مقالات

حياة وموت الـ«ماجستيك»

بيدر ميديا.."

حياة وموت الـ«ماجستيك»

 

 واسيني الأعرج

 

أرض بلا معالم، أرض يابسة، محكوم عليها بالموت والزوال. جريمة لا توصف تلك التي مورست على بعض الأمكنة الثقافية الرمزية في الجزائر. فقد ورثت الجزائر من الحقبة الاستعمارية أكثر من 400 قاعة سينما، بعد الاستقلال، موزعة عبر الوطن، بدل حمايتها وتدعيمها والعمل على توسيعها بقاعات أخرى، تمت إبادتها حتى اضمحلت نهائياً وقتلت، ولم يبق منها إلا العشر بعد موت جمهور السينما أيضاً الذي تخطى في السبعينيات عتبة 40 مليوناً من الأوفياء، (في بلاد لم يتجاوز عدد سكانها وقتها 20 مليوناً). وتحولت القاعات إلى صالات للأعراس، أو الفيديو، لا روح فيها ولا حياة، ولا حتى الحد الأدنى من الجمالية. كان يفترض استرجاع القاعات من الذين نهبوها بلا عقاب بعد الاستقلال وفضحهم، وتخصيص ميزانية حقيقية لترميمها، وفتحها على السوق العالمية التي ظلت توزع أفلامها حتى بعد الاستقلال في 1962. ماذا يعني الميراث إذن في ثقافتنا في ظل طاحونة الجهل والوطنيات الزائفة التي ظلت تتصيد العنصر الثقافي، كما محاكم التفتيش، ولا ترتاح إلا إذا دمرته، مع أن الحقبة الاستعمارية كانت قد انتهت، وكل ما على أرض الجزائر كان ملكاً لها؟ لقد تمت تنمية عقلية عدمية لا ترفض فقط ما لا يروق لها، لكن تطمسه، في كل المجالات الفنية. وبدل الاحتفاظ بالذاكرة حية وتوريثها للأجيال اللاحقة برؤية فنية وطنية متفتحة، راح سدنة العدمية يقومون بكنسها، وبغرس الرؤوس في الرمال، تفادياً لرؤية الخراب الذي صنعته أيديهم. قاعة واحدة شذت قليلاً عن هذا الموت المبرمج، صالة «الأطلس» الضخمة «ماجستيك» Majestic سابقاً. تستحق هذه القاعة العظيمة الحديث عنها اليوم في ظل هذا الاندثار المتسارع لكل ما كان يجعل السينما في الواجهة الثقافية العالمية. قاعة ماجستيك أسسها صاحبها جوزيف سايبيراس Joseph Seiberras (يوسف شايب الرأس) ودشنها في 1930. فقد كان سايبيراس يملك قاعة عرض صغيرة «بلاطو» في عاصمة الجزائر في العشرينيات، كما اشترى قاعة ريجونت Regent في شارع إيزلي (العربي بن مهيدي) في سنة 1922، وجددها كلياً لتصبح واحدة من أهم قاعات العاصمة، وأجملها، وأكثرها أناقة. هذا النجاح قاده إلى فتح قاعات أخرى في وهران، وسيدي بلعباس، ومستغانم في 1925. وفي 1928 اشترى «كازينو وهران» ليحوله إلى وكالة مختصّة لتوزيع أفلام المؤسسات السينمائية العالمية في الجزائر والمغرب وتونس، مثل مؤسسات: أفلام إينوفيرسال، فيلم دو فرانس، فيتوغراف، سوبرفيلم وغيرها.
قبل أن يقدم على المغامرة الحياتية الكبرى التي كلفته مالاً كبيراً، وجهداً مضنياً، لكن النتيجة كانت مبهرة. هذا الرجل العاشق للسينما، المشبع بها حد الجنون، كان يحلم بتشييد قاعة كبيرة، صالة عروض، تنافس القاعات العالمية المعروفة في بدايات القرن العشرين.
في زمن قياسي أنجز واحدة من أجمل وأوسع وأحدث وأرقى صالة سينما وعروض، في العالم «ماجستيك» في حي باب الوادي، الحي الذي كان يسكنه وقتها الوافدون من إيطاليا وإسبانيا. صُنفت القاعة وقتها كواحدة من أكبر عشر صالات عرض سينمائي ومسرحي وفني، في العالم. وهكذا منح سايبيراس مدينة الجزائر، قاعة استثنائية تستوعب 4000 شخص، ومجهزة بتكنولوجيا العصر المتقدمة. شيء لا يمكن تصوره بسهولة في ثلاثينيات القرن الماضي. ولتنفيذ هذه المَعلمَة العظيمة، استلف من البنك مالاً كبيراً، وباع قاعته الصغيرة، كما احتاج إلى 1500 متر مربع من الأرض، في حي باب الوادي. وجاء باليد العاملة المحترفة من أقاصي البلاد وإيطاليا. استعان بصديقه الفنان النحات