حوالي العشرين، فمن الواضح أنهم كانوا داخل أحد أرقى الفنادق في أوروبا يوم الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 1883. ومما زاد من شعورهم بالدهشة الاحتفالات الصاخبة في المنطقة في هذه المناسبة الاستثنائية، فهؤلاء المسافرون لم يكونوا في الحقيقة في فندق راقٍ، بل على متن أشهر قطار في التاريخ، الذي لم يكن سوى فندق على سكة حديد، على وشك أن يبدأ رحلته التاريخية من محطة القطار في باريس باتجاه العاصمة العثمانية إسطنبول، التي كان اسمها الرسمي القسطنطينية في تلك الفترة. وقد أثار هذا القطار ضجة عالمية حتى سمته الصحف الأوروبية «قطار الشرق السريع» وأصبح علامة الفخامة ورمز التطور البالغ السرعة، الذي طرا على العالم منذ عام 1871 الذي استمر حتى بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914، فقد ظهرت في تلك الفترة السيارة والطائرة ومحطات الطاقة الكهربائية والسينما وصرعات جديدة في الأدب والرسم، وأثر ذلك في المجتمع العالمي بشكل عام والأوروبي، بشكل خاص لكون القارة الأوروبية مسرح أغلب هذه التغيرات.
لم يكن هذا القطار الأول في العالم، إذ شهد العالم أول رحلة قطار للركاب عام 1825 في بريطانيا، لكن شبكات السكك الحديدية انتشرت بسرعة غريبة في العالم الغربي، ليس لأهميتها الاقتصادية وحسب، بل لأن الحكومات الغربية أدركت بسرعة ضرورتها العسكرية، حيث أنه أصبحت الطريقة المثلى لنقل الجيوش مع معداتها كافة، وساعدت بالتالي على فرض سلطة الدولة في مناطق نائية، ولذلك ما أن دخل العالم سبعينيات القرن التاسع عشر، حتى كان لدى أغلب الدول الأوروبية شبكات واسعة للسكك الحديدية لنقل البضائع والمسافرين. وقد ساعد ذلك على ظهور الطبقة الاجتماعية المرفهة نسبيا التي كانت قادرة على شراء تذاكر السفر بالقطار، لكن تلك الرحلات كانت غير مريحة وقذرة، وأحيانا خطرة، ومما زاد الطين بلة كون كل دولة أوروبية امتلكت نظامها الخاص، ما أجبر المسافرين على تغيير القطار عند الحدود.

كيف بدأت الفكرة

كانت رحلة للمهندس المدني البلجيكي جورج ناغلماكرز إلى الولايات المتحدة في ستينيات القرن، سببا في بداية تحقيق تغير كبير في أنظمة السكك الحديدية، حيث لاحظ هذا المهندس وجود خطوط طويلة للسكك الحديدية في الولايات المتحدة، وامتازت تلك القطارات بعربات نوم مريحة، مع القابلية على توفير المأكولات للمسافرين. وهنا فكر المهندس البلجيكي في إمكانية تحقيق هذا في أوروبا، فاتصل بمالك القطارات الأمريكية لتأسيس شركة معا لهذا الغرض، لكن المالك لم يوافق. وعاد المهندس البلجيكي إلى دياره مصمما على تنفيذ الفكرة، فبالإضافة إلى كونه مهندسا كانت عائلته من أغنى العوائل في بلجيكا وامتلكت علاقة خاصة بالملك البلجيكي ليوبولد الثاني، الذي كان من هواة، القطارات وعرف كيف يميز الفرص الاستثمارية ذات المردود المالي الكبير، حيث سرعان ما أدرك فوائد هذا المشروع المالية. وبالتالي، استعمل الملك البلجيكي علاقاته لإقناع ثماني دول بالسماح لقطار يتنقل بين باريس وإسطنبول، رابطا الغرب بالشرق من أوروبا، حيث أن الجانب الغربي من مدينة إسطنبول يقع في الجانب الأوروبي. وتمت دعوة شخصيات مهمة في أول رحلة تجريبية أجريت في العاشر من أكتوبر عام 1882 بين باريس وفيينا.

