مقالات

سفاح بغداد… أسطورة ما زالت تثير الجدل.

بيدر ميديا.."

سفاح بغداد… أسطورة ما زالت تثير الجدل

 

 صادق الطائي

 

عدة جرائم قتل نفذها قاتل متسلسل في مطلع سبعينيات القرن الماضي في العاصمة بغداد، أثارت موجة رعب جمعي في بلد يبلغ تعداده حوالي 7 ملايين إنسان آنذاك، طريقة تنفيذ الجرائم وعشوائيتها وتناثرها في مساحة جغرافية واسعة من أحياء العاصمة، جعلت الأمر ملغزا ومحيرا ومدعاة لإطلاق نظريات مؤامرة بعدة اتجاهات، ومن عدة أطراف متعارضة في توجهاتها.
ربما لعبت مجموعة أحداث سياسية دورا في خلق أسطورة سفاح بغداد، الذي أعلن عن أولى جرائمه في أيلول/سبتمبر 1973، وقد اشتهر السفاح باسم مرتبط بوحشية جرائمه وهو (أبو طبر) لأن الناس اعتقدوا أنه يستخدم البلطة في قتل ضحاياه، وقد تزامن ظهور تلك الأسطورة مع ظرف سياسي حرج ومعقد كان العراق يمر به. فقد أعلن عن وقوع أول الجرائم بعد مرور شهرين على فشل المحاولة الانقلابية، التي نفذها مدير الأمن العام ناظم كزار التي استهدفت قتل رئيس الجمهورية ونائبه في 30 حزيران/يونيو 1973، لذلك شكّت دوائر اتخاذ القرار في الحكومة العراقية باحتمال وجود علاقة بين مرتكبي جرائم القتل وبقايا الانقلاب مع جهات مخابراتية أجنبية تحاول إطاحة النظام.
وقد قدم الدكتور أكرم المشهداني، وهو ضابط شرطة اشترك في عمليات التحقيق الجنائي في سلسلة الجرائم، كما أنه أستاذ علم الإجرام في جامعة بغداد، توصيفا علميا لحالة الرعب الجمعي التي سادت المجتمع إذ يقول «لقد تحوّلَ (أبو طبر) بفعل الإشاعة والسلوك الجمعي، إلى أسطورة ولفقت له أو نسبت إليه، أفعال وجرائم وتصرفات مبالغ فيها بفعل التهويل الناتج عن حالة الرعب التي سادت البلد في تلك الفترة، حتى تسمية الطبر كانت مخالفة للواقع الذي أثبت أن الجاني استخدم (قضيب حديدي) في ارتكاب جرائمه وليس (طبراً)» كما يشير المشهداني إلى أمر مهم حول شكوك النظام وأسطرته لجرائم (أبو طبر) إذ يذكر؛ «نتيجة الضغوط الشديدة على الأجهزة الأمنية للإسراع في كشف الجرائم، وتتابع الحوادث واحدة عقب الأخرى، سواء ضغوط السلطة، أو ضغوط الرأي العام الذي أصيب بالرعب الجمعي، وقعت الأجهزة الأمنية عموما وشرطة مكافحة الإجرام بشكل خاص في أخطاء فادحة، منها اعتقال أشخاص على أساس الاشتباه، ومنهم عدد من شقاة بغداد المشهورين، وأتذكر إنني قابلت أحد المعتقلين، كان ضابطا في الجيش، وكان معروفا قبل 17 تموز/يوليو 1968 بأنه من الجهاز الحزبي الخاص الذي كان يكلف بالمهمات الخاصة، وقد تعرض للتعذيب الشديد نظرا لأن الشكوك حامت حوله».

