مقالات

الثقافة العربية … هموم وشجون.

بيدر ميديا ..

الثقافة العربية … هموم وشجون

 

الدكتور/ضرغام الدباغ

drdurgham@yahoo.de

القسم الأول

 

في مطلع الثمانينيات، عرضت القناة الثالثة في تلفزيون ألمانيا الاتحادية وضمن البرنامج الثقافي (أيرنا) ندوة مهمة كان يديرها ويحضرها عدد من العلماء الألمان من اختصاصات شتى، ينتمون إلى جامعات ومعاهد ومؤسسات علمية مختلفة. و موضوع الندوة الذي كان البحث يدور حوله هو :(حماية الثقافة واللغة الألمانية) واستطراداً، عناوين ومفردات أخرى مهمة في الحياة الاجتماعية الألمانية عن تسلل ثقافات أجنبية. فقدم العلماء الألمان معطيات دقيقة مدعمة بالإحصائيات تعبر عن حجم هذا التسلل الذي أعتبر في وقته كبيراَ. وخلاصة ما دار في هذه الندوة الهامة، أن اللغة والثقافة الألمانية تواجه خطراً لا يستهان به في المستقبل القريب والبعيد. وبعد عقد من السنوات أو أكثر، أعلن رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية في كلمة له أمام مؤتمر البرلمانيين الدولي : ” إن على شعوب العالم أن تأخذ حذرها مما يسمى بالثقافة العالمية التي تدمر الهوية القومية والثقافية للشعوب”. وبعد ذلك اتخذت الدولة الفرنسية قراراً بمنع استخدام ألفاظ أجنبية في اللغة الفرنسية، منها كلمات بسيطة وشائعة.

 

ويحق لنا هنا أن نتساءل ونتأمل، إذا كان شعباً كالألمان أو الفرنسيين، ذوو الأمجاد الثقافية والاقتصادية والحضارية عامة من جهة، وقربهم من ثقافة وحضارة الثقافات المتسللة إليهم من جهة أخرى، يطلقون نداء التحذير ويتخذون الإجراءات المضادة، فما هي إذن المخاطر التي تتعرض لها أمم وشعوب هي في الواقع شبه عزلاء، لهجمة شرسة عاتية لا تبقي ولا تذر..؟ وإذا كانت الثقافة العربية تمتلك دروعاً ومعدات، وحصوناً منيعة، ترى ماذا يمتلك شعب بوركينافاسو مثلاً كي لا يفقد آخر ما يمتلك من مقومات الهوية الوطنية والقومية..؟ وهو لا يمتلك أساساً الكثير منها بسبب تعرضه لقرون طويلة، ولا يزال، للاستعباد وعمليات صيد وقنص للبشر، ونقلوا إلى قارات أخرى واستخدموا كعبيد هناك، أو تجنيدهم في الحروب والغزوات الاستعمارية لضم وإلحاق بلداناً أخرى إلى ممتلكات الدول الاستعمارية.

 

ولابد لنا ابتداء أن نؤكد على حقيقة مهمة، هي أن النظام الرأسمالي الاحتكاري لا يهتم كثيراً بالثقافة بوصفها نشاطاً أو موقفاً إنسانياً رفيعاً يسمو فوق نزعات النهب والاستعباد، وما هو إلا نشاط ترفيهي يهدف إلى التسلية، وفي هذا المجال يكتب المفكر الأمريكي جون نيف الأستاذ بجامعة هارفارد قائلاً: ” منذ ظهور الصور المتحركة والمجلات والراديو والتلفزيون في النصف الأول من القرن العشرين، شاعت فكرة مؤداها أن مستوى النجاح مرهون بعدد القراء والمشاهدين، وهكذا أزداد توجه وسائل الإعلام إلى تلبية طلبات ذوي المستويات الثقافية المتدنية الأفق بحجة أن هذه هي الوسيلة الأنسب لزيادة الأرباح. وهكذا أبتدع أصحاب الصحف ورؤساء تحريرها أناساً يتصفون بالفراغ الفكري والابتذال واللامسـؤلية والشـهوة”.

 

وقد غدت هذه التوجهات في أعلى مراحل تطور نظام الدولة الرأسمالية الاحتكارية خطوة على طريق دمج شعبها وشعوب أخرى ضمن نسيجها الاقتصادي والسياسي بالدرجة الأولى، وتكريس هذا الواقع من خلال قطع الأواصر التي تعبر عن كيانها وشخصيتها المستقلة واحتقار تقاليد وعادات الشعوب الأخرى وثقافتها وموروثاتها. والهدف النهائي هو : استنزاف قدراتها الاقتصادية وقوة العمل البشرية فيها، وأخيراً جعل هذه الشعوب والبلدان توابع ثقافية وسياسية، ولكن بالدرجة الأساس، جعلها وسطاً اقتصادياً تابعاً لا يمتلك أي طاقة روحية للنهوض، وإسناد دور نهائي لها في تقسيم العمل العالمي، يتمثل بتصنيع المكونات الثانوية أو الإمداد بالمواد الخام، أو ميداناً لنشاطات الشركات المتعددة الجنسية، وهذا الأمر لم يعد مقتصراً على منطقة واحدة، بل أنه موجه إلى أقطار العالم كافة لاسيما البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وفي هذا المجال يكتب الأستاذ البرازيلي كاردوز قائلاً : ” هناك تبعية تنجم بالنتيجة، وهي تبعية متعددة الأوجه، سياسية واجتماعية وثقافية وعسكرية، بل أن عمليات التشكل الطبقي والفئوي تتأثر بالتبعية بشكل بالغ ” .

