مقالات

أحم ، عندنا أنتخابات٧ من٧(٣) 

بيدر ميديا ..

اشكاليات وملاحظات وتصورات
غياب السند الدولي: 

الباحث/عبد الحميد برتو .
تُطْرَحُ مسألةُ غيابِ السندِ الدولي لنضال أو ثورة أي شعب في الوقت الراهن، بهدف تعويق عمليات البحث عن حلول للمعضلات القائمة. يَهدفُ هذا الطرحُ تخديرَ أي مجتمع يعاني من مرارة واقعه. ذلك من أجل القبول بحلول ترقيعية لا طائل تحتها أو فوقها. يَهدفُ إبعادَ مفاهيمٍ مجربةٍ تتعلق بإمكانية تعدد الوسائل النضالية وممارستها جميعاً في وقت واحد، وعدم الإنزواء وراء اسلوب نضالي واحد مهما كانت أهميته. يَهدفُ القبولَ والتعويلَ على ما يجري تسويقه من إنتخابات معروفة النتائج مسبقاً، ولا تحمل من النزاهة حتى إسمها، ولا تملك من مواصفات الإنتخابات العامة سوى إسمها.

لا ينبغي من جانب آخر الإستخفاف بتمويهات رعاة “الديمقراطية” الجدد. لأنهم عبر التمويهات يحاولون الإيهام بأن طروحاتهم وجيهة ومبررة وأحياناً حتى مخلصة. هي في الواقع مؤذية دائماً. تستهدف تعميق حالات الإنكسار الداخلي في الحركات الوطنية والثورية عامة، إنها نهج ومنهج كل منهزم في داخله. إن الغرض من مقولة غياب السند الدولي جعل الرضوخ لما هو متوفر في الحياة السياسية، من إنتخابات وغيرها حالة من حالات اللاخيار أو إدعاء واقعية التعامل أو عدم الإنعزال. يستوجب الأمر أو هذا الحال التأكد من حقيقة هذا السؤال. هل المعضلة الكبرى تكمن في عدم وجود سند دولي، أم في غياب قيادة واعية وواضحة المعالم والتوجهات بالنسبة للشعب المعني؟

خُلِقَت فكرةُ “لابد من وجود سند دولي” نتيجة للثنائية القطبية، التي سادت العالم معظم فترة القرن العشرين. تُلَخَصُ المسألةُ على هذا الصعيد، على النحو التالي: إن الولايات المتحدة الأمريكية تصمم إنقلابات عسكرية تختزل من خلالها تاريخ وإرادة الشعوب. بالمقابل يقدم الإتحاد السوفياتي والمنظومة الإشتراكية العالمية مساعدات لوجستية لحركات التحرر الوطني العالمية. بعد تفكك الإتحاد السوفياتي شعرت حركات التحرر الوطني بأن الغرب والقوى الرجعية بكل أنواعها قد إستفردت بها. هذا الشعور خائب بطبيعته. ضَيَّقَ المجالَ أمامَ توسيعِ دائرة الطموح وآفاق العمل عند بعض القوى الوطنية، وعند القوى التي يفترض أنها أكثر عمقاً وجذرية من غيرها.

كل الثورات العظيمة عبر التاريخ كانت ثورات منفردة الإرادة ودون سند دولي ملموس. هكذا كان حال الثورة الفرنسية الكبرى وثورة أكتوبر في روسيا وغيرهما. صحيح أن ظروفاً جديدة نشأت في العالم، بفعل التقدم التقني وتقلص المسافات وقوة التأثير الخارجي، الذي أوشك أن يكون عنصراً محلياً تقريباً. ساهم هذا الواقع بإخترال تاريخ بعض الشعوب، وشكل حجر عثرة قوية على طريق تقدمها وإمتلاك إرادتها. ولكن بالمقابل إن الإمبريالية والقوى الكبرى لم تكن ولن تكن كلية القدرة، فكل ظاهرة تحمل أو تُوجد نقيضها. فالتسلط الأمريكي واجه صعوبات في حربه مع بلدين صغيرين: أفغانستان والعراق، وقبل ذلك واجه الإتحاد السوفياتي ذات الصعوبات في أفغانستان. بديهي أن تظل الدول الكبرى تبحث عن أهداف صغيرة وسهلة التكلفة، لترك بعض الإنطباعات عن جبروتها. كما إن التقدم التقني و”الثورة” الرقمية بالقدر الذي منحت فيه الإمبريالية قدرات هائلة على التدخل السريع، فإنها وضعت في الوقت نفسه بأيدي الشعوب إمكانات جديدة للتواصل السريع والواسع بين قوى التغيير المنشود أفراداً وجماعات.

