مقالات

ضرورة إبقاء أطفال العراق متخلفين .

بيدر .

هيفاء زنكنه .

تواصل الهيئات الحكومية البريطانية والدولية المعنية بحماية ورعاية الأطفال، اصدار التقارير حول تأثير اغلاق المدارس على الأطفال جراء انتشار فايروس كوفيد 19 ومدى امتداد ذلك التأثير على المجتمع ككل مستقبلا. تُحذر التقارير كلها من التأخر في القدرة على التعلم بالإضافة الى المعاناة النفسية والجسدية كالاحساس بالعزلة والقلق وقلة الحركة. لذلك اتخذت الحكومة البريطانية وعديد الدول الغربية المتقدمة قرارات واجراءت فعالة لابقاء المدارس مفتوحة ومواصلة التعليم، عن بعد، عند الضرورة القصوى. اذ تؤكد دراسات علمية اجريت حول تأثير إغلاق المدارس كما حدث عام 2005، حين اسفر إعصار كاترينا الذي اصاب ساحل الخليج، عن نزوح 370 ألف طفل وتدمير أكثر من 100 مدرسة عامة، ان آثار الكارثة ظلت قائمة بعد عودة الأطفال الى المدارس. أظهر بعض الأطفال اعراضا متزايدة من القلق والاكتئاب وضغط ما بعد الصدمة لفترة طويلة بعد الحدث؛ ووجدت دراسة بعد خمس سنوات أن أكثر من ثلث هؤلاء الأطفال النازحين ما زالوا متخلفين بسنة على الأقل عن أقرانهم أكاديميًا، وانهم غير منضبطين في سلوكهم وعواطفهم.
كما بينت دراسة اجريت عام 2019، أن الطلاب في الأرجنتين الذين فاتهم ما يصل إلى 90 يومًا من المدرسة في الثمانينيات والتسعينيات بسبب إضراب المعلمين كانوا أقل من غيرهم امكانية للحصول على درجة علمية، وأكثر عرضة للبطالة، وحصلوا على حوالي ثلاثة بالمائة أقل في المتوسط من المناطق الأقل تأثراً. تعطينا هذه الدراسات والبحوث صورة عامة عن العوامل المؤثرة كالأعاصير والفيضانات وانتشار الأوبئة على توفير التعليم المدرسي للأطفال وانعكاسات القطيعة التعليمية، مهما كانت مدتها، على الأطفال عقليا وجسديا. أما في مناطق النزاع، فتدل البحوث على ان العبء الأكبر يقع دائمًا على الأطفال الذين فقدوا أسرهم، أو الذين يعاني أحد والديهما من صدمة نفسية. مما يأخذنا الى وضع اطفالنا، في البلدان العربية، التي تعيش اما في ظل احتلال مباشر (فلسطين) أو غير مباشر في ظل حروب ونزاعات كالعراق وسوريا واليمن ولبنان، بالاضافة الى خطر وباء كوفيد. هنا، تستوقفنا أسئلة تنعكس على الأطفال والمجتمع ككل. ترى كيف ستكون شخصية الطفل الذي يعيش هذه الظروف بتفاصيلها البائسة يوميا؟ بعيدا عن التعليم أو بتعليم متقطع، وفقدان احد الوالدين، وعدم الاحساس بالأمان، والخوف من فقدان من تبقى من عائلته، أي مستقبل يتوقعه الطفل، وكيف يتخلص من المخاوف وعدم الثقة بالآخر التي ترسبت، مبكرا، على انسانيته؟


أطفال العراق يعيشون هذه التفاصيل وغيرها. بعد ثلاث سنوات من إعلان النظام النصر ضد تنظيم الدولة الإسلامية، لا يزال هناك 1.3 مليون نازح، موزعين في مخيمات نُصبت، منذ ما يقارب العقد، لتكون مؤقتة الا انها باتت دائمية. وبدلا من العمل على اعادة التوطين بشكل مستدام واتفاق مسبق يحفظ كرامة المواطنين وتأمين الضروريات، شرع النظام، الشهر الماضي، باغلاق المخيمات دون انذار مسبق ومشاورات مع ممثلي النازحين ووكالات الإغاثة العاملة في المخيمات للانتقال «الطوعي» الذي يصفه 60 بالمئة من النازحين الذين عادوا الى مناطقهم، بانه اجباري، بينما نزح 44 بالمئة منهم الى مخيمات أخرى ستغلق أيضاً أو منازل شبه مهدّمة، ولم يعد نحو نصف سكان تلك المخيمات إلى مناطقهم الاصلية، اما لأن بيوتهم في مناطق مدمرة أو لانعدام الخدمات او لتعرضهم، وفق منظمة الهجرة الدولية، التي تفادت التحديد، مثل استملاك الميليشيات لمناطق مثل جرف الصخر.

هناك اليوم ما يقارب من 3.2 مليون طفل عراقي في سنّ الدراسة خارج المدرسة، وأن الوضع في عدد من المحافظات سيئ جدا، حيث أنّ ما يزيد عن 90 في المئة من الأطفال في سنّ الدراسة خارج النظام التعليمي

في تلخيصه للحال، يقول فلاح حسن حسين على موقع المجلس النرويجي للاجئين: «لقد سجلنا العودة قبل أكثر من عام من مخيم السلامية الأول /محافظة نينوى، ولم نتلق اي مساعدة لا من وزارة الهجرة والمهجرين، ولا اية منظمة. والمنطقة الي نسكن فيها خالية من الخدمات، ولا يوجد ماء صالح للشرب. نشتري خزان الماء بثمانية الاف دينار، ولا توجد فرص عمل. لو باقين بالمخيم أحسن من هاي الحالة».
ماذا عن التعليم؟ عن الدوام المدرسي الذي يؤدي الى أضرار نفسية وعقلية كبيرة قد تمتد مدى العمر، كما تحذر الدراسات العلمية وتخشاها الدول الغربية؟ يشير تقرير حديث لليونسيف أنّ هناك اليوم ما يقارب من 3.2 مليون طفل عراقي في سنّ الدراسة خارج المدرسة، وأن الوضع في عدد من المحافظات مثل ديالى وصلاح الدين سيئ جدا، حيث أنّ ما يزيد عن 90٪ من الأطفال في سنّ الدراسة خارج النظام التعليمي، وما يقرب من نصف الأطفال النازحين في سنّ المدرسة، أي حوالي 355.000 طفل وطفلة، ليسوا في المدرسة. والوضع أسوأ بالنسبة للفتيات في المدارس الابتدائية والثانوية. حيث ارتفعت معدلات التسرب، فضلا عن ارتفاع عدد المدارس المزدوجة التي تعمل بدوامين أو ثلاثة في اليوم الواحد، وبصفوف مكتظة يصل فيها عدد الطلبة إلى 60 طالبا في الصف الواحد.
يعزي التقرير الاسباب الى « عقود من الصراع، وغياب الاستثمارات في النظام التعليمي الذي كان يُعدّ فيما مضى أفضل نظامٍ تعليمي في المنطقة». مبينا ان حصول الأطفال على التعليم الجيد، يتوقف على معالجة عوائق رئيسية وتشمل « التمويل غير المنصف، وعدم كفاