ثقافة

«رواية الرسائل» وجدواها في زمننا.

بيدر ميديا.."

«رواية الرسائل» وجدواها في زمننا

 واسيني الأعرج

 

لا يخفى على الباحث المتتبع أن الرواية، كيفما كان نوعها، هي ورشة مفتوحة على الحاضر والآتي، وعلى كل الوسائل التقنية المتاحة والأجناس الأدبية. فهي الفن «الهجين» بامتياز، الذي يملك قابلية امتصاص كل شيء وتسخيره لخدمة النص نفسه، وربما هو ما جعل هذا الجنس يتسع لدرجة أن يصبح سمة العصر الأدبية. فوق هذا كله، كل رواية هي في النهاية تعبير جلي عن قلق وجودي معلناً عنه، أو مضمراً، تدمجه الرواية في صيرورتها دون أن يبدو نشازاً بالخصوص بالنسبة للروائي الحرفي، إذ يمر عبر السطور والترميزات المختلفة المرتبطة بالنسق الأدبي، ويستطيع القارئ أن يلمس ذلك بقراءته الواعية وبدربته الأدبية التأويلية.
وهذا القلق شكل أساساً من أساسات النص لأنه عمقه وجوهره، إذ لا يمكن تصور نص روائي عميق دون ذلك، وإن كان يطرح في أثر ذلك مشكلة التعبير. بأي لغة سنتحدث عن ذلك الشيء المتجذر الذي يمس عمق الإنسان دون تحويل الرواية إلى مجرد حامل لأفكار الكاتب، بالمعنى السياسي المباشر والخطابي التبشيري، وليس الأدبي.
فالأدب في النهاية لغة وصياغة تنتمي إلى حقل محدد ينتمي إلى جمالية تختلف جذرياً عن المقالة السياسية أو التاريخية أو غيرها.
قد يمر الخطاب الروائي في كل تمايزه الأدبي، عبر الحكي الخطي المباشر الذي لا يقتضي جهداً تفكيرياً كبيراً، العلاقات النصية فيه واضحة داخل المساحة الروائية، أو قد يعبر هذا الخطاب نفسه من خلال الوسائط الرافدة للنص الروائي، وهي كثيرة ومنها فن الرسائل بوصفها نوعاً يمس جوهر الإنسان، ويعبر عن الغموض والتمزقات السرية التي تجسد التباسه وحيرته في الآن نفسه. وهو ما سنقصر حديثنا في حدوده، لأن الوسائط الفنية الروائية كثيرة ومتنوعة. السردية الكلاسيكية تهتم كثيراً بعمليات التوصيل. الرواية كيفما كانت، حتى أكثرها حداثة وشكلانية وتقدماً في هيكلها وبنياتها، تمر عبر فعل الحكي اليومي الذي يتأسس على القصة المفترضة أو الحكاية التي تشد انتباه القارئ المحترف والعادي المحب. ولكنها تمر أيضاً عبر الوسائط السردية التي تشكل ضرورة فنية بالخصوص بالنسبة للنص الإنساني العاطفي، كالرسائل. ويأتي استعمال الرسائل للتعبير عن أعماق الإنسان في لحظة خوف ووجدان، يتم من خلالها قول اليومي والخاص والعميق جداً.
وقد شكلت هذه الممارسة نوعاً خاصاً متميزاً اجترح تسميته النوعية الخاصة: أدب الرسائل La littérature épistolaire، حيث تصبح الرسائل وسيلة تواصل بين شخصيات الرواية، ثم بينها وبين القارئ الذي كثيراً ما تقوده نحو استعادة أعماقه ووجدانه في لحظة تأزم مجتمعي أو نفسي أو ذاتي، مثلما هو الحال في الرواية السياسية بامتياز: «مقرّ النسر» لكارلوس فوينتس، التي تدور أحداثها في الميكسيك في زمن افتراضي 2020، حيث يحرم الميكسيك من كل وسائل الاتصال بسبب قرار اتخذه الرئيس لورينزو تيران بعدم مساندة الولايات المتحدة التي احتلت كولومبيا. فيعمل في المقابل على تشجيع رفع أسعار البترول. منذ تلك اللحظة، تبدأ حرب الخلافة وهز أركان مقر الرئاسة القوي. فتبنى الرواية كلها على المراسلات العاطفية والسياسية والعسكرية التي تحضر لانقلاب كلي في النظام، داخل دهاليز النظام. من هنا، تشكل الرسائل وسيلة لكشف ما خفي من أسرار، أو قد تكون شكلاً من أشكال التوازن الذي يشعرنا بأن من نحب أو يعز علينا، قريب جداً منا، ولو أن الوسائط الاجتماعية الحديثة اختزلت فعل الشوق (الذي كانت تجسده الرسالة من قبل في وظيفتها التواصلية) إذ أصبح في إمكاننا أن نتحدث مع من نحب بالصورة