 

والحق فأن مثل هذه الفعاليات ليست جديدة تماماً في سياسة الدول الإمبريالية، فالشركات المتعددة الجنسية مثلاً وأساليب تغلغل رأس المال الاحتكاري معروفة منذ عقود غير قليلة، وكذلك فاعلية التأثير الثقافي الذي مارسته الدول الاستعمارية منذ فترة طويلة حتى في فترات ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها، حيث انتشرت المؤسسات التعليمية الأجنبية حتى على مستوى الجامعات والمراكز والمعاهد الثقافية والإصدارات من الصحف والمجلات، بل وتأسيسها لدور النشر في مراكز عديدة من العالم منها أقطارنا العربية، وهذه المساعي مشخصة بدقة في العديد من البلدان النامية، وفي هذا المجال يكتب المفكر والمناضل الفرنسي / المارتنيكي فرانز فانون   عام 1961، أن الاستعمار يهدف في جملة ما يستهدفه، نسف المقومات الثقافية القومية للشعوب المستعمرة قائلاً : ” أن الاستعمار لا يكتفي بتكبيل الشعب ولا يكتفي بأن يفرغ عقل المستعمر من كل شكل ومضمون، بل هو يتجه أيضاً إلى ماضي الشعب المضطهد فيحاول بنوع من فجور المنطق أن يهده وأن يشوهه وأن يبيده. إن هذه المحاولة التي يحاولها الاستعمار إذ يجرد فيها تأريخ البلدان المستعمرة السابق على الاستعمار من كل قيمة، إنما تتخذ اليوم دلالاتها” .

 

وإذ لا يمكننا تجاهل الدور الثقافي والعلمي التنويري الذي مارسته هذه المؤسسات الأجنبية، لابد لنا من ذكر حقيقة موضوعية، أنها لم تكن تفعل ذلك هبة منها لوجه الله، بل كان ذلك ضمن مخطط له صفحاته التفصيلية، وبصفة خاصة، تسابق الفرنسيون والأمريكان والإنكليز والإيطاليون، فتنافست هذه الأطراف فيما بينها، بدا في بعض مراحله تناحرياً من أجل إحراز النفوذ الثقافي، وليس أدل على ذلك، حجم الأنشطة والفعاليات الثقافية التي كانت تتنازعها تيارات الثقافة الأنكلوسكسونية والفرانكفونية، بل وفي مرحلة ما بين الحربين العالميتين، حيث كانت إيطاليا تسعى لتكريس نفسها كقوة عالمية، والهيمنة على البحر الأبيض المتوسط وجعله بحيرة (رومانية)، استخدمت بدورها المدفعية الثقافية، ففي العام 1937 سجل تصاعد مثير للدهشة رقم المدارس الإيطالية في مصر إلى رقم مدهش: 64 مدرسة تضم أكثر من 10 آلاف طالب، مقابل 39 مدرسة بريطانية تضم 5 آلاف طالب !

 

وجدير بالذكر والإشارة، أن هذه الأطراف الاستعمارية والإمبريالية أدركت أن أحد مكامن قوة الأمة العربية هي في لغتها، فسعت دون هوادة إلى إضعاف أسس هذه اللغة وذلك بمحاولات إبدال الحروف العربية باللاتينية كمقدمة لتحجيم تطورها و إضعافها وتلاشيها على المدى البعيد، فحاولت ذلك في مصر ولبنان وإلى فرض اللغة الأجنبية على عرب شمال أفريقيا وبلاد الشام وإحلال الثقافة الفرنسية فيها، والإنكليزية في مصر والسودان والأردن، وقد بذلت مجهودات كبيرة في هذا الاتجاه ولكنها باءت بالفشل الذريع.

 

ومن جملة مساعي الدوائر الثقافية الاستعمارية كانت ولا تزال تهدف إليه، إحلال اللهجات المحلية بدلاً من الفصحى، وكذلك في محاولاتها لإبراز خصائص معينة في ثقافة كلا قطر وتقديمها بشكل يطغي على الخصائص الموحدة للثقافة العربية وفي مقدمة ذلك اللغة العربية الفصحى، فسعت إلى الفينيقية في لبنان وإلى القبطية في مصر واستغلت في مساعيها المحمومة والخبيثة كل مكامن الضعف والثغرات، أو سعت بنفسها إلى خلقها وأحياء المتلاشي منها واستنهاض الضعيف فيها واستخدمت لهذه الغاية عناصر مرتدة، ارتضت للأسف التعاون مع الأجنبي لأسباب شتى، وربما أعتقد قسماً من هؤلاء(تحت ضغوط شتى) أن اعتناق ثقافة أجنبية وهي ثقافة القوى العظمى ستمنحه قيمة مضافة.

واليوم إذ تشتد أوار الحملة الإمبريالية بكافة صفحاتها على بلادنا العربية ليست الجبهة الثقافية إلا صفحة منها، ربما الأكثر بروزاً بسبب تعاظم شأن الثقافة العربية والمجتمعات العربية، وذلك أمر لا نخفي سرورنا منه، ففي مطلع القرن العشرين كان الجانب الثقافي يأتي بعد الجانب السياسي والاقتصادي لعدم خطورة المستوى الثقافي العربي آنذاك، وكان التناقض الرئيسي الذي يلهب قضايا النضال الوطني والقومي، هو الاحتلال المباشر بقبعته ذات الريشة الحمراء يختال في شوارع مدننا، كما كان النضال ضد الوجود العسكري والقواعد الأجنبية والكفاح لاستعادة ما استولى عليه الأجنبي من مصادر الثروة القومية، كان شعار التحرر الوطني والقومي في المرحلة اللاحقة، والعامل الثقافي كان خلف هذه الأوليات، ولربما أيضاً بسبب ضعف الوعي الثقافي، أو بسبب تعطش الجماهير إلى الثقافة بغض النظر عن مصدرها، فقد بدت براقة وجذابة، وكان مستوى تخلف المجتمعات العربية موجعاً، لذلك ارتضت الجماهير السم المداف في عسل الكلام.

