منوعات

فلسطين… ما أشبه ما نحن فيه!

بيدر ميديا.."

فلسطين… ما أشبه ما نحن فيه!

واسيني الأعرج

 

ما يحدث اليوم في فلسطين، وغزة تحديداً، من دمار شامل وإبادة جماعية لا رحمة فيها، وتجويع، يرمينا في عمق التاريخ مع صرخة مكتومة. ما أشبه البارحة باليوم، وكأن التاريخ البشري ليس درساً ولا ينفع لشيء، ضحية الأمس يلبس قبعة مجرم اليوم ضد عدو ليس هو من ارتكب جرائم إبادة اليهود ويتحالف مع قتلته.
كيف يمكن رسم المشهد الدرامي القاسي الذي حولته الهزائم المتكررة إلى قدر ملعون؟ الحروب العربية الأولى اعتمدت على المتطوعين في غياب جيوش نظامية حقيقية، وكأنها نزهة. تقابلها المليشيات الصهيونية المدربة، والمسلحة بأحدث الأسلحة البريطانية الفتاكة، والمكونة من المجموعات التي سمحت لها الحرب العالمية الثانية من أن تخرج قوية من تجربتها: البالماخ والإرغون، والهاغاناه، والشتيرن. الجهة الصهيونية أخذت موضوعة الحرب بجدية لأن المسألة بالنسبة لها وجودية وليست مجرد انتصار على العرب. وهذا كان يحتاج إلى تجنيد كل الطاقات الحية لضمان الانتصار. الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت قد أصدرت في 29 نوفمبر 1947م قراراً بتقسيم فلسطين لدولتين يهودية وعربية، وتدويل منطقة القدس، فكانت النتيجة التالية: 56%، لليهود، 43%: للعرب ،1%: منطقة القدس (وضعت تحت الانتداب بإدارة الأمم المتحدة). العرب عارضوا القرار منذ الإعلان عنه، لأنه ظالم. بينما قبل به الصهاينة لأنه كان جزءاً من رهاناتهم.
المشهد تراجيدي وقاس. الظلم واضح. يفتح الفلسطيني فجأة عينيه على أرض أخرى، ومنطق آخر، وجرح جديد سيستمر طويلاً في النزف حتى اليوم بأشكاله الأكثر وحشية، لم يشهدها التاريخ المعاصر. سماء مغتصبة، ومشهدية قتل على المكشوف أمام الجميع، أمريكا وأوروبا بلا شخصية، وطيران يهد مدينة بكاملها على رؤوس أهاليها في عملية إبادة شبيهة بالهولوكست النازي، مع اختلاف طفيف، الضحية هي التي تقوم بالجريمة الموصوفة، وكأن التاريخ مجد فاصلة في جملة طويلة، لا يفيد في شيء. كان العرب، شكلياً وعددياً يبدون بعد رفضهم التقسيم كأنهم سيجعلون من الصهاينة لقمة سائغة. هذا الإحساس الذي تطور على فكرة «رميهم في البحر» التي استغلتها الدعاية الصهيونية لصالحها بشكل كامل، بيّن عجزاً كلياً في التفكير، وعجزاً في تحليل مقدرات العدو والقوة العربية من حيث التنظيم والتحالفات. ألصقت تهمة معاداة السامية بجمال عبد الناصر الذي اتضح لاحقاً أنه لم يقل هذه الجملة، الذي قالها في 1948 المصري عبد الرحمن عزام باشا، أول أمين جامعة الدول العربية. قال: «إن على اليهود الذين جاؤوا إلى فلسطين عن طريق البحر، أن يعودوا من حيث جاؤوا، على السفن ذاتها التي حملتهم، عبر البحر»، وشتان بين المفهومين. وكان من فضح هذه الدعاية هو الوزير العمالي كريستوفر ميهيو، الذي اقتيد في بريطانيا إلى المحكمة التي، بعد أن استمعت إلى الأدلة، أصدرت في فبراير 1976 قرارها لصالح ميهيو الذي دافع عن فكرة أن جمال عبد الناصر لم يقل هذا الكلام، وأن المصرح واضح، وهو ليس زعيماً عربياً.
نية التحرر كانت كبيرة، لكن بلا قاعدة ولا حليف، وكأن الأمر يتعلق بالشجاعة فقط. في 12 أبريل 1948 أقرت الجامعة العربية بإرسال الجيوش العربية إلى فلسطين. أكدت اللجنة السياسية أن الجيوش لن تدخل قبل انسحاب بريطانيا المزمع في 15 مايو. يومها بيعت أرض فلسطين في اتفاق سري بين الإنكليز والوكالة اليهودية، بكل فصوله التي تكشفت لاحقاً. في الساعة الرابعة، بعد الظهر من 14 مايو، أعلن المجلس اليهودي الصهيوني عن قيام دولة إسرائيل. بعد بضع دقائق اعترفت بها الولايات المتحدة