مقالات

نقاش هادىء حول المسألة الكردية ( عودوا عن غيكم )

نحن الفلسطينيين اكثر الناس تعطشا لممارسة حق تقرير المصير في مواجهة العنصرية الصهيونية و المحاولات الدائبة لترجمة هذه السياسة بممارسة كل اشكال القهر على الشعب الفلسطيني تمهيدا لتهويد الكيان الاسرائيلي بكل ما تعنيه الكلمة من تصفيات عرقية و ترانسفير جديد لمئات الالاف من الجليل و النقب .

لذلك فنحن من اكثر شعوب الكون تعاطفا مع الشعوب التي تناضل من اجل تقرير مصيرها، و لذلك ربطتنا علاقة نضالية حميمية مع الكرد، حيث اختلط الدم الفلسطيني – الكردي في ساحة مواجهة الاعتداءات الاسرائيلية و من ساندها، و كنا دائما مع نيلهم حقوقهم القومية في تعلم و استخدام لغتهم و حقهم في ادارة انفسهم بانفسهم في المناطق التي يشكلون فيها اغلبية السكان، و كنا و لا زلنا ضد اي تمييز عنصري يفرض عليهم لانهم هم مكون هام من الفسيفساء الاجتماعية التي نتغنى بثراء منطقتنا بها، فاتخذنا موقفا صريحا ضد الغاء مواطنيتهم في بعض بلدان المنطقة.

ان حق تقرير المصير حق لا جدال فيه على ان يلبي مصلحة الجماهير بلا اي ارتجال او تطير او مغامرة بابناء الشعب، فالاكراد قد خاضوا تجارب عديدة في العصر الحديث في عشرينات القرن الماضي، لم يكتب لها النجاح، فمن جمهورية ارارات الكردية المستقلة، جمهورية كردستان الحمراء على جزء من اذربيجان، الى مملكة كردستان حيث نصب محمود البرزنجي ملكا عليها في السليمانية، كلها محاولات لم تعمر، بل دفنت في مهدها، حتى بعد انتهاء الحرب الكونية الاولى و هزيمة الدولة العثمانية قرر الحلفاء الغربيون في معاهدة ” سيفر ” ان يمنحوا الاكراد دولة، لكن معاهدة لوزان اتت لتلغيها و رسمت بدلا عن ذلك الحدود التركية الحالية بزعامة اتاتورك، مما يعني عدم السماح بوجود دولة كردية حينها.

و لنتناول التجربة الاقرب الى الذاكرة و هي ” جمهورية مهاباد “، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، في ظل تكون حركة قومية تحررية كردية نتيجة لحرمان الكرد من التمتع بالحقوق القومية و السياسية اسوة بباقي الشعوب في ايران في ظل دستور 1906، تشكل الحزب الديمقراطي الكردستاني الايراني بزعامة ” قاضي محمد ” في ظروف دولية احتدم فيها صراع النفوذ على البترول بين القوى العظمى و خاصة بين روسيا ” الاتحاد السوفياتي ” التي اجتاحت اجزاء واسعة من ايران و تلكات بمغادرتها، حسب اتفاق الحلفاء المنتصرين في الحرب و بين بريطانيا الطامحة لوراثة اراضي الدولة العثمانية، فشجع السوفيات يومها على انشاء دولة مهاباد بزعامة ” قاضي محمد ” فتشكلت عام 1946حكومة برئاسته و صدر دستور في البلاد و تشكلت قوة عسكرية محلية بقيادة الملا مصطفى البرزاني ” والد رئيس اقليم كردستان الحالي مسعود برزاني “.

شاءت التوازنات الدولية ان تنسحب القوات السوفياتية من الاراضي الايرانية، فاستفرد شاه ايران و البريطانيين بالدولة الفتية و سرعان ما اجتاحوها و جرى تصفيتها بعد 11 شهر من اعلانها و اعدم قاضي محمد و عدد من معاونيه عام 1947، بينما انسحب الملا مصطفى البرزاني مع بعض قواته منها.

