مقالات

الساعة 0 /التاريخ : 1 / 1 / 2021.

بيدر ..

الساعة 0 /التاريخ : 1 / 1 / 2021

ضرغام الدباغ

وماذا بعد … سوف تتساقط الأيام والرزنامات، والدفاتر اليومية .. كما يتساقط المطر …. وتثير ذكريات الماضي .. ووجوه كانت قريبة صارت اليوم لشتى الأسباب بعيدة، أصدقاء ورفاق وأحبة … وحتى أنا لم أكن لأعتقد مطلقاً أن يمتد بي العمر حتى يوم 1 / 1 / 2021، فلا تكاد تمضي سنة دون أن أواجه فيها مشكلة كبيرة تتعلق بحياتي وسبل العيش حتى أني اعتدتها وألفتها … ومن تلك أني لم أسكن في بيت أكثر من سنتين أو ثلاثة …. فأهج بحثاً عن مكان جديد مضطراً أخاك لا بطل …

في حياتي منذ أن تستحق التسجيل بعد تخرجي من الثانوية صيف عام 1961، غادرني الأمان والاستقرار، فهذه ستون عاماً …. لقد أمضيت منها 18 عاماً في السجون …وسنتين أو ثلاثة مختفياً هنا وهناك، 32 عاماً خارج العراق في المنفى أو هارباً بحجة الدراسة،  وما تبقى من السنوات وهي قليلة لا تصلح للبدء بمشروع …

عشت في دول عديدة (4 دول)… في وطني المعشوق، وفي سورية ولبنان، وألمانيا، في سورية ولبنان اتخذتهما كوطن لي، وفكر البعث لعب في عقلي وأقنعني ” بلاد العرب أوطاني من الشام لبغداد ” فقد أحببت سوريا كحبي العراق، وناضلت فيها ودافعت عنها باليد والسلاح والقلم، وما زلت أحب سورية كما أحب سائر أقطارنا العربية، وأنا لا يعجبني كثيراً القول هذا مصري وذاك تونس أو أردني، بل هذا من بغداد وذاك من دمشق وذاك من القاهرة، وذاك من مدينة تونس،  وألمانيا التي لم أكن أعتقد للحظة واحدة أن أقيم فيها، وأعيش، هي دون ريب بلاد رائعة عظيمة لأهلها، ولكني عملت فيها، ودرست، وأحببت مرة فتاة ألمانية حباً ملك فؤادي وعقلي، ولكني خسرتها غصباً، كما خسرت الآلاف من كتبي واسطواناتي وأشيائي المحببة، وتعلمت لغتها فأحببتها (رغم صعوبة اللغة الألمانية) فكتبت بها، وترجمت منها للغتي الأم فأنا عربي عراقي حتى آخر ذرة من أعماقي.

ليلة رأس السنة الميلادية لم تكن حدثاً ذي بال … ولكنها تتحول تدريجياً إلى مناسبة، نبدأ بها سنة جديدة، ومن هذه السنوات الستون، أمضيت 17 ليلة رأس سنة في السجون،  وليلة في عمان، وأخرى في بيروت، وليلتان في دمشق، وليلة في براغ / تشيكوسلوفاكيا، وليلة في أستامبول، و25 ليلة في ألمانيا، وما تبقى منها في بلادي ..

كثيرا ما كان طابع تلك الليالي نضالي، ولكن بعضها كان يعبر عن الأمل في حياة مستقرة، وبعضها كان مغعماً بالحب، وأخرى لا تغيب فيها وجوه الأصدقاء والرفاق الذين أستشهد منهم، أو من هو خلف القضبان، وأحينا نقرأ القصائد الجميلة، وأحياناً نستمع إلى الأغنيات والموسيقى … وغالبا ما أعيش طقوسي الخاصة فلا يلهيني شيئ مما يحيط بي …. وطقوسي الخاصة لها فقراتها المميزة … وجوه الرفاق ممن رحلوا عبر المسيرة … وجوه الأحبة الذين كان فراقهم لمجرد ساعات أمر في غاية الصعوبة …!  ومن أحبني كان عليه أن يدرك بعمق، أن حياتي ليست ملكاً شخصياً لي … وقد نجوت مرات كثيرة جداً لدرجة الممل من الانتظار من الموت برصاص الاغتيال أو صريعاً في قتال، أو معلقا على مشنقة في احتفالية مع رفاقي ..! نتقدم للموت غير هيابين وفق قاعدة :

سأحمل روحي على كفي والقي بها في مهاوي الردى … فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا

وأني لعمرك أرى مصرعي  …….  ولكني أحث إليه الخطى

كنت أنتظر تلك اللحظة وقد استعديت لها أتم الاستعداد منذ أول شبابي، وكنت دائما في المكان الذي يجب أن أكون فيه، وحيث يطلبني الواجب، ومراراً كنت أتطوع بنفسي وبإلحاح حين ألمح في عيون الرفاق إشفاقاً على من نفسي ….!

كانت ساعات ودقائق مواجهة الموت الأكيد تنقلب إلى ذكريات وأحاديث ضاحكة، وكنا نفرح إذ نجتاز المحنة ونحن ما زلنا على قيد الحياة، لكي نواصل المسيرة … إلا مرة واحدة تمنيت فيها الموت، حين شاهدت جنود الاحتلال في العراق … لن أزيد ……!

اليوم دخلنا عامي ال 77، ولا أعرف ما هي العبرة في بقائي حياً … لذلك فأنا أعمل أكثر من 10 ساعات يومياً قراءة وكتابة وترجمة، وأحاول أن أكون مفيداً بأي درجة كانت …فقد قرأت جملة للفيلسوف البريطاني كولن ولسن مرة : قيمة كل شخص هي درجة افتقاد الناس له حين رحيله …!

اليوم أنا في شقتي الصغيرة ببرلين أستقبل صباحاً رماديا هو اليوم الأول من عام 2021 ، وهي من السنوات النادرة جداً أن نصبح والثلج الأبيض لا يغطي كل شيئ … وكورونا اللعين منع الناس من الفرح كما ينبغي الليلة المنصرمة في استقبال السنة الجديدة …  فلم يكن هناك سوى شبان عابثون أطلقوا الألعاب النارية الضوئية … لدقائق فقط .. ثم عم السكون …………….

بالنسبة لي قد أنجزت إعادة نشر مؤلفاتي وأعمالي المترجمة التي اشتغلت عليها منذ عام 1977، ووزعتها مجاناً، ولم يبقى سوى القليل جداً (ربما نحو عشرة كتب) وسوف أصدر بها نشرة لأزود من يطلبها، وكذلك بحوثي، وبعضها يستحق الاحتفاظ به، وكلها الكترونية سهلة الحفظ.

قلت ما عندي …. أتمنى للجميع سنة خالية من التعقيدات والمتاعب، أتمنى لوطني أن يتاح له أن يرتاح أخيراً لنشيد بلداً مثل الخلق والناس ……

اللهم لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ

 

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com