 

وعلى الرغم من بدائية من بدائية التنظيم والوسائل والتنسيق، كان رد فعل الجماهير قوياً غريزياً وعفوياً في كثير من الأحيان، فقد أخفقت كل تلك المساعي على ضخامتها من جهة، وضعف جبهتنا السياسية والثقافية من جهة أخرى، وهزمت شر هزيمة ومن المؤكد أن لذلك أسبابه. ففي دراسة عميقة لحجم الفعاليات الاستعمارية في مؤلف هام صادر عن جامعة لايبزج بألمانيا عـام 1972، يشير إلى سعة الهجمة الاستعمارية وضخامتها مع غياب مواجهة حقيقية بينها وبين الثقافة العربية التي كانت قد نهضت لتوها في مطلع القرن العشرين من سبات عميق أستغرق قرون طويلة، منذ سقوط بغداد عام 1258، وفي غياب حكومات أو ممثلين للإرادة العربية، تصيب الدهشة كل من يطلع على تلك التفاصيل، إذ كيف استطاعت هذه الأمة الصمود وإلحاق الهزيمة بتلك القوى المتفوقة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وهي على هذا النحو من الضعف والتشتت..؟

 

ليس هناك من إجابة منطقية سوى أن الجذر الثقافي لهذه الأمة بالغ العمق وثقتها بنفسها هائلة وعلى درجة كبيرة من الثراء الروحي والنفسي، يمنحها كل ذلك قدرة غير محدودة على امتصاص زخم الهجوم والتسلل الدخيل، في مطاولة أصابت بالعجز اعتي الإمبراطوريات والغزاة على مر التاريخ والعصور.

 

فالأمة العربية تمكنت بنجاح(ليس بدون تضحيات بالطبع)من التصدي للغزو المغولي والصليبي، رغم أنها كانت تعاني من التمزق والتشرذم وأفول مجد الدولة العربية الإسلامية، وفي مراحل لاحقة بدت فيها الأمة العربية أكثر انسحاقاً وتخلفاً وابتعاداً عن الاستقلال وركب الحضارة والتقدم عندما تعرضت لهجمات وغزو الدول الاستعمارية، أسبانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا لأي هجمة استخدمت فيها هذه القوى كل عناصر تفوقها العسكرية والاقتصادية، والثقافية أيضاً وكان تفوقها كاسحاً وهجومها عاتياً باغياً مدمراً، والجنة التي خيل للمستعمرين أنهم تمكنوا منها، هبت بوجوههم في كل مكان في ثورات وانتفاضات بطولية مسلحة، في ريف مراكش وفي الجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان وسوريا والعراق والثورات الفلسطينية، هذه الثورات لئن كانت جميعها(بدرجات متفاوتة)، تفتقر إلى التنظيم والتنسيق، وهي أقرب إلى العفوية منها إلى الانتفاضة المنظمة، إلا أنها عبرت جميعها عن حيوية الأمة ورفضها الاستسلام، وإذا لم يكن بوسع قوانا العسكرية إلحاق الهزيمة الحاسمة بالعدو، فأن الصمود والالتصاق بالأرض جعل من المستحيل اقتلاعنا، ومكوث المستعمر على تربتنا حلماً بعيد المنال، وإن الهجوم العاتي المتفوق لم يستطع أن يحول دون استقلال الأقطار العربية، وأن تخوض صراعاً دامياً من أجل صيانة الاستقلال وجعله حقيقة واضحة، ونضالاً لا يقل دموية من أجل تحرير الثروات الطبيعية ومصادر الاقتصاد الوطني من براثن المستعمرين وأن تواصل مسيرة تقدمها الثقافي رغم كل العراقيل والعصي التي وضعت أمام عجلة تطوره لتعج المدن العربية بعشرات الجامعات ودور العلم.

 

والهجوم الجديد الذي تواجهه الثقافة العربية والمتمثل بالعولمة ليس الأول من نوعه، وأغلب الظن سوف لن يكون الأخير طالما تعيش على وجه الأرض حضارات وثقافات متعددة، وهو في الواقع مواصلة لعمليات تأثر وتسلل واقتحام وغزو ودس، اختلفت فيه الأساليب والهدف واحد، من الهيلينية، إلى الغنوصية، إلى الإسرائيليات، إلى الشعوبية، إلى الفرانكفونية والانكلوسكسونية وعصر الاستعمار وما انطوى عليه من تحديات ثقافية، هذه المواجهات لم تتوقف قط، ربما اختلفت الأساليب والأشكال، وربما هناك تفاوت في قوة وزخم الهجوم إلا أنها لم تكف ولم يتغير الهدف الرئيسي فيها، ألا وهو جعل أقطارنا وثقافتنا جزء من نسيجها الاقتصادي أولا، ثم السياسي والثقافي وتدمير الملامح الرئيسية لهويتنا تسهيلاً لأهدافها الشاملة.

وفي الواقع، فأن الثقافة العربية قد ازدادت قوة وثراء من خلال مواجهاتها لهذه التيارات، فقد تفاعلت الهيلينية مع الثقافة العربية ويبدو ذلك بوضوح في أشكال العمارة والأثاث وفي النظم، وبالمقابل تلقت الهيلينية تأثيرات الثقافة العربية، بل أنها تحمل ملامح شرقية وعربية، كما استفادت الثقافة العربية من الثقافة المسيحية والغنوصية التي اعتبرت نفسها وريثة الثقافة اليونانية ـ وبالتالي مدارسها الفلسفية والفكرية الشهيرة.

 

والتيار الشعوبي الذي بدا قوياً عارماً في بعض مراحله أستفز أقلام المثقفين العرب لتفنيد أباطيلها ومزاعمها واعتبرت مساجلات الكتاب العرب في ردودهم على الشعوبية، قطع أدبية وسياسية نادرة، وقد استفادت من هذه المواجهات باتجاهين: فهي من جهة ازدادت خبرة وعمق وتجذرت في تربتها أكثر فأكثر، ومن جهة أخرى استفادت من التعرف بدقة على منجزات تلك الحضارات فازدادت رؤيتها شمولية وأتساعه.