و بعد صراع مرير حاز الاكراد على حكم ذاتي في العراق و تشكلت حكومة كردية من الحزبين الرئيسيين ” الديمقراطي و الاتحاد الوطني ” و لا اريد الخوض في التفاصيل لانها حاضرة في ذهن غالبية المهتمين بمتابعة امور المنطقة، هذه المنطقة التي تشهد حروبا طاحنة استجابة لسياسة الفوضى الخلاقة التي زرعتها الادارة الامريكية لتنبت صراعات طائفية و اثنية سعيا منها في اعادة رسم خريطة المنطقة و شرذمة الاوطان القائمة، مسخرة في ذلك استثمارها لقوى ارهابية جمعتها باموال النفط الخليجية من كل اصقاع العالم.

في خضم ذلك حاولت الادارة الامريكية ان تحول القضية الكردية الى مجرد ورقة استخدامية للوصول الى ماربها في تفتيت الانسجة الاجتماعية التاريخية التي تعايشت مكوناتها على مر العصور بتداخل فسيفسائي بديع، ليعلن مسعود البرزاني عن عزمه على اجراء استفتاء لفصل اقليم كردستان عن العراق، فشاهدنا و سمعنا بان الاكراد انفسهم لم يجمعوا على ذلك ناهيك عن رفض الحكومة العراقية و برلمانها و الدول المجاورة لهذا الاجراء، بل ذهبت الحكومة التركية الى اعتبار الاستفتاء بمثابة مساس بامنهم القومي، حتى الولايات المتحدة الامريكية طالبتهم بالتاجيل. فقط اسرائيل التي اعلنت تاييدها، لا بل تشجيعها على هذا الاجراء !.

ان اسرائيل التي تغلغلت في اقليم كردستان و بعض المناطق العراقية الاخرى بمؤسساتها و شركاتها الامنية التي رافقت الغزوة الامريكية للعراق و بشراء العقارات في اربيل و غيرها، فاسرائيل لها مصلحة في ان تجد كيانا عنصريا شبيها بها لتبرر وجودها الشاذ في منطقة الشرق الاوسط، فهم لا يريدون استقلالا للشعب الكردي، بل يريدون استغلال احلامة في مغامرة ستعود بويلات جديدة على هذا الشعب المكافح و السيد مسعود البرزاني يعرف قبل كثيرين من غيره، كيف ان اسرائيل حاولت ابان الحرب الداخلية في لبنان في سبعينات و ثمانينات القرن الماضي تشجيع قيام كيانات طائفية لشرذمة ذلك البلد الصغير و ابتدات بسلخ الجنوب و تشكيل جيش لحد في شريط على الحدود مع فلسطين المحتلة، حتى الادارة الامريكية في حينها كانت مع وحدة لبنان، طبعا ليس على سواد عيون الوحدة، انما لتكون منطقة عبور ارحب الى المنطقة.

و راينا كيف اعطي الضوء الاخضر للقوات السورية ان تدخل كقوة ردع للحفاظ على التوازن الطائفي، فتمنع التطورات باتجاه نظام ديمقراطي يسود البلاد و تمنع في نفس الوقت قيام كيانات انعزالية، و لنضرب مثلا اكثر حساسية، ففي حرب الخليج الثانية وصلت القوات الامريكية الى تخوم بغداد و تمردت كل المحافظات، لكن بعد ذلك جرى الصمت الدولي على اجتاح الجيش العراقي لكردستان و لوحق ملايين الاكراد الى الحدود التركية و الايرانية.

ان ما يجري اليوم هو مغامرة بمصير و حياة الكرد ، فان الدول الغربية العظمى التي منعت تنفيذ معاهدة سيفر، لازالت في مركز القرار الدولي و حتى اسرائيل لن تضحي في النهاية بعلاقتها الاستراتيجية مع تركيا كرمى عيون الاكراد، و حتى بعض البلدان و الاحزاب التي تحمست للخطوة اشترطت مراعاة القوانين و الاجراءات الدستورية، فليثب الجميع الى رشدهم ، فان النضال من اجل وطن ديمقراطي موحد في رايي هو السبيل لنيل كل المكونات الاجتماعية حقوقها القومية الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية وهذا وحده الذي يسقط البرامج الاثنية و الطائفية و العشائرية و يقود الى لفظ التمييز و تطبيق المساواة في المواطنة، فالشعب الكردي ليس بحاجة الى ابتلاء جديد، فالتطير و الارتجال لا يبني مجتمعات.

 

بقلم الكاتب

محمد قدورة

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com