والكلام (فيسبوك، ماسنغر، واتساب، أو سينيال أو غير ذلك)، عن بعد، وكأنه على مرمى بصر. حاضر نراه في كامل حركاته وتحولاته. لكن غواية الرسالة وإن تراجعت وجودياً، في الواقع الموضوعي، فهي في النص الإبداعي والروائي الخلاسي تحديداً، لم تفقد مبرر وجودها اللهم في الرواية الافتراضية أو ما يسمى بالرواية الرقمية، التي يريد أصحابها أن يوصلوا كل شيء عبر الكتابة والصورة والوثيقة، فيستندون إلى الفيديو والصورة والخطابات المباشرة، والوثائق، لدرجة أن تفقد الرواية هويتها وانتسابها إلى توع محدد، أو إلى شخص معين ما دام الشركاء في تكوينها كثيرين لدرجة أن نتساءل: هل النص لمن كتب باللغة والحروف الأبجدية، أم لمن وفر التقنية بشكل متمايز، أم للوثيقة التي تكون جزءاً من مكونات النص، ناهيك عن الحقوق التي يجب توفرها لاستغلال هذه الوسائل التي لها مالكوها؟ يصبح من الصعب منع أنفسنا من التساؤل: من كتب الرواية؟ صاحب النص؟ صاحب الفيديوهات المدرجة في الجسد الروائي؟ صاحب/ أصحاب الصورة/ الصور أو الوثائق؟ تعقيدات الحقوق جعلت من هذا النوع الروائي لا يُقبل بسهولة ويخلق له جماهيرية حقيقية.
الشخصية الروائية عندما تكتب للآخر فهي في النهاية تكتب أيضاً عن نفسها، عن أزمتها الوجودية العميقة، بحثاً عن أي توازن. الرسالة بوصفها ذاتاً لغوية، ترسم الحالة الداخلية لكاتبها في الحياة الموضوعية أو الافتراضية، ولشخصيات الرواية أيضاً. وحتى لا تذوب في السرد بصرياً، وتبقي على خصوصيتها، أصبحت تُكتب/ تُرسم في النص مفصولة من الناحية التقنية، باستعمال الخط المائل بالنسبة للرسائل مثلاً، وهي تقنيات بصرية تخفف من جهد القارئ إذ يفرق بسهولة بين السرد الطبيعي والرسائل.
نجد أنفسنا أمام نوعين: النص الرسائلي الكلي، كما في الحالة التي ذكرتها: مقر النسر، إذ يبنى النص كلياً إما على الرسائل حيث يصبح السياسي خارج الخطابات التقليدية الخشنة لكنه يمر عبر الحب والمداعبة التي تتجلى من الرسائل، أو على السردية التقليدية التي تخترقها من حين لآخر رسالة تأتي لا كتنميق تلويني للرواية، ولكن لتعميق سرية فعل ما تريد أن تقوله الرواية بشكل شبه صامت. ويكون الرهان في مثل هذه الحالات أن تصبح الرسالة ضرورة لكشف خفايا الأرواح أو أحلام البشر وانشغالاتهم العاطفية والإنسانية، وليست زوائد لا تعمل إلا على تضخيم النص الروائي، دون إملاءات الضرورة الأدبية والجمالية. فإذا كان السرد جسد الرواية وعمودها الفقري الذي لا استقامة لها دونه، فالرسائل روحها العميقة التي تقول كل شيء من عمق الروح الغامضة والمظلمة التي لا يمكن للغة عادية أن تظهرها. وتصبح الرسائل سنداً حقيقياً لاكتمال النص الروائي تعبيرياً، بالخصوص عندما يريد الكاتب التعبير عن الإنسان في كليته. مثل رواية «العلاقات الخطيرة» لبيير شوديرلو دو لاكلو، الذي اختار بناء نصه على 175 رسالة كتبها في ظرف أسبوع ونشرها في 1782، التي كشف من خلالها أهواء العصر من خلال نبيلين مناورين كشفا خفايا قرن بكامله، في عز عصر الأنوار. رواية هيلويز الجديدة لجون جاك روسو، لم تخرج عن هذا السياق، وغيرهما من روايات الرسائل.
التفاتة خفيفة نحو الميراث العربي والعالمي تبين ذلك بوضوح، أتحدث هنا طبعاً عن الرسائل الأدبية التي تتوغل في عمق السردية الحديثة، وليس الرسائل المعرفية كرسائل ابن عربي، وإخوان الصفا، وابن رشد والغزالي، وغيرها، أو الرسائل الفارسية لمونتيسكيو، والرسائل الفلسفية لفولتير، ورسائل باسكال الصغيرة، وغيرها من الرسائل التي طبعت كل الثقافات العالمية في القرون الوسطى وما تلاها.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com