 

وحيال هذه الظواهر، لابد من الإقرار بادئ ذي بدء أن الحضارات الكبرى وغير الكبرى في التاريخ، تحمل بذور انتقالها إلى مجتمعات أخرى، وهذا أمر لا نعيب ولا نلوم عليه أحداً فقد انتقلت معطيات حضارات أمم كثيرة عبر القارات والمحيطات وربما بوسائل بدائية وحلت في مجتمعات أخرى وربما بعيدة، ثم ساهمت بهذه الدرجة أو تلك في تطوير منجزات حضارية عديدة بين حضارات وادي الرافدين والنيل، وبين حضارات أميركا القديمة مثل حضارة الأولميك والأزتيك في أميركا الشمالية(المكسيك)، والأنكا في أميركا الجنوبية(البيرو). وهذه الظواهر التي تشترك مثلاً في نظام العبادات والتقاويم الزمنية وفي فن المعمار، أو في أشكال بناء السفن ونواح أخرى، فهناك افتراضات كثيرة عن رحلات بحرية بين أفريقيا وآسيا وأوروبا والأمريكيتين، كانت تتم في عصور سحيقة ويصاحب ذلك عادة انتقال سلمي لمنجزات ثقافية. والإنسان هو أخ للإنسان وهذا هو ديدن البشرية منذ خلقت ولكن …!

 

من المؤكد أيضاً أن الانتقال الثقافي الحضاري قد أتخذ أبعاداً قسرية في عملية تاريخية لم تتوقف عبر الأزمنة. فالمحتل يجلب معه نظم إدارة واستغلال واستثمار للموارد الاقتصادية، ولكنه من جهة أخرى يجلب معه لغته وآدابها وأنماط عمارة وأشكال وصياغات ثقافية عديدة، وغالباً ما يحاول فرض هذه الثقافة بأساليب تسلطية، وبتقديرنا فأن حضارة أي أمة ما لم تكن إنسانية في جوهرها وتقدمية في مضمونها وسلمية في أساليب انتقالها، فأنها ستفتقر إلى المغزى والهدف الأخلاقي في عملية التشكل الحضاري وفي النتائج المادية لهذه الحضارة.

 

وبهذا الصدد نذّكر، بأن هناك أجداث 60 مليون هندي من سكان أميركا الأصليين قتلوا في حملات إبادة منظمة على أيدي القادمين الجدد من أصل 80 مليون، كما قتل 200 – 100 مليون أفريقي أسود، اختطفوا وتعرضوا لحملات صيد البشر من أوطانهم الأفريقية ونقلوا كعبيد إلى أمريكا، ودفنوا في براري الغرب الأمريكي حيث استصلحوا الأراضي تحت سياط المستوطنين في عبودية جماعية.

 

نعم إن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت أمة كبيرة وقوية في عملية تاريخية فريدة من نوعها، تجمع فيها سكانها بين مجرمين ومغامرين وشذاذ آفاق وباحثين عن فرص حياة جديدة، استولوا فيها على أراضي تزخر بكل الثروات وأبادوا فيها شعوباً، ولكن هل استطاعت الولايات المتحدة تقديم مثل وقيم أخلاقية..؟ وإذا كان التقدم والثراء لا يخدم الإنسان وكرامته وأخلاقه فماذا إذن…

 

على هذا التساؤل يجيب البروفسور الأمريكي جون نيف قائلاً : ” لقد أدى ذلك إلى تدهور في الذكاء الفطري والفطنة والذوق”  وكذلك: ” وهكذا عولج كل ما هو مخجل وأخفيت حقيقته حتى صار شيئاً محترما ً” و ” وكانت النتيجة تغليف العقل وتجريده من إنسانيته بوسائل متعددة إلى أن أصبح غير قادر على أن يقدم سوى القليل من الخدمة للإيمان والإنسانية والإدراك المتكامل للسعادة التي كانت لوحدها قادرة على تخليص الناس من أسر الدعاية “.

 

أخبرني مرة صديق دبلوماسي أوربي، كان قد عمل في سفارة بلاده في بروكسل (بلجيكا)، واستطاع أن يتتبع بدقة، أن أصل ثراء كل العائلات البلجيكية هي من حقب النهب الاستعماري في أفريقيا، فأي حضارة يمكن أن يشيد على القتل والتهب والسرقة وهذا ما يفسر انحدار مجتمعات الدول الاستعمارية إلى مستويات مرعبة من الجريمة والإباحية والمخدرات والفساد السياسي والحكومي والأمراض الجنسية الفتاكة.

 

نعم، لقد كانت منجزات عصر النهضة رائعة على صعيد العلوم وفتحاً إنسانياً كبيراً وكذلك الثورة الصناعية، إلا أن البورجوازية الأوربية في الدول الصناعية المتقدمة اتجهت إلى قمع الطبقة العاملة في بلدانها أولاً، ثم إلى سحق الشعوب من القارات الأخرى، فخرج المشروع من إطاره وهدفه الإنساني الذي بشر به رواد عصر النهضة. فالمستعمر الأوربي مضى إلى قارات آسيا وأفريقيا والأمريكيتين وهو يحمل السلاح وليس شمعة ديوجين، ويفرض نظاماً استعماريا ينهب ثرواتها الطبيعية وليجعلها أسواقاً لمنتجاته من جهة، وليسلب من جهة أخرى تلك الشعوب مقومات وجودها، من لغة وعادات وتقاليد صناعية بدائية، وتطور كانوا قد أحرزوه ومكتسبات غير بسيطة في معظم الأحيان.