علاء فيليب Alaphilippe للإشراف على ديزاين غاليري وحانة الـ «ماجستيك» فكانت النتيجة مذهلة، واحدة من أعظم وأجمل قاعات السينما في العالم. بتقنية غريبة وفريدة في وقتها، أدهشت كل عشاق الفن السابع، يقوم البلكون الواسع على عمودين ضخمين يتحملان ثقل أكثر من 200 طن. لا يوجد سقف تقليدي لكن فضاء مفتوح على السماء، وعطر البحر وأشجار البرتقال. بإمكان المشاهد ليلاً أن يرى النجوم وهو يشاهد فيلماً أو مسرحية، أو يستمتع بسهرة موسيقية. كان سقف القاعة بطول 23 متراً في 13 متراً. في حالة الأمطار والرياح، تكفي دقيقة واحدة لتلتقي القطعتان المعدنيتان بصمت، وتنغلقا بإحكام، من دون حتى أن ينتبه الجمهور لذلك. الركح، أو منصة الصالة، جهزت لتكون قادرة على استيعاب أكثر من 400 ممثل وفنان ومسرحي؟ قاعة العروض كانت مجهزة بأحدث الوسائل التي لا يمكن تخيلها في وقتها. وقد كلف هذا المنجز الاستثنائي ثلاثة ملايين فرنك في ذلك الوقت.
يمكن اعتبار جوزيف سايبيراس أكبر وأول مؤسس للصناعة السينمائية في الجزائر وقتها. كل هذا الغنى لم يعد اليوم موجوداً. تم محو هذه الذاكرة كلياً. فقد أصبحت القاعة الضخمة يتيمة، باردة وثقيلة، منعزلة في فراغ ثقافي كبير، في ظل ديكور طبيعي مبهر يحده البحر والجبال، يمر صامتاً أمام أعين العابرين والجيل الجديد الذي لا يعرف شيئاً عن الـ «ماجستيك» سوى كونها قاعة حفلات كبيرة، ونشاطات سياسية سخيفة وجاهلة. صحيح أن القاعة أنقذت من الموت الذي طوى تاريخ أكثر من 400 قاعة، ورممت بشكل حفظها من التلف، لكن تغيير اسمها من «ماجستيك» إلى قاعة «الأطلس» أفقدها ذاكرتها. فقد قتلت التسمية الجديدة ليس فقط الاسم القديم «ماجستيك» الذي لا توجد به أي رمزية استعمارية استفزازية، لكن أيضاً تاريخ تلك القاعة العظيمة التي استقبلت في وقت من الأوقات كبار الفنانين والمسرحيين والسينمائيين العالميين، يكفي أن نذكر في هذا السياق الفنان العالمي بول أنكا Paul Anka. كما استقبلت في جانفي 1968 الفنانة العربية فيروز حينما أحيت سهرات في العاصمة ووهران وقسنطينة وعنابة. حتى الديكور العام الذي كان يحيط بالـ «ماجستيك» تغير كلياً، والشارع أيضاً. قُتل المقهى- بار «براسري ماجستيك» الذي كان يستقبل الجمهور قبل وبعد العروض، وأغلق نهائياً بحجة أنه يواجه «مسجد التقوى» الذي حلّ محل الكنيسة الصغيرة «سان- فانسون – دو بول» وما يزال إلى اليوم يحمل علاماتها، مع أنه ليس مكانه أبداً. اشترط رواد المسجد توقيف نشاط المقهى- بار لأنه يسيء إلى المسجد. فكان لهم ذلك في ظل جبن مؤسسات الدولة. ثم أوقف الإسلاميون في التسعينيات الكثير من النشاطات بحجة أنها تعيق تركيز المصلين أيام رمضان. ومنعوا المغنية العالمية ليندا دي سوزا من تنشيط سهرة كبيرة في «الأطلس» (ماجستيك) كما حاولوا منع المغني والفنان والشاعر الجزائري الأمازيغي الكبير آيت منقلات من إحياء سهرة فنية بنفس الحجج، لكن تجند محبي الفنان والمجتمع المدني أجهض المحاولة ونظمت السهرة، ولبست النساء الأمازيغيات أحلى ألبسة منطقة القبائل النارية. كان يمكن أن يبقى المقهى- بار المرتبط بالقاعة في مكانه، وأن تبقى الكنيسة على حالها كمكان عبادة للأقلية المسيحية في باب الوادي دون تناقض ثقافي مع طبيعة قاعة «الأطلس» إيكس «ماجستيك». هذا المناخ شبه الحربي الذي عاشته الجزائر في التسعينيات وما قبلها بقليل، أفقد القاعة قوتها وتأثيرها الثقافي، وحوّلها إلى بناية باردة لا تثير انتباه العابرين الذين يمرون بالقرب منها آلاف المرات، دون أن تعني لهم شيئاً يذكر.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com