هناك خلاصة توصلت إليها الدول الإستعمارية الكبرى، وهي معلنة في إعلامها، وعبر وعلى ألسنة مسؤولين وخبراء بارزين فيها. بإنهم لا يهاجموا أي بلد في حالة إنتصار ثورته. هم يدركون قوة وزحم إندفاع جماهير أي بلد عندما يرى نفسه يقترب من حالة تحقيق بعض أمانيه. من الأجدر ومن باب أولى أن يدرك هذه الحقيقية مَنْ يؤمن أنه يتصدى لأعباء النضال. كثيرة هي الأمثلة على الحذر والإرتباك، الذي يطبع تصرف الدول الإمبريالة عند إنتصار أي شعب. لنأخذ مثالاً واحداً. عند إنتصار ثورة 14 تموز/ يوليو 1958 في العراق. إنزلت الولايات المتحدة جنودها في الأردن ولبنان، أرسلت الأساطيل الى المتوسط والخليح. لكنها لم تتجرأ على التدخل المباشر. وغني عن البيان الثورة المصرية والإيرانية وغيرهما في القارات الثلاث آسيا، أفريقيا وأمريكا الجنوبية، هذا بغض النظر عن تقويمنا لطبيعة تلك الثورات.

إن نقدنا لتحويل وسيلة الإنتخابات، من وسيلة الى غاية قائمة بذاتها، وتعدد الإمكانات الواسعة للإلتفاف عليها، وتحولها الى برقع لكل لص أو دموي. لا يضعنا ولا يدفعنا الى موقع معاداة الديمقراطية. إن الديمقراطية من صلب وأساس الفكر الإشتراكي العلمي، الذي يقوم على حساسية إجتماعية مرهفة ودقيقة، وعلى قيم العدالة الإجتماعية. تعتبر الديمقراطية وسيلة فعالة، ولا غنى عنها في الحياة الداخلية للقوى الوطنية الثورية، وفي النضال الوطني والإجتماعي. بمرور سريع على مواقف كل الثوريين الكبار في العالم، في الحاضر والماضي، يؤكد لنا ذلك المرور، بأنهم كانوا من أشد الناس حرصاً وتأكيداً على الديمقراطية، قناعة وسلوكاً وقبلهما فكراً. إن سلاح كل ثوري حقيقي هو الصراحة في التعامل، وتبادل الرأي والحجة، وإذكاء مقومات الصراع الفكري البناء، وعدم تجاهل التفاصيل ومعالجة البقاع المظلمة في كل حدث وحالة.

لا تُصدر الديمقراطية بالغزو والإحتلال والتدخلات الفجة والعابثة ورعاية اللصوص. ها هي ديمقراطية الميليشيات، جعلت أصلب أبناء الشعب العراقي تعج بهم مقابر أوروبا وبقية بقاع العالم أخرى. ومَنْ بقى منهم على قيد الحياة يلعب دوراً مرموقاً كل بإختصاصه، ولكن تحت معاناة أن الوطن المنهوب لا يتسع لهم. وهم موضوعياً بين نارين، نار الميليشيات ونار الإرهاب. ألم تكن غربتهم نوعاً من الدفاع عن الديمقراطية وحرية الرأي وكرامة الإنسان وضد الديمقراطية الزائفة. إن ديمقراطية المحتل إستقدمت الحثالات بعد إرشائهم على حساب جوع الشعب نفسه. إن الإرهاب الذي يغذيه أكثر من طرف دولي وإقليمي، لم يترك متراً واحداً للديمقراطي الحقيقي يعيش فيه أو يناضل عليه. ها هم خيرة شباب إنتفاضة تشرين ـ إنتفاضة الشعب العراقي بين شهيد أو حتى متهم بالإرهاب أو من أبناء السفارات. ياللخديعة الكبرى التي تجرعها أحرار سابقون كثيرون.

توجد لدى أعداء الإنسانية أنواع عديدة من الوسائل، التي تلعب دور المخدرات، وليس المسكرات فقط، للعبث بالعقول وحتى الضمائر، منها مهازل الإنتخابات المصممة للتغطية على أفعال شائنة. إن اللعبة الإنتخابية هي مسرحية للأقوياء المسلحين بالرصاص والمال والنفوذ والخرافة ومصادر القوة الأخرى. أما الناخب الفقير والضحية فهو جزء من الديكور العام للمسرح ليس إلا. يتهامس مصممو الإنتخابات البائسة الكاذبة فيما بينهم، ويصفون الناخب بالأبله، فإذا ذهب للإنتخابات فهو مجرد رقم، وإذا قاطع فهو متهم.