 

وبهذا المعنى، فالاستعمار يعد مسئول تماماً عن سحق حضارات وثقافات كان يمكن لها أن تتطور تطوراً طبيعياً وفد فعل الاستعمار ذلك من أجل فرض أنماط ثقافية وحضارية لتخدم أهدافه بأساليب القمع والقسر فنجم عن ذلك اختلال في أطراف المسالة، فلا الشعوب تمكنت من تطوير حضارتها، ولا المستعمر استطاع أن ينتقل بها إلى مستوى حضاري راق، وتلك لم تكن من غاياته، وجل ما تحقق هو مجتمعات شوهاء فقدت الكثير من أصولها وجذورها وألوانها، وخير مثال على ذلك هي أفريقيا ثم أميركا.

 

 

 

 

 

 

الثقافة العربية … هموم وشجون

 

القسم الثاني

 

تتميز الهجمة الثقافية الحالية بملامح عديدة ينطوي البعض منها على ما هو جديد في أسلوبه وأدواته، وابتداء لابد لنا من تشخيص أبرز الظواهر على مسرح العلاقات الدولية المعاصرة، المتمثلة بالأحادية القطبية، واشتداد دولنة الاقتصاد، ودخول الرأسمالية الاحتكارية في مرحلة الإمبريالية الجديدة.

 

أما العناصر الذاتية في الحياة السياسية والثقافية العربية، فأبرزها :

أولاً : ـ تفاعلات القضية الفلسطينية: ـ من المؤكد أن التناقض الذي أطلقه الموقف من العدو، حيث قادت اتفاقية كمي ديفيد إلى تفاعلات وإفراز لمواقف أثرت بشكل فعال على مسار القضية الفلسطينية التي أعتبرها النضال التحرري العربي أولى قضاياه، وقد تفاوت الموقف منها إلى أن أستقر على صورة الموقف الحالي، الذي أعتبره معظم الأطراف واقع حال ينبغي التعامل معه على أمل الحفاظ على الحد الأدنى.

ثانياً : ـ المستجدات في العلاقات الدولية : أثرت المواقف المستجدة على مسرح العلاقات الدولية، على مفردات الموقف السياسي في الأقطار العربية، فهيمنت الولايات المتحدة وإرادتها السياسية،وقادت إلى انهيارات، مع ملاحظة:

آ ـ المساعي الفرنسية لبلورة موقف أوربي متميز يلتقي ولكنه قد يختلف أيضاً مع التوجهات

الأمريكية في تصورها لأزمات للشرق الأوسط.

ب ـ فشل الولايات المتحدة في طرح مشروعات سياسية وثقافية للشرق الأوسـط بسـبب

المبالغة في استعراض القوة وأتباع سياسة الكيل بمكيالين، وتجـاهل إرادة وكـبرياء

أقطار المنطقة و مصالحها.

ثالثاً : ـ معوقات أمام الثقافة العربية: على الرغم من النداءات والمؤتمرات والاجتماعات ولقاءات اتحادات الكتاب والأدباء والصحفيين والمؤتمرات الفنية على تعدد اختصاصها، واجتماعات المسئولين عن الثقافة والإعلام والقنوات الفضائية والمهرجانات المسرحية والسينمائية والموسيقية، ما تزال الثقافة العربية تعاني الكثير من مشكلات ومعوقات الانتشار، ومن سيف الرقابة، وعدم رعاية المطبوع العلمي التخصصي، وصعوبة انتقال المطبوعات بين الأقطار العربية، وضعف الأجور والمكافئات للعلماء والكتاب، الخلافات السياسية بين الحكومات العربية وانعكاساتها، هيمنة أجهزة الرقابة على المطبوع العربي والأجنبي، نعم هناك الكثير من الظواهر الإيجابية، ولكن ما زال هناك الكثير من السلبيات ما ينبغي التأكيد عليه، وفي مقدمة ذلك رفع القيود عن الكتاب وانتشار المطبوع العربي سواء كان كتاباً أو صحيفة أو مجلة، وكذلك المادة الثقافية، أفلام ورقوق سينمائية أو أعمال فنية وموسيقية.

رابعاً : ـ  شهدت الحياة السياسية العربية تخلخلاً وضعفاً أنعكس بشكل واضح على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي، وتراجعاً ملحوظاً في مجال الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان، مع استمرار النظام السياسي العربي يتخبط في أزمته فلا هو قادر على حل المعضلات والتحديات ولا هو بقادر على أن يتجاوز نفسه ويوفر إمكانية تداول للسلطة، فيما بدا أن القمع بشتى صوره هو السبيل الأوحد لتحولات طال انتظارها.

 

وحيال موقف كهذا اقتحمت العولمة، أو الإمبريالية الجديدة الموقف بهدف أحداث التغير، ولكن بما يتفق ومصالحها السياسية والاقتصادية والثقافية،  فانتهكت كثير من المحرمات الثقافية واعتبرتها وجهات نظر قابلة للطرح والمناقشة، لا سيما تلك التي تتعلق بالتعامل مع العدو الصهيوني فكرياً وثقافيا تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ورفع شعارات التسامح الديني تحت شعارات مكافحة اللاسامية، في حين تمارس من جهتها التطرف الصهيوني وسياسة القضم والهضم على أوسع نطاق. وتشهد محاولات التطبيع الثقافي جولات ونزالات تعيد إلى الأذهان تلك المساجلات التي كان يقيمها رموز الثقافة العربية بوجه الشعوبية ودعاتها، تلك التي أفادت الثقافة العربية وأكسبتها القوة، فما أشبه الوقائع والنتائج المرتقبة..!

 

وبتقديرنا فأن الجانب الأخطر من الهجمة الإمبريالية على بلادنا يتمثل بالدرجة الأولى بالإخضاع السياسي وذلك ما يسلب القدرة على التطلع إلى المستقبل بحرية واستقلال، أي قمع المشروع النهضوي العربي وفي مقدمة فقرات هذا المشروع :

  • تقليص حجم التبعية الاقتصادية : وفي تفاصيله الجانب الغذائي(الأمن الغذائي).
  • تقليص حجم التـخلف العلـمي: وفي تفاصيله التكنولوجي.
  • تقليـص التـبعية الاجتماعـية: وفي تفاصيله الحفاظ على شخصية مجتمعنا العربي الإسلامي.
  • تقليص التبـعية الثقافــــية: (الأمن الثقافي)، وفي تفاصيله مفردات التطور الثقافي الحضاري.