غرفة نوم في قطار الشرق السريع

وكان المسافرون مندهشين لفخامة القطار ومستوى المطعم الراقي الذي كانت قائمة الطعام فيه باللغتين الألمانية والفرنسية، حيث لم تكن اللغة الإنكليزية من اللغات الرئيسية. لكن الرحلة الحقيقية الأولى كانت عام 1883 وبدأت باحتفال كبير امتاز بحضور الشخصيات المهمة في مجالات عدة في فرنسا. وتكون ذلك القطار من عربتين للنوم وعربة للمطعم، وبلغ طول العربة الواحدة أكثر من سبعة عشر مترا، وكان لكل غرفة حمامها الخاص وتُغَيّر ملاءات السرائر كل يوم، والإضاءة بمصابيح غازية، وتدفئة مركزية ، بالإضافة إلى كل ما تستطيع أن تقدمه أفضل الفنادق الأوروبية في تلك الفترة.
ونظرا لخطورة الوضع الأمني في شرق أوروبا، فقد حمل بعض المسافرين اسلحة نارية، لكن الرحلة كانت أكثر من رائعة، وتمت بنجاح منقطع النظير، وتميز وصول المسافرين إسطنبول، باحتفال خاص شمل استقبالهم من قبل السلطان العثماني عبدالحميد نفسه في قصره. وسرعان ما أصبح هذا القطار وسيلة سفر الملوك، لاسيما الملك ليوبولد الثاني البلجيكي، ونجوم المجتمع الراقي الأوروبي من ارستقراطيين وفنانين وأدباء وممثلين، مثل الكاتبة البريطانية أجاثا كريستي، التي كانت إحدى أشهر رواياتها البوليسية عن القطار، والممثلة غريتا غاربو، وراقص الباليه الأشهر نيجينسكي وغيرهم. ولذلك كان قول المرء إنه سافر على متن هذا القطار دليلا على رقيه وثروته، وبالتالي أخذ البعض من الأوروبيين والأمريكيين يتسابقون لشراء التذاكر، كما أصبح هذا القطار مكانا للمفاوضات السياسية، وإبرام الاتفاقات المهمة في مختلف المجالات.
اكتسب القطار سمعة كبيرة في مجال آخر، الا وهو الجاسوسية، حيث استعمله الكثير من الجواسيس في فترة كان التوتر العالمي يزداد، حتى اندلعت الحرب العالمية الأولى، ولذلك أطلقت الصحافة العالمية عليه اسم «قطار الجواسيس». وأشهر هؤلاء الجواسيس ماتا هاري وتي. أي. لورنس» (لورنس العرب) وكذلك الضابط البريطاني روبرت بادن باول، الذي اشتهر في العالم بتأسيسه الحركة الكشفية، وكان قد سافر على متن القطار بحجة القيام ببحث علمي، بينما كان في الحقيقة يجمع معلومات عن المناطق التي مرّ بها القطار. وكانت هذه المعلومات ذات قيمة كبيرة للأسطول البريطاني في الحرب العالمية الأولى.
لم تعجب عربات القطار الاستثنائية قيصر روسيا الأخير نيكولاس الثاني، فأصر على صناعة عربات خاصة به عندما رغب في السفر على متن القطار الشهير. وعلى الرغم من مستوى المسافرين الراقي ودقة «الإتيكيت» على متن القطار بالنسبة لتصرفات المسافرين وحتى هندامهم، فإن المشاكل كانت تحدث أحيانا، فمثلا أصر ملك بلغاريا على قيادة القطار بنفسه عند دخوله بلغاريا، لأنه كان من هواة القطارات، وكادت قيادة هذا الأحمق السريعة من الخطورة أنها كادت أن تسبب كارثة. أما الملك البلجيكي ليوبولد الثاني، الذي كان كبيرا في السن، فقد سمع قبل إحدى رحلاته على متن ذلك القطار أن رجلا تركيا وحريمه سيكونون من المسافرين، فخطط للدخول إلى غرفة الحريم بمفرده ولم تذكر المصادر مصير خطته هذه، لكن المشاكل الغريبة ميزت بعض المسافرين كذلك، ومنها أن ملك بلغاريا قضى رحلة كاملة في حمامه بعد أن أوصد الباب على نفسه خشية التعرض للاغتيال.

أعجب الكثير من الأدباء والفنانين بقطار الشرق السريع وأثره في مختلف جوانب الحياة وذكرياته، ولذلك، فقد ظهر في الكثير من الروايات الشهيرة لاسيما عن الجرائم وعالم الجاسوسية، وكانت أولها رواية «دراكيولا» التي نشرت عام 1897 بنجاح ساحق.

