مقالات

روح الصنف .

بيدر ميديا.."

الباحث/عبد الحميد برتو.

بنظرة إجتماعية تاريخية فاحصة، نلاحظ وجود ما يمكن أن نسمية بـ”روح الصنف” داخل المؤسسات المسلحة العراقية. يتمثل التجسيد الواضح لهذه الحالة، بشيءٍ من عدم الإرتياح المتبادل تاريخياً، بين منتسبي الجيش من جهة والشرطة من الجهة الأخرى. يتخذ عدم الإرتياح هذا، في بعض الحالات تعبيرات عديدة، تنطوي بمجملها على نوع من الإستخفاف، أو السخرية غير العدائية، وفي درجاتها الدنيا. كما يوجد على نطاق المجتمع ككل، بعض الفرز بين “أبو خليل” ـ الجيش و”أبو إسماعيل” ـ الشرطة. يَضبط إيقاعَ التصرفاتِ المتبادلة بين جميع الأطراف، وجودُ حكومة مركزية، تستثمر جهود الطرفين لحماية نفسها، من أي مخاطر قائمة أو محتملة. تُضبط العلاقاتُ أو النظرة الودية وغير الودية بصورة دقيقة، حين يتوفر بعض النمو الإقتصادي ودرجة بسيطة من الحريات العامة.

تخلق “روحُ الصنف” أيضاً، مسحة خفيفة من روح التحزب الحرفي الضيق وغير العدائي، داخل الجيش نفسه، على هيئة طيف خفيف، يمكن تلمسه من خلال المفاخرات المتبادلة بود. يرى الطيار نفسه أرقى من ضابط الدرع، والأخير ينظر نفسه متفوقاً على ضابط المشاة، وكذلك الحال بين أفراد الأصناف.

تسود ذات الحالة بين رجال الشرطة أنفسهم. فالقوة السيارة المسلحة أرفع مكانة من شرطة المراكز، والسرية أخطر وأهم من نظيرتها بالملابس الرسمية، وهكذا دواليك. ربما جوهر هذه النظرة ينحدر من جذور العقلية العشائرية، التي تمجد القوة، أو من منطلقات أكثر سلبية وتخلفاً، متمثلة بتمجيد نزعة التسلط.

لا تشكل “روح الصنف” وتجلياتها وإمتداداتها خطراً جدياً، محدوداً أو مجتمعياً، في الحالات الطبيعية، التي يكون فيها المجتمع مستقراً لحد ما. وتقوم روح معاداة الحكومة أو الإتفاق النسبي معها على أسس إقتصادية ـ إجتماعية ملموسة وواضحة، تتعلق بالعدالة الإجتماعية والحريات العامة وغيرها من الأهداف المشروعة. إن إنفراد الحكومة بالسلطات الأساسية والتحكم بالأجهزة القمعية لوحدها. هذا الى جانب تحكمها بالعلاقات الإقتصادية والسياسية الداخلية، وضبط إيقاع التصورات الإجتماعية. وإذا تمتعت الحكومة أيضاً، لحدود واقعية ومقبولة بحرية الحركة والمناورة أزاء التأثيرات الحاسمة للخارج، سواءَ كانت تلكَ التأثيرات السلبية أو الإيجابية، إقليمية منها ودولية أو الإثنتين معاً. في هذه الحالة يكون الصراع الإجتماعي بناءً، وفي نهاية المطاف يحسم لصالح التقدم. أي تتحقق المعادلة الطبيعة بين إدارة ومراقبة بأشكالها المتنوعة والعروفة تاريخياً.

أتحدث الآن عن مخاطر “روح الصنف” الراهنة، وما يكمن خلفها من مصالح لدوائر النفوذ والإستغلال، المحلية والإقليمية والدولية. تصدر من مختبرات علم الإجتماع والنفس الملحقين بالحكومات وأجهزة قمعها. خلاصات حول إمكانية تشديد وطأة “روح الصنف” وخلق نظائر إجتماعية لها. إعتماد على أن كل مجتمع تعشعش في صفحاته التاريخية المظلمة دفاتر من “روح الصنف”. يمكن إستحضارها، وخلق المناخ المناسب لنموها. تنامت وتتنامى مخاطر ومحاولات إستخدام “روح الصنف” من طراز جديد ـ قديم، معشق بروح مصالح الخارج وليس العراق، تستثمرها في اللحظة الراهنة بصورة مؤلمة الولايات المتحدة الأمريكية وإيران تحديداً.