تزامن ظهور أبو طبر مع ظرف سياسي حرج يمرّ به العراق وبعد مرور شهرين على فشل محاولة انقلابية ضد النظام

ومن جانب آخر، كانت حكومة البعث قد أعلنت في 16 يوليو 1973 عن قيام «الجبهة التقدمية» التي تشكلت في إطار «برنامج عمل مشترك» لإقامة تحالف بين حزب البعث الحاكم والحزب الشيوعي العراقي وبعض الأحزاب الصغيرة. وكان هدفها المعلن السماح بمشاركة العمل السياسي مع خصوم البعث السابقين، لكن كانت هنالك بعض الأطراف رافضة للعمل المشترك مع البعثيين، على خلفية الإجراءات الدموية والقمعية التي نفذتها حكومة البعث الأولى عام 1963، إعلان «الجبهة» هذا سبق سلسلة جرائم (أبو طبر) بشهرين، لذلك ربط المعارضون بين ظهور موجة الرعب التي اجتاحت المجتمع العراقي، وخطط محتملة للنظام لتصفية خصومه من رافضي العمل في «الجبهة». وتذكر المصادر المختصة، أن القيادة العراقية عزلت واستبدلت وزير الداخلية ومدير الشرطة العام ومدير مكافحة الإجرام، نتيجة إخفاقهم في الكشف عن الجاني في سلسلة الجرائم التي هزت المجتمع خريف عام 1973، كما طلبت المساعدة من محققين مختصين بمكافحة الاجرام من الاتحاد السوفييتي وفرنسا، وقد حدد الخبراء الأجانب مواصفات جسدية محتملة للمجرم، ونفذت الحكومة إجراءات مشددة شملت إعلان منع تجول شامل في عموم بغداد وحملة تفتيش على مستوى كل أحياء العاصمة نفذت يوم الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1973، وتزامنا مع حملة التفتيش تم إغلاق مطار بغداد الدولي في وجه الملاحة الجوية. قاد حملة التفتيش القيادي البعثي طه الجزراوي، واشتركت في تنفيذها الأجهزة الأمنية وجهاز المخابرات وتنظيمات الحزب الحاكم، لكن المفارقة التي تسربت لاحقا أن (أبو طبر) قد اشترك في حملة التفتيش مع الجهاز الحزبي في منطقة سكناه في حي العامل والبياع في غرب بغداد، ولا توجد معلومات تؤكد أو تنفي ذلك.
شخصية سفاح بغداد (أبو طبر) واسمه الحقيقي حاتم كاظم هضم، كانت عاملا مؤثرا في أسطرة ما حدث، فهو شخصية إشكالية بالمعنى الحرفي للكلمة، كما أن سيرته تصلح لأن تكون سيرة بطل تراجيدي، إذ يشير ملفه الجنائي إلى أنه ولد في إحدى قرى قضاء المسيب في محافظة بابل عام 1932، أكمل الدراسة الابتدائية والمتوسطة ودخل مدرسة المفوضين، وتخرج فيها عام 1951 برتبة مفوض شرطة، وعمل في مدينة الحلة، لكنه فصل سريعا من الخدمة في سلك الشرطة عام 1952 نتيجة فساده الوظيفي. أكمل دراسته الثانوية والتحق بكلية القوة الجوية، وفي سنته النهائية فصل من الكلية عام 1956 لتسببه بإصابة طائرة التدريب بخلل نتيجة الطيش، إذ يذكر ملف خدمته أنه كان يروم استعراض مهارته بالطيران فوق دار خطيبته في مدينة المسيب. سافر إلى الكويت عام 1957 للعمل الحر، ثم عاد إلى العراق عام 1959 واشتغل بوظيفة محاسب جباية في دائرة أوقاف كركوك، لكنه ما لبث أن فصل منها بتهمة الرشوة، وحكمت عليه محكمة كركوك بالسجن لمدة سنتين ونصف السنة، سافر بعدها إلى أوروبا عام 1962 وتنقل بين بلجيكا والنمسا وألمانيا وسويسرا واليونان وإيطاليا والولايات المتحدة. استقر فترة طويلة نسبيا في ألمانيا الغربية، وعمل في تهريب السيارات