سقوط الرئيس الفرنسي

ومع ذلك، فإن المشكلة الأكبر كان بطلها الرئيس الفرنسي بول ديشانيل، الذي كان على متن القطار ليلة الثالث والعشرين من أيار/ مايو عام 1920. وقد عُرِفَ ذلك الرئيس الفرنسي بتصرفاته الغريبة التي وصفت بالمجنونة أحيانا. وكان قد تناول مهدئا بسبب معاناته من نوبات قلق منعته من النوم، وأخذ يسير في ممر العربة ثم فتح الشباك (قيل إن الحرارة في العربة كانت عالية وإنه كان يسير أثناء نومه) وأخرج رأسه لاستنشاق الهواء المنعش، وإذا به يجد نفسه خارج القطار وممددا على الأرض، إذ أنه سقط من على القطار. ومن حسن حظه أن إصاباته كانت طفيفة، لأن القطار كان يسير ببطء في تلك اللحظة. وسار الرئيس الفرنسي في المنطقة الريفية المنعزلة في ساعة متأخرة من الليل مرتديا بيجامة من الحرير الأخضر لمسافة كيلومترين حتى وجد نفسه أمام أحد عمال السكك الحديدية وقال «أنا رئيس جمهورية فرنسا». ومن الطبيعي أن العامل المسكين لم يصدقه، ومع ذلك أخذه إلى مبنى صغير يستعمله أحد موظفي السكك الحديدية، كمسكن ومحل عمل، وهناك عالجوا إصابات الرئيس ووفروا له سريرا للنوم. وبسبب عدم تصديق ادعاء الرئيس الفرنسي حول هويته وسوء الوسائل التكنولوجية آنذاك وتأخر الوقت، فإن خبر العثور على الرئيس الفرنسي استغرق عدة ساعات ليصل إلى مسمع قمة السلطات الفرنسية. ولم يكتشف أحد اختفاء الرئيس في القطار نفسه، إلا في صباح اليوم التالي، حيث وصل القطار وجهته وكان في انتظاره حشد غفير من رجال الدولة، وعلى رأسهم وزير الداخلية الفرنسي، لكن أين الرئيس؟ وقد سبب هذا الحدث فضيحة سياسية كانت من أسباب استقالة الرئيس الفرنسي، لكن حياة هذا الرجل السياسية لم تنتهِ، حيث انتخب بعد ذلك ليكون عضوا في مجلس النواب الفرنسي. ولعب القطار دورا في الحرب العالمية الأولى، حيث وقعت ألمانيا وثيقة استسلامها عام 1918 على متن إحدى عرباته، وفي الحرب العالمية الثانية وقعت فرنسا وثيقة استسلامها على متن العربة نفسها عام 1940 قبل أن تنتصر في تلك الحرب.
لم تكن إدارة القطار خالية من المشاكل عديمة العلاقة بالركاب، فالمشاكل التقنية والثلوج والسيول كانت مصدر إزعاج دائم، بالإضافة إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، اللتين أوقفتا الخدمة تماما، لكن لم يكن أحد قادرا على توقع ما حدث يوم الثالث عشر من أيلول/ سبتمبر عام 1931، حيث حدث انفجار على جسر أثناء مرور القطار عليه بالقرب من العاصمة الهنغارية بودابست في الساعة الثانية عشرة وعشرين دقيقة ليلا، فسقطت القاطرة وتسعة من العربات الإحدى عشرة في وادٍ بلغ عمقه ثلاثين مترا. وكانت نتيجة هذا الحادث مقتل اثنين وعشرين شخصا، وإصابة مئة وعشرين شخصا بجروح، سبعة عشر منهم خطيرة. وسرعان ما اكتشف المحققون أن الانفجار كان نتيجة ديناميت، وضع على الجسر عمدا، وأن الفاعل كان مواطنا هنغاريا يدعى سلفستر ماتوسكا، وأنه كان موجودا عند حضور الشرطة لمكان الحادث، مدعيا أنه أحد المسافرين الناجين. وبعد عملية بحث كبيرة قامت بها الأجهزة الأمنية لثلاث دول، تم القبض عليه في فيينا بعد شهر من الحادث، ونُقِلَ إلى هنغاريا حيث حكم عليه بالسجن مدى الحياة. ولم تُحَدّد دوافع هذا العمل الإرهابي، فقد ادعى الفاعل أنه استلم أوامر إلهية للقيام بذلك، ثم ادعى أن نشوة جنسية تنتابه عند مشاهدته للانفجار. والغريب في الأمر أن سلفستر ماتوسكا هرب من السجن عام 1945 قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم يعرف أي شيء عنه بعد ذلك.