تشارك الطرفان الأساسيان في أزمة بلادنا الحالية، كل طرف من جانبه، ووفق تصوراته لمصالحه الخاصة، دون أي إعتبار لمصالح الشعب العراقي وحتى حياته على وجه التحديد. كل منهما إستخدم الأدوات المتوفرة لديه. فبات واضحاً كالشمس، أن ثمار تلك السياسات، أثمرت وجود جيشين في بلادنا، الجيش العراق والحشد الشعبي. الأول يخضع للحكومة المركزية، أو هكذا يظهر لحد الآن، والثاني لنفوذ إيران. ولا أتجاهل كيانات أخرى دينية وعرقية، ولكنها في الظرف القائم والملموس أقل خطورة.

بعد الإحتلال الإجرامي عام 2003 لبلادنا، وقبله الحصار الإقتصادي التدميري، إعتمد المحتل أسلوب تشضية الشعب العراقي، الى فئات متعادية ومتنافرة، تخضع لعدة تأثيرات غير وطنية. وقد بالغ الإحتلال في مكره الغبي الى درجة، باتت فيها بعض أساليبه تخدم غيره، وتشكل إداة للضغط عليه.

ساعد في نمو الحشد الشعبي، فتح باب الحدود والسجون، من قبل حكومة المالكي المدعوم في وقت واحد من طهران وواشنطن، أمام عناصر المنظمة الإرهابية المشبوة “داعش” لإحتلال أكثر من ثلث العراق. “داعش” قاتلها جميع أحرار العراق، ومنهم الحشد الشعبي. قُدمت تضحياتٌ كبيرة من كل إبناء العراق. بين طيات ذلك الجهد العظيم، كانت هناك تجري عمليات حثيثة لخلق “داعش جديدة” بثوب آخر، لتشكيل قوة موازية للجيش العراقي، تخدم إيران فقط. إستثمرت الأخيرة تلك التضحيات، من جانب الشعب، لخلق قوة مسلحة ميليشياوية الطابع، من أجل التحكم بمصائر البلاد، ولكن ليس لمصالحها حسب.

لا توجد دولة محترمة، وحتى غير محترمة، تملك جيوشاً للمؤسسات الدينية والعرقية والمذهبية وحتى للجريمة المنظمة. يقول العلم الإجتماعي والتجارب الملموسة: إذا وجدت سلطتان في بلد واحد فالنهاية تعني الصدام أو الحرب أو حل إحداهما. أما الشرائع السماوية، فتقول: “لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ” {الأنبياء:22}. فهل تجهل العمائم وأحزاب الدين السياسي هذه الآية؟

هل هناك شرف وطني أو أخلاقي يقبل حقيقة، أن السلام في بلادنا بات يقرره مستقبل العلاقات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية. يا للعار. لا يكره العراقيون أحداً، ولكنهم في الوقت ذاته أشداء في الدفاع عن وطنهم. وسيواصلون النضال بكل والوسائل المشروعة، لنيل عدم تدخل الآخرين في الشؤون الوطنية العراقية، وإعتذار القوى التي إنتهكت بلادهم، ونيل التعويضات عما لحق بهم، من أضرار مادية وروحية.

هنا لا أطرح أحكاماً جاهزة، إنما أرى ضرورة مناقشة، ما يحيق ببلادنا من مخاطر، بكل جدية وهدوء وتواضع، من أجل خلق وعي وطني عملي يكفل دماء الناس، يعيد الأمن والإستقرار، يُشَغِلُ حركة الحياة الإقتصادية، يعزز التعاون الإقليمي والدولي على أسس عادلة، يمقت الكراهية ويقاوم العدوان.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com