التي كانت تنتظر القرار فقط. ونشر الرئيس الأمريكي هاري ترومان رسالة الاعتراف بإسرائيل. بينما كان العرب في نقاشات المهزوم، بين التدخل من عدمه. قبل انتهاء الانتداب البريطاني لفلسطين بأسبوعين، حدث تغير كبير في الموقف المصري حددته العلاقة مع الإنكليز، وأصبح الملك فاروق ورئيس وزرائه النقراشي من المؤيدين لدخول جيش مصر الحرب. وتم ذلك بشكل ارتجالي، بلا دراسة علمية لحقائق الميدان. في مساء يوم 12 مايو 1948م، أي قبل إعلان انتهاء الانتداب بيومين، وافق المجلس على دخول الحرب. في الجهة الصهيونية كان الأمر مختلفاً، فقد كانت الوكالة اليهودية تمثل القيادة السياسية اليهودية ويرأسها ديفيد بن غوريون، بالتعاون مع القوة العسكرية المتمثلة في الهاغانا الذي شكل لاحقاً جيش الدفاع، وجماعتي إرغون وشتيرن. سارعوا إلى استغلال الوقت استغلالاً كلياً، بتنظيم محكم. وبخرائط حربية كانت جاهزة ولا تنتظر إلا مغادرة الإنكليز. تولى من الجهة العربية، الملك عبد الله مركز القيادة العليا للجيوش العربية في فلسطين، بينما تكلف اللواء المصري محمد أحمد المواوي القيادة العامة للقوات العربية، بالإضافة إلى قوة خفيفة من المتطوعين يقودها البكباشي أحمد عبد العزيز، تعمل على المحور الشرقي من خط العوجا، إلى بئر السبع، إلى الخليل وبيت لحم. وبدأ التفكير في تدبير الأسلحة بعد رفض الإنكليز، ولم تستطع لجنة احتياجات الجيش أن تلبي الحاجات العسكرية. فظهرت بعدها فكرة السلاح الفاسد الذي قيل عنه إنه كان السبب الرئيس في الهزيمة العربية. ربما كان عاملاً ثانوياً. الذي يدخل حرباً مصيرية قبل يومين لا يمكنه إلا أن يهزم أمام عدو شرس ومصمم ومدرب من بريطانيا. انتهت حرب فلسطين بهزيمة مصر والدول العربية، واستيلاء إسرائيل على أرض فلسطين كلها، ما عدا الضفة الغربية والقدس العربية، وقطاع غزة الذي يشكّل اليوم شوكة في حلق إسرائيل المصممة على إذلال العربي وإنهاء أية مقاومة ضد الاحتلال، بتحالف أوروبي ما يزال تحت أزمة ضمير جريمة ارتكبها النازيون بصمت متواطئ من أوروبا التي تعيد اليوم إنتاج نفس الحالة مع غزة التي تتم إبادتها بتزكية أورو-أمريكية إجرامية.. فحصلت إسرائيل بذلك على أكثر مما أعطتها إياها وثيقة التقسيم.
كل المقاومات العربية اللاحقة أخفقت، لأن العرب دخلوا بعقلية المهزوم أو المستهين بالعدو. فقد تشكل جيشهم الأول من المتطوعين وليس من محاربين حقيقيين؛ من لحم المدافع، الذين ذهبوا للجبهات ليس للانتصار لكن للاستشهاد. جيش الإنقاذ الذي أوكلت له مهمة إنقاذ فلسطين، بلا تدريب، كان عليه إنقاذ نفسه تنظيماً من هلاك كان يرتسم في الأفق، ولا مكان للنوايا الحسنة في الظرفيات المصيرية. فطريق جهنم مفروش بالنوايا الحسنة. وعلى الرغم من أن عدد وحدات جيش الإنقاذ كان كبيراً، لم تنفع لا قيادة ولا شجاعة اللواء إسماعيل صفوت، الذي كان وراءه حوالي 4000 متطوع، ولا قيادة وشجاعة فوزي القاوقجي، ولا جرأة 2500 مجاهد فلسطيني، على صناعة قدر آخر غير الهزيمة. الرغبة كانت كبيرة، لكن الفعل كان انتحارياً في النهاية. لم يكن الجيش الإسرائيلي قوياً، ولكن الجيش العربي كان ضعيفاً ومستهيناً بعدو صنعته الصفقات البريطانية والوكالة اليهودية. القادة العرب يتصرفون إلى اليوم تصرف المهزوم. ليست المفاوضات عبر التاريخ هي الإشكال، ولكن كيفية الدخول إلى المفاوضات، بأية أوراق للضغط؟ كانت المقاومة والانتفاضة في وقت من الأوقات، هي تلك الورقة الساحرة، لكنها سقطت بعد اتفاقية أوسلو وأصبح الجسد الفلسطيني عارياً بين مخالب صهيونية مفترسة لا تؤمن إلا بالغطرسة والقوة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com