شباك العربة الذي سقط منه رئيس جمهورية فرنسا

تجربة عائلية

تغير «قطار الشرق السريع» بعد الحرب العالمية الثانية، ونزل مستواه حيث أضيفت إليه عربات عادية وأخذ يتحول تدريجيا إلى قطار عادي. وقد سافر والدي خلدون جميل، على متنه عام 1959 في طريقه إلى ألمانيا، وأخبرني بالكثير عن الرحلة التي اعتبرها الأجمل في حياته، ومنها أن حرس الحدود البلغاري كانوا يقومون باستقبال عسكري خاص للقطار عند توقف القطار عند حدود بلادهم، حيث وصل القطار حدود بلغاريا يوم الثاني والعشرين من كانون الأول/ديسمبر. لكن ما حدث بعد ذلك كان ما أثار دهشة وقلق والدي حيث استقل القطار ضابط بلغاري شاب للتأكد من جوازات المسافرين. ومرّ كل شيء بسلام حتى أخذ ذلك الضابط جواز والدي حيث نظر في الجواز وبدت فجاة الصرامة على محياه. وعوضا عن إعادته لوالدي أخذ الجواز وغادر القطار مسرعا، ما أثار قلق والدي الذي كان في السنة النهائية من الجامعة في ألمانيا، وبعد عشر دقائق عاد الضابط البلغاري وملامح الصرامة بادية على وجهه حاملا الجواز مع أحد موظفي القطار، فازداد قلق والدي، ووقف الضابط امام والدي بجدية واضحة سائلا إياه بلغة إنكليزية ركيكة «هل أنت النقيب جميل؟» ونفى والدي ذلك بالطبع لانه لم يدخل الجيش العراقي في حياته، لكن الضابط أعاد السؤال عدة مرات، على الرغم من نفي والدي المتكرر. وزاد قلق والدي، فحاول التخلص من الموقف لئلا يحدث ما ليس في الحسبان وأجاب «نعم، انني النقيب جميل» فاذا بالضابط يلقي تحية مدوية ضاربا الأرض بقدمه ويقول «مرحبا بكم في بلدنا، ورحلة موفقة» ورد والدي السلام بارتباك غير عارف نتيجة هذا المأزق، لكن الضابط أعاد له الجواز باحترام بالغ واستدار بطريقة عسكرية وغادر القطار، ووالدي غير مصدق أنه قد خرج من هذا الموقف بسلام وسط دهشة بقية المسافرين.

نهاية الرحلة

تضاءلت أهمية هذا القطار الشهير شيئا فشيئا حتى توقفت الرحلات بين إسطنبول وباريس عام 1977، وتناقص عدد المدن التي يمر بها القطار تدريجيا حتى ألغي القطار نهائيا عام 2009.
أعجب الكثير من الأدباء والفنانين بقطار الشرق السريع وأثره في مختلف جوانب الحياة وذكرياته، ولذلك، فقد ظهر في الكثير من الروايات الشهيرة لاسيما عن الجرائم وعالم الجاسوسية، وكانت أولها رواية «دراكيولا» التي نشرت عام 1897 بنجاح ساحق. وكان أشهر من كتب عنه الكاتب البريطاني غراهام غرين وإيان فليمنغ (مؤلف روايات جيمس بوند) وبالطبع الكاتبة البريطانية أجاثا كريستي، التي ذكرته في قصة قصيرة لها عام 1933 ثم نشرت إحدى اشهر رواياتها بعنوان «جريمة قتل في قطار الشرق السريع» عام 1934 وتحولت عام 1974 إلى فيلم شهير ضم أكبر نجوم السينما آنذاك، خاصة شون كونري وأنغريد برغمان، وأعيد إنتاج هذا الفيلم عامي 2001 و2017. وما تزال العربة التي صُوّرَ فيها الفيلم موجودة في أحد المتاحف في اليونان، حيث توجد فكرة لإعادة إحياء قطار مشابه للعمل بين اليونان والدول المجاورة، الا أن ذلك الفيلم لم يكن الوحيد عن هذا القطار، حيث ظهر في العديد من الأفلام عن الجريمة وعالمي الجاسوسية والرومانسية، بل إن كلا من الممثلين البريطانيين شون كونري وجون جيلجود ظهرا في فيلمين كان القطار جزء مهما منهما.
لقد انتهى «قطار الشرق السريع» وذلك العهد الذهبي بكل ما تميز به من رومانسية لتحل محله آلات جامدة تعامل الإنسان وكأنه جزء صغير من مصنع ضخم.

باحث ومؤرخ من العراق

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com