منوعات

لقائي الوحيد مع نوال السعداوي.

بيدر ميديا ..

لقائي الوحيد مع نوال السعداوي

 

غادة السمان

 

أسفت لرحيل نوال السعداوي، وكان لقائي بنوال مميزاً، فلم يكن بيننا اتصالات هاتفية تمهيداً لموعد محدد، بل جاءت ببساطة إلى فندق هيلتون/ النيل حيث كنت.

نوال السعداوي بلا أقنعة

علمت السعداوي يومئذ بوجودي في القاهرة من الصحف ومكان إقامتنا (عريسي) وأنا، مع الدكتور رفعت السعيد، وكنا على موعد معه لتلبية دعوته لنا على الغداء.
وجاءت نوال، وكان زوجي والدكتور رفعت في الصالون في انتظار أن أهبط من الغرفة لنذهب. كنت أقوم بارتداء ثيابي وإصلاح زينتي حينما قرع باب غرفتي في الفندق. وفتحت الباب فإذا بي وجهاً لوجه أمام نوال السعداوي التي عرفتها فوراً من صورها، ورحبت بها بسرور، ودعوتها للدخول قبل الهبوط إلى صالون الفندق لننضم إلى زوجي وإلى الدكتور رفعت السعيد.

تحرير الرجل العربي أيضاً

كانت تربط زوجي علاقات حميمة مع الكثير من المثقفين المصريين بحكم داره للنشر (الطليعة) ومجلته الشهرية (دراسات عربية) وعمله أيضاً أستاذاً في الجامعة الأمريكية. بينما كنت أصلح زينتي استعداداً للهبوط إلى صالون الفندق، لم تضع د. نوال الوقت، بل تحدثت معي مباشرة وبصراحة عن «تحرير المرأة العربية» وطلبت مني أن أضم صوتي إلى صوتها في كتاباتي لنشكل معاً حلفاً أبجدياً.
وقلت لها بصراحة مباشرة أيضاً ما معناه: لن تنال المرأة قضمة من رغيف الحرية إذا لم يتحرر الرجل العربي أيضاً. إنه مظلوم في حقل حرياته، والمرأة مظلومة المظلومين، والرجل ليس عدوها بل حليفها الممكن من أجل نيل حقوقها في أوطان عربية بعضها لا يحترم حقوق الطرفين. حين التقيت مع العزيزة الراحلة نوال لم يكن في رصيدي غير كتابين هما: «عيناك قدري» و»لا بحر في بيروت». لكن أفكاري كانت تغلي في اتجاه بعيد عن تحرير المرأة وحدها أو ظلم الرجل لها، والمجتمع الأبوي الذي تتحدث عنه نوال السعداوي. وكنت أريد الحرية لكل مواطن عربي رجلاً كان أم امرأة.

قطعة اللحم الكبيرة للصبي!

تقول نوال السعداوي في حوار لها مع عبد العزيز جرير، بتاريخ 16-7- 2015: «كنت أغضب للتمييز بين الولد والبنت، ومنه تفضيل أخي علي». إذاً، ثمة عامل شخصي خلف ثورتها من أجل تحرير المرأة، وهو ما لم يحدث أن عانيت منه، وكان والدي يعاملني وأخي بالتساوي. وجعها العائلي -أعني نوال- منذ صغرها، جعلها في إحدى رواياتها تكتب مشهداً رائعاً فنياً، وهو أنهم وقت الطعام كانت الأسرة تعطي قطعة اللحم الكبيرة للصبي، والصغيرة للبنت. وتتحدث بشجاعة في حوارها مع عبد العزيز جرير (من طنجة) عن ختان المرأة.
وأعترف أنني لم أكن قد سمعت بذلك الظلم الجسدي للمرأة منذ طفولتها إلا من نوال السعداوي.

كانت تستحق جائزة نوبل للسلام

لم تكن نوال في نظري روائية كبيرة بسبب أحادية النظرة في رواياتها المكرسة لتعرية الظلم الواقع على المرأة، ولكنها كانت تستحق جائزة نوبل للسلام لأنها فضحت عالمياً حكاية «ختان المرأة» لحرمانها من المتعة الجنسية وتكريسها كعبدة منزلية، وأعترف ثانية أنني لم أسمع بحكاية «ختان المرأة» بقص جزء حساس من جسدها إلا من نوال السعداوي، فهذه العادة (الرهيبة) غير موجودة في سوريا ولبنان، حيث كبرت وعشت مراهقتي، ولم أسمع بحكاية «ختان البنت» ولم أسمع أنه حدث يوماً لأنثى ما، في سوريا ولبنان على الأقل. وهكذا قامت نوال السعداوي بفضح هذه الحقيقة، ولعل ذلك أنقذ آلاف النساء في العالم من ذلك المصير المرعب والعقاب لمجرد أنها أنثى. وفي الغرب حين تمارس بعض الأسر المهاجرة من إفريقيا تلك العادة على بناتها، يتم الحكم على الفاعل والمحرض بالسجن لأعوام.. وهكذا نجت المرأة في الغرب من تلك الممارسة البشعة التي لم يسمع بها الكثيرون لو لم تفضحها نوال السعداوي كطبيبة، ونقلت ما يدور بكل شجاعة مما قد ينقذ آلاف الصبايا في كوكبنا من هذا المصير الأليم الظالم.

النقاد المسنون والكاتبات الشابات!

تقول نوال السعداوي في حوار لها: «معظم النقاد الذكور تجاوزوا الستين عاماً، وكم ينجذبون إلى الكاتبات الصغيرات تحت العشرين.. ولا يريدون كاتبات كبيرات في السن مثلي أو مثل فاطمة المرنيسي.. وبسبب انجذابهم إلى الفتيات الصغيرات يكتبون عنهن» وهو رأي عبرت عنه في العديد من المنابر، وأخالفها فيه تماماً، وكتبت ذلك ورددت عليها دون أن أذكر اسمها كي لا أخدش شعورها واحتراماً لتاريخها الأدبي.
فهذا الرأي في نظري مبعثه الغيرة الشخصية، ناهيك عن الاتهام بدون دليل. ونهر الإبداع لا يجف ويتوقف أمام مبدعات في سن نوال السعداوي يومئذ وسواها، بل يولد باستمرار جيل جديد من الشابات الكاتبات من الجميل أن يشجعهن النقاد دون افتراض سوء النية بسبب شبابهن، بل بسبب عطائهن الإبداعي.
الأدب نهر من الإبداع تصب فيه كتابات لرجال ونساء لشابات وشبان، والنقد الإيجابي لنقاد تجاوزوا سن الشباب لا يصح أن يكون موضع اتهام أو انتقاد لمجرد فارق السن. ولكن نوال كررت هذا الانتقاد مرات، ناسية أن الإبداع ليس مستنقعاً، بل هو نهر تصب فيه الإبداعات العربية النسائية والرجالية عاماً بعد آخر.
والقضية ليست حكاية إغراء شابات لنقاد ذكور تجاوزوا سن الستين!

وداع منذ اللقاء الأول

بعد لقائنا الأول، لم تحاول نوال الاتصال بي لنكون حلفاً ضد الرجال كما تمنت.. وقد كانت لدي وجهة نظر مختلفة عبرت عنها دائماً. ففي حوار لي مثلاً مع رشا المالح (منشور في كتابي «تعرية كاتبة تحت المجهر») حين سألتني قائلة: معظم الكاتبات في العالم العربي أبطالهن من النساء، أما أنت فتحكين في العديد من رواياتك وقصصك بلسان الرجل وعوالمه الداخلية. ما هي الأسباب والعوامل التي مكنتك من الكتابة عن مكنوناته وآلية تفكيره؟
وأجبتها بما أجبت به نوال السعداوي في لقائنا الأول الذي كان وداعاً أيضاً، لأنه الأول والأخير: الرجل العربي معجم جماليات وتناقضات وشرور ونبل وعطاءات لها جذورها في تراثنا الحضاري، وكل ما أفعله أنني أغرف من المنجم بدلاً من الدخول إلى شرنقة همومي كأنثى دون أن أنكرها، بل وأعلنها لكن في ضفيرة متشابكة مع هموم رفيقي المواطن الذكر. المطلوب فقط ألا تشعر الكاتبة بأنها محور العالم، وأن الذكور مجموعة من المروضين للأنثى في «سيرك» الحياة العربية الاجتماعية.. لم يكن في وسعي الإشاحة بوجهي عن أحزان الرجل العربي وهمومه مع هواجسه ومخاوفه ومعاناته وجمالياته وشروره. لم يكن في وسعي ذلك كله لأنني كاتبة لها همومها الإضافية كأنثى عربية.
قلت ذلك كله في لقائي اليتيم مع نوال السعداوي، ونختلف في الرأي، لكنني ظللت أحتفظ لها باحترامي لصدقها في كل حرف كتبته، وشجاعتها في قوله، وجرأتها.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com