قد يمنحك عدو الشعب جريدةً يعرف أن تأثيرها لا يتجاوز حدود هيئة تحريريها، سوى بعدد مماثل أو يزيد قليلاً. يَنفر كُلُّ مَنْ هو صادق بطبيعته، وفي نضاله من أجل مستقبل شعبه، يَنفر من كُلِّ كلامٍ مراوغ يتحمل الشيء ونقيضه، ولا يملك من الصدق ما يجعلة كلاماً يُماثل أو يقترب من متطلبات إصلاح مستوى الحياة الإجتماعية والثقافية والروحية للمجتمع.

جرى إختبارُ كُلَّ الذين شاركوا فيما عُرِّفَ بـ”العملية السياسية” تحت قيادة الولايات المتحدة وإيران جيداً، من قبل متخصصين أمريكيين من جهة وإيرانيين من الجهة الأخرى، سواءً عبر التعاقدِ، أو الإستبيانات المباشرة، أو من خلال آراء بعضهم ببعض، ومن ملاحظات الدول التي إستضافتهم قبل عودتهم غير المشرفة لسرقة العراق وقتل شعبه. تأكد المحتلون من وجود بعض الخصائص الهامة الراسخة عند هؤلاء وأولئك منهم، مثل: غياب الكرامة الشخصية، كراهيتهم لشعبهم ومدنهم، الطاعة لأسيادهم، تقوم كل الإعتبارات القيمية عندهم على أساس المصالح الشخصية، يعتبر الغدر بمَنْ تحت سلطتهم أو نفوذهم ضروري لخلق إعتبارهم الخاص، استخدام كل الوسائل غير المشروعة لتصفية الآخر، وأخيراً وربما أولاً، يعتبر التدين المظهري أفضل الوسائل للتمويه على واقعهم، وأفضل الأغطية عباءة الدين.

بذلت وتبذل جهود كبيرة لزعزعة نظام القيم العامة عند الشعب المستهدف. شارك بتلك الزعزعة الهوجاء، الطامع البعيد والقريب. ومن الوسائل المعتمدة في هذا المجال، وتحتل الموقع الأول، يُذكر التشويش المبرمج، على كل ما هو جيد وصحيح في القيم الشعبية، لكي لا تصب في نهاية المطاف بمجرى تعزيز صلابة القوى المناضلة من أجل غد أفضل للشعب. لم ينتصر شعب أو أمة أو طبقة على وجه البسيطة، وعبر التاريخ كله، إنتصاراً حقيقياً وحاسماً، دون نظام قيمي يُحْتَكَم إليه، نظامُ قيمٍ أصيلٍ وممتحنٍ عبر مسيرة تاريخية طويلة. إنتصار أي ثورة يتطلب وجود قيادة وأهداف جذرية. تَسْتَخدم فيها طليعةُ الشعبِ أو الأمة أو الطبقة وسائلَ نضالية متعددة ومشروعة. لتبدء عمليات إعادة بناء جبارة. تنتصر الثورة حين تمتلك قيادة حيوية واعية وخبرات ثورية متراكمة تحظى بثقة الشعب.

تتراكم الخبرات النضالية لدى الشعب وقواه الحية من خلال النضال نفسه. ولكن عند أعداء الشعب تتراكم خبرات بالقمع، ربما بسرعة أكبر أيضاً. لأنهم في مأمن ويتربعون على العديد من مصادر القوة. تنقطع الخبرات عند الضحايا عبر القتل والسجون والخطف والإرشاء وشراء الذمم. هذا الى جانب تزويق الكلام الذي قد يمتد الى بعض القوى، التي تحسب نفسها بين الضحايا. أخطر أنواع تزويق الكلام، ذلك النوع الذي يغذي روح الخوف والمسكنة والتزلف. ومن غرائب السياسات الزائفة دعوة الضحايا الى ممارسة الأساليب الجميلة ذات النفحات الإنسانية في نضالهم. خاصة تلك التي تسمح بها الحكومة، ولا تزعج أسيادها من خلف الحدود المستباحة أصلاً. إن روح الإستباحة تسود ليس من قبل الشعب ومناضليه، بل من قبل جلاديه ومصادري حريته وأمنه وكرامته وخبزته.