والأسلحة بين ألمانيا ودول الشرق الأوسط، وكان يجيد عدة لغات، وقيل إنه تلقى هناك دورات متعددة في الفنون القتالية، كما تعرض للسجن في عدة دول أوروبية، وعاد إلى العراق مطلع السبعينيات. وحاول البحث عن عمل بعد تزوير عدة وثائق لتساعده في مسعاه، كما يشير ملفه الجنائي إلى أنه يفرط في التدخين وتناول الكحول، وأنه كان يهوى النساء ويقيم علاقات جنسية معهن، وكان يفضل الطبيبات، وكان لا يتردد في قتل ضحيته إذا امتنعت عن تلبية رغباته، إذن نحن أزاء سيرة مختلفة تماما عن النمط التقليدي لسير المجرمين العاديين.
إلا أن هنالك عدة مؤشرات، يمكننا أخذها في نظر الاعتبار في تفنيد الجانب السياسي من أسطورة (أبو طبر) فكل ضحاياه كانوا أشخاصا عاديين، ولم يكونوا شخصيات سياسية، حكومية أو معارضة، كما أن دافع السرقة كان واضحا في كل جرائمه التي اعترف بها بعد إلقاء القبض عليه، لكن ربما كان الطابع العنيف الذي تمثل بقتل عوائل كاملة بدم بارد في وضح النهار هو الجديد في سلسة جرائم سفاح بغداد. لكن من جانب آخر هنالك إشارات قوية جدا وشهادات لأناس عاشوا تلك الفترة لا يمكن إغفالها، ومن بينها ما كتبته جمان كبة في كتابها «شاهد عيان: ذكريات الحياة في عراق صدام حسين» الذي تناولت فيه أوضاع العراق في ظل الحكم الشمولي، ومن بين ما ذكرته الكاتبة، وهي شقيقة ليث كبة المعارض العراقي لنظام صدام، قصة اعتقال والدها المهندس مكي كبة، الذي كان يشرف على تطوير قطاع الاتصالات الهاتفية في وزارة الاتصالات، وضمن عمله الروتيني هو والفريق العامل معه في توفير خدمة مراقبة المكالمات الهاتفية، إبان أزمة جرائم (أبو طبر) لصالح مديرية مكافحة الإجرام، عثر الفريق العامل على مصدر مكالمة لها علاقة بالسفاح، واكتشفوا أن مصدرها من القصر الجمهوري، وبعد فتح تحقيق تقني بالموضوع اتضح تورط المخابرات العراقية بسلسة الجرائم. هذه الحادثة ترويها جمانة كبة بالتفصيل، وتذكر أن النتيجة كانت اعتقال الأب بسبب اكتشافه لهذا السر الخطير، إذ اعتقلته المخابرات العراقية وتعرض للتعذيب الشديد ثم لفقت له تهمة وسجن لمدة عام بحكم من محكمة الثورة. ولا بد من المرور على مفارقة مهمة ساهمت في خلق أسطورة (أبو طبر) وهي أن سلسلة جرائمه توقفت مع اندلاع حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وسرت حينها نكته مفادها أن (ابو طبر) ذهب للقتال في جبهة الحرب، وبعد عدة أشهر على انتهاء الحرب، نفذ المجرم جريمة سرقة أخيرة، تم بعدها إلقاء القبض عليه في محاولة سرقة في 30 آذار/مارس 1974، وعرض على شاشة التلفزيون الرسمي يدلي باعترافاته، ثم أعلن رسميا خبر محاكمته وتنفيذ حكم الإعدام به وببعض افراد عائلته ممن اشتركوا معه في الجرائم.
لكن الأسطورة تأبى أن تنتهي، إذ انتشرت اشاعة مفادها أن حكم الإعدام كان صوريا، وقد هرّب النظام قاتله المأجور إلى خارج العراق، ولم تنفع شهادة الطبيب العدلي الذي فحص جثة السفاح بعد تنفيذ الإعدام على تأكيد موت حاتم كاظم هضم، لانه كان قد تحول إلى أسطورة ما تزال تلفها ثنايا الجدل حتى الآن.
كاتب عراقي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com