 

فالمهمة تطرح نفسها واضحة على العلماء والكتاب والمثقفين والفنانين العرب في السعي لرفع إسهام ثقافتنا العربية في الثقافة الإنسانية العالمية في إطار العمل المشترك مع الشعوب والأمم لأن يكون هذا العالم أكثر إنسانيا وأكثر رخاء وعدالة، والكف عن اضطهاد الإنسان للإنسان، والأمم الغنية القوية للأمم الأقل ثروة وقوة، عالم التعايش السلمي والتعامل القائم على التكافؤ، عالم يشعر فيه أي إنسان، إن أي تقدم علمي بسيط في أقصى بقعة في العالم ينتمي إليه مباشرة، ولكنه يشعر بالمقابل أن أي صفعة يتلقاها أي إنسان ظلماً في العالم يوجعه ويدمي كبرياءه وكرامته.تلكم هي بتقديرنا أبرز مهمات المثقف العربي المعاصر، وسلاحه في ذلك القلم والكلمة والريشة والأزميل والنوتة وكل عمل إبداعي.

 

والثقافة العربية إذ تواجه تحديات مختلفة، عليها أن تشخص واجهات عملية التسلل، وأن تفرق بدقة بين عملية تفاعل الحضارات وحتميات التطور، وهو أمر لابد منه، بل لا نريد الابتعاد عنه،  وبين تيارات تريد أن تفرغ الثقافة العربية من خصائصها وتحرمها من التطور الذاتي، وعزلها عن تاريخها وإدخال عناصر جديدة غريبة عليها لتندغم في تيارات تصب في النهاية في طاحونة النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي، كمقدمة لجعل بلادنا وسائر البلدان النامية مجرد توابع تدور في فلكها، وبهذا المعنى فأن تيار العولمة، ليس سوى مرحلة جديدة من مراحل تصاعد النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي، أنه مرحلة الإخضاع النهائي لشعوب الأرض لسلطان الرأسمالية الإمبريالية، باعتبار أن التقدم التكنولوجي والثورة في وسائل الاتصال والمواصلات جعلت من العالم قرية كبيرة، وبلغت فيها الرأسمالية مرحلة متقدمة من تمركز رأس المال المالي.

 

وفي الالبراغماتية، تتميز فيها هيمنة الولايات المتحدة بوصفها متروبول الرأسمالية العالمية وتأبى أن تغادر هذا الموقع القيادي ولا تقبل المشاركة فيه، تهدف إلى تعميم ضرب من الثقافة التي لا تلامس جوهر مشكلات الإنسان، ثقافة سطحية تتعامل مع غرائز الإنسان وتشجع فيه روح التفوق والتسلط الفردي والنزوع المطلق نحو الثروة وإحراز النفوذ والهيمنة، وإطلاق لنزعات الجنس الشاذة، أن إنسان العصر الذي قدم منجزات كبيرة بفضل تراكم التجربة والعلم، تضعه في قمقم مشكلاته الذاتية لتخلق منه إنساناً نرجسياً على استعداد لفعل أي شيء، حتى القتل الجماعي من أجل إشباع نزعاته، إنها نزعات وثقافة وتربية اجتماعية تهدف في النهاية إلى خلق الإنسان الكوزموبوليتي (الإنسان العالمي)، الذي لا جذور له ولا يؤمن بقضية أو وطن بل بالمصالح والأرباح المادية، وأي غرابة في ذلك…؟ أليست البراغماتية، وهي جوهر الفكر السياسي الفلسفي للرأسمالية، التي لا تؤمن إلا بالنتائج بصرف النظر عن الأساليب وأخلاقياتها. والإنسان الكوزموبوليتي هو حيوان انتهازي منافق قد يتحول في أي لحظة إلى آلة شرسة مدمرة مكن أجل تحقيق مصالحه الذاتية، وهذا هو سر انحطاط الحياة الاجتماعية في الغرب الرأسمالي لاسيما في الولايات المتحدة، ونجد أصدائها الخافتة في بلادنا حيث تروج لها أجهزة الأعلام الغربية وصنائعهم وأدواتهم، يمكن إيجازها بما يلي:

 

آ ـ محاولات لإفساد الوعي تقوم بها الحملة الإمبريالية ودفع الإنسان إلى زاوية مصالحه وهمومه الذاتية.

ب ـ عمل مدروس لإسقاط الالتزام بالشعارات العامة، الوطن، الشعب، الدين، القومية، والشعارات ذات الطابع الاجتماعي.

ج ـ العمل على خلق أنماط حياة تضم مظاهر الانحلال والفساد. وتيار العولمة هو جزء من هذه المرحلة، إخضاع العالم للثقافة الرأسمالية، وللمنطق الإمبريالي، ليس بقصد أن تنعم الإنسانية جمعاء بالمنجزات الحضارية والثقافية والعلمية، بل أنه فكر شمولي يهدف وضع شعوب العالم في خدمة الرأسمالية، فهو ليس مشروع خير، بل هو يهدف إلى صهر ثقافات أمم أخرى وإلغاء مميزات كياناتها، ولا يتميز هذا التيار بقدرة واسعة على التكيف والتلون وإمكانية الإصابة بالصدمة الثقافية، ولهذا التيار أعوانه سواء من الحلفاء الطبقيين، أو من المصابين بالصدمة، وممن انهار أمام الترف الرأسمالي، فاختار هذا المثقف أو ذاك الفنان أن يحل مشكلاته الذاتية(مالياً ودعائياً) وكأنه عندما أتجه صوب آفاق الفكر والثقافة والفن والإبداع، إنما كان يبحث عن خلاصه الذاتي، وليس نضالاً والتزاماً بقضية الفن والأدب والثقافة، وهي خدمة الوطن والجماهير والالتزام بقضاياها. إن ضرباً كهذا من (المثقفين)، قد تحولوا نهائياً إلى موظفي علاقات عامه ومروجي سلع وإعلانيين مهما أسبغوا على أنفسهم الصفات وحاولوا الاختفاء والتخفي.

 

لن يخيف فوكوياما ولا هانتغتن أحداً، وليست هذه دعوة للاسترخاء بقدر ما هو نداء إلى المثقفين العرب لأن يستلهموا من تاريخ أمتهم وتراثها وموروثاتها ويؤسسوا فوقها، فاعلين متفاعلين مع الثقافة الإنسانية العالمية، فنحن جزء من هذا العالم وتلك حقيقة مادية موضوعية، وقد كنا مؤثرين فيه بدرجة كبيرة، ولابد أن نتأثر فيه بدورنا، ليس مطلوباً الانبهار أمام منجزات الغرب لدرجة فقدان الرشد كما ليس مقبولاً بذات الدرجة أقفال الأبواب والشبابيك، فمن الواضح أننا مستهدفون، وكياناتنا السياسية(المجزءة المشرذمة للأسف)وثرواتنا الطبيعية واقتصادياتنا الوطنية، ووضع الألغام في مجتمعاتنا، وأخيراً الإجهاز على ثقافتنا القومية، أو جعلها صدىً باهتا، أو صورة سلبية للثقافة الرأسمالية الشوهاء، وحيال الانبهار والمنبهرين، لابد من وضع خطة مضادةً، ولابد أن تكون هذه الخطة مرنة متفتحة لا تبدي التعصب، كما لن يقودنا إهانة رموزنا أو التقليل من احترامنا إلى الغضب وردود أفعال متشنجة، بل سوف لن يدفعنا إلا إلى المزيد من التمسك بقيمنا الصالحة، ولكننا سوف لن نخطو خطوة واحدة قائمة على الغضب أو تفتقر إلى النضج، وأعلموا أيها المثقفون العرب أن هدف أعدائكم هو جركم إلى ردود الأفعال الغاضبة، وأهملوا حفلة الشتائم والإهانات، ولا تنساقوا وراء ردود الأفعال.

 

لابد للمثقفين العرب من أداء دورهم، وهو الدور الذي يقوم على حراسة المنجزات الثقافية والحضارية وتطويرها من أجل أن تسهم ثقافتنا العربية في الحضارة العالمية، وزيادة حصة هذا الإسهام. والمثقفون العرب مدعون إلى التفاعل فيما بينهم وإنضاج مواقف موحدة حيال التيارات التي تقف ورائها القوى المضادة لحركة التقدم العربية وصياغة برنامج يؤكد على:

ـ الانفتاح على الحضارات والثقافات الأخرى والتفاعل معها بإرادتنا على أساس من المبادئ والأخلاقيات الإنسانية التي تمتاز بها الحضارة العربية الإسلامية من جهة، وحماية أجيالنا من أوبئة تسللت إلى مجتمعاتنا التي تروج الإباحية والمخدرات والأمراض الجنسية والشذوذ ومظاهر الفساد الأخرى.

 

ـ العلماء العرب مدعون اليوم، كل في اختصاصه إلى إيجاد العلاقة بين المستوى الحالي للعلوم، وبين ما توصل إليه العلماء العرب في عصور الازدهار، أي تجسير الفجوة بين عصور الازدهار وما أعقبها من سبات بعد انحطاط الحضارة العربية، وبين المرحلة الحالية لكي نتحرك على أرضية صلبة ونواصل البناء على أساس متين. لقد آن للجامعات والمعاهد العربية وقد بلغت مرحلة النضج في العمل والتعامل مع المنجزات الحديثة في العلوم، وصياغة نظريات عمل عربية. أن كثير من الجامعات الأوربية تعتبر أعمال العلماء العرب هي الأساس في العلوم التي تطورت فيما بعد على أيديهم في مختلف المجالات العلمية والإنسانية.

 

ـ الابتعاد عن التطرف والتعصب ومعاداة الثقافة الأجنبية لمجرد كونها أجنبية فذلك سيقودنا إلى العزلة، فالأمم الأخرى قد تمكنت من تقديم منجزات رائعة أغنت الثقافة الإنسانية، فكيف لنا أن نتجاهل أعمال فكرية وفلسفية، فنية / أدبية، عدا التقدم الكبير في مجال العلوم الصرفة والإنسانية.

 

ـ إبداء الاحترام التام لحقوق الأقليات الدينية والقومية المتواجدة في البلاد العربية، وبهذا تحافظ الثقافة العربية على إحدى مميزاتها وهي ابتعادها عن الصيغ الشوفينية، وتواصل الثقافة الإسلامية في منح الأمان والحرية الأقليات الدينية.

 

قلبنا أراء كثيرة كتبت حول الثقافة العربية والتحديات التي تواجهها : العولمة ـ الإنترنيت ـ القنوات الفضائية، وللأسف لابد من القول، أن معظمها أحادي الجانب، أي أنه يركز على جانب واحد من المشكلة، وعلى الأغلب بتهويل وفزع يقطع الأنفاس. ومن أجل بحث مجز لكافة جوانب المسألة، لابد من البحث بدقة وتفصيل، وبحث الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بالدرجة الأولى. نعم، نحن نواجه مشكلات من نوع جديد وبأساليب وطرق متفوقة وغير معهودة. ولكن لابد لنا بادئ ذي بدء ألا نضع أنفسنا في موقع معاد للتطور، إذ من المؤكد أن كثير من هذه الأبعاد أو التحديات تحمل إمكانيات العمل في اتجاهين أو أكثر، منها ما قد يفيدنا، ولكن بالطبع مع وجود السلبيات والأضرار وكذلك الأخطار..! لماذا لا نستفيد من الإنترنيت ولا نعمم هذه الموسوعة الهائلة من المعلومات …!إن القنوات الفضائية ومحطات التلفزة الدولية تنطوي على الكثير من الأضرار في مجال تنشئة الأجيال الصاعدة والسموم السياسية، ولكن ألا ينبغي أن يدفع ذلك مؤسساتنا الفنية، السينمائية والتلفازية والإذاعية وغيرها على الارتقاء بمستوى برامجهم والإكثار منها، وأجراء تبادل نشيط للأعمال السينمائية والتلفازية بين الأقطار العربية خاصة وربما حتى الإسلامية…؟ وهناك الكثير من الاتفاقيات والمطلوب تنشيطها وتفعيلها.

 

وأعمال أو تعاون مشترك سيقودنا إلى مزيد من تشذيب اللهجات المحلية العربية اقتراباً من الفصحى، بل أن هذه العملية قد تساهم حتى في تعزيز الوحدة الوطنية ضمن القطر العربي الواحد، وما يجري ألان يدور بصورة عفوية أو لأسباب تجارية، يمكن أن تتحول إلى عملية منتظمة. ففي ألمانيا(وهي بلاد مشدودة قومياً)، لهجات عديدة قد تنعدم إمكانية التفاهم بين لهجاتها، ولكن اللهجات المحلية في طريقها إلى الانقراض، بل هي متلاشية في أوساط المثقفين والإعلاميين والفنانين وقد حلت محلها الألمانية الفصحى.

 

إننا نبحث هذه المشكلات في إطار الحرص على ثقافتنا ومجتمعاتنا، ولكن للأسف أن هناك في صفوفنا من هو معاد أصلاً للثقافة ولكل فروعها، من فئات وعناصر رجعية، تعيش في هذا القرن بأجسادها، فيما تغفو رؤوسها في القرون الميلادية الأولى هذه العناصر، إذا لعبت دوراً مؤثراً (ويبدو أنها تلعب مثل هذا الدور للأسف مرة أخرى) يزيد في الطين بله والمشكلة تعقيداً. إذن فبين صفوفنا من يسهل التسلل عبر خطوط دفاعاتنا التي تعتمـد بالدرجة الأولى على رد الفعل الغريزي وعلى ثراء الأمة الروحي بدرجة كبيرة.

 

إن الإمبريالية لا تحاربنا بالعولمة(كأداة سياسية واقتصادية وثقافية)، إنها قبل ذلك تمد خراطيمها في أجسادنا وتنهش ثرواتنا بفعالياتها الاقتصادية، وتحاربنا بالطائرة والبارجة وحاملة الطائرات، وبطائرة التجسس اليوتو..وللإمبريالية بين صفوفنا كعرب وكمسلمين حلفاء وأصدقاء في السر والعلن، ولابد أن يدركوا أن هذا الهجوم ليس مناورة، بل هو في غاية الجدية وأنه سوف لن يوفر أحداً، وهو ليس كلام صحافه لا وزن له، فالإمبريالي الفاشي فوكوياما ليس بقالاً في حارة مانهاتن بنيويورك، بل هو مستشار لوزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، وهو يقرر علناً وليس في ندوات سريه. إن الصدام القادم هو مع العرب المسلمين(قال ذلك في أعقاب انقضاء الحرب الباردة)، وإنه آت لا محالة، وكذلك البروفسور الشوفيني الرجعي صامويل هانتغتن، وهو الآخر ينتمي إلى الأوساط التي تنضج القرارات السياسية في أميركا، يكتشف فجأة (هو وليس نحن) أن النظام الرأسمالي يؤمن بالتفوق العرقي ويدعو إلى حروب عرقية، وكأن الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية كانت في المريخ، ولم تكن من ضروب الأنظمة الرأسمالية. بل إن النظام السياسي في الولايات المتحدة يتجه حثيثاً إلى الفاشية بسبب الأزمات التي يمر بها النظام الرأسمالي الاحتكاري داخلياً وخارجياً، لذلك فهم يطلقون النداءات المشحونة بالحرب والإبادة، لكنهم يتحولون فجأة إلى مدافعين عن (الديمقراطية) و(حقوق الإنسان) عندما يتعلق الأمر بالبلاد العربية والإسلامية أو الصين الشعيبة أو كوريا الشمالية أو كوبا، وهناك من يصفق لهم إعجاباً أو نفاقاً أو كيداً بجار يضمر له الحسد.

 

إننا نطرح على المثقف العربي أن يعمل وفق الحديث النبوي الشريف ” من رأى منكم منكراً فليغيره بيده وإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الأيمان” حديث )، أن يكون في مقدمة أمته، قلماً حراً شريفاً، وليس مروجاً لسلع فاسدة يريد مصدروها أن يستولوا على عقولنا أولاً ثم تاريخنا، بل ومستقبلنا أيضاً. أن يكون جزء من درع بلاده وأمته، وجزء من مسيرة التحرر والظفر، وليس عضواً في جوقة مهرجين، وفي معسكر أعداء بلاده وأمته.

إننا كمثقفين وكمؤسسات ثقافية وحكومية اعتمدنا لحد ألان على الرد العفوي والدفاع الغريزي، ورصيدنا الحقيقي ومسـتودع أسلحتنا المضادة، هو ثراء هذه الأمة وعمق أسسها وجذورها لم يعبأ في المعركة بعد، ولكن فوق ذلك نحن بحاجة إلى تشخيص وتخطيط دقيق وإقامة صلات حقيقية مع الجماهير، فهي القوة التي تحمي أسوار الأمة، تحمي ماضيها وحاضرها وترسم لها خطوط المستقبل.

 

 

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com