يبنى بعد الثورة مجتمع جديد أكثر عدلاً وتقدماً. يحقق نقلات عظيمة في حياة المجتمع. إن الثورة قوة هدم للفساد وفي الوقت ذاته قوة بناء عاجلة ودقيقة. ربما هناك مَنْ يقول: تدفع طبيعة الحياة والظروف الراهنة صوب التقدم التدريجي فَلِمَّ الثورة؟ هذا سؤال مهم، ولكن ذلك التقدم التدريجي لا يأتي إلا بعد ثورة إجتماعية كبيرة، هكذا كان حال العالم. بدون الثورة “التأسيسية” يكون الحال بمثابة رحلة آلام مريرة ومديدة وباهظة الثمن. يعتقد آخرون بأن البناء التدريجي يحقق الكثير. ولكنهم يستدركون بالقول: إلا ما ندر. يبدو أن هذا الإستدراك الواقعي والجميل فرضه الواقع العراقي وتجارب أخرى تساوقه. أكيد ذلك يحصل حين يأتي الى السلطة ناس لا يملكون ثقة بقدراتهم على الإستمرار، لأنهم لم يحققوا نصراً بأيديهم وجهودهم الخاصة. إنما نصبوا عبر جهد غازٍ طامع ومتسرع مر بإنتصارات بدت له للوهلة الأولى سهلة.

يحاجج آخرون بأن معطيات الثورة التقنية ـ الرقمية خلقت ظواهر مجتمعية وثقافية جديدة. هذا الواقع صحيح أيضاً، ولكن لماذا نأخذ من كل الظواهر الجديدة وجهاً واحداً أو حالة واحدة ونهمل البقية. فتحت هذه الثورة ساحات جديدة للقوى الثورية لتقديم الخطاب السليم بسهولة وعلى نطاق واسع أيضاً.

يوجد تراكم فكري عظيم وتجارب ملموسة كبيرة. لماذا نقف عند مرحلة واحدة وكأنها نهاية الدنيا. صحيح أن وجود منظومة اشتراكية ألهم الثوار وأغلق باب الإنفراد بالعالم. ولكن لماذا يجري تجاوز وإهمال منجزات البشرية في صراعها الثوري العظيم قبل ثورة إكتوبر 1917 وبعدها. من حقنا أن نتألم على مسيرة ومآل واحدة من أهم وأعظم ثورات التاريخ الحديث. ولكن رب ضارة نافعة إذ قد يكون ذلك إنطلاقة جديدة لروح الثورة الإجتماعية.

عمقت الثقافة العسكرية الأمريكية بسطوتها مآسي الشعوب، حين حولت القهر الى إسلوب تعامل والإديان الى خرافة تحارب نفسها بنفسها. أفسدت كل ما يتعلق بقيم الإيثار والتضحية. سعت الى إفساد الذوق في العالم، والى تجريد نضال الشعوب من اللذة الجميلة، التي تتمثل بثقة الثوار بأنفسهم وإحترامهم للناس.

ساد الزيف في المسرح السياسي العالمي. وهو مسرح يقف على النقيض من واقع حياة الشعوب. هو فن مسرحي رديء للغاية. لا يُنمي حبَ الحياةِ والعدل والجمال. لا يدعم القيم الإنسانية الراقية. إجتاحت المرحلة الحالية من تاريخ عالمنا مسرحيات عسكرية دموية تختزل مفاخر الشعوب وتقهر إعتزازها بنفسها. تحطم أساسيات حياتها الأولية من ماء وكهرباء ومؤسسات تعليمية وصحية وخدمية، وتتيح سرق ممتلكات الشعوب وحتى تاريخها.

كانت البلاد العربية حتى الأمس القريب طليعة وبؤرة لحركة التحرر الوطني العالمية. جرى إنهاك جبار وظالم ومنظم ومتعمد لهذه المنطقة، حتى كادت تفقد نفسها. فقدت بعض قواها الأساسية الواعدة أجزاءً من مبررات وجودها، أو على الأقل أريد زرع هذا الإعتقاد فيها. بات الثوري الذي أفتقر بفضل نضاله أمام خيارين، إما الموت جوعاً أو تهديداً بالجوع أو قتلاً، إو شراء نضاله السابق ودفعه الى الإرتزاق. سارت الماكنة الإعلامية الجبارة في الوقت ذاته بإتجاه تهشيم صورة المناضل الأصيل، والتقليل من إعتباره، حتى بين الناس أصحاب المصلحة الحقيقية، بدعم نضال كل مَنْ يناضل من أجلهم بشرف مسؤولية. هنا وَقَعَ مَنْ لا يفهم قوى المجتمعات وحركة التاريخ بوهم كبير. إن قوة جذوة النضال لا تكمن بحجمها، إنما بعدالة قضيتها، فكيف حال القادم إذا إحتوت البلادً جَذَواتٍ، وليس جذوة واحدة. وإن للشرارة الصغير أفعال كبيرة.

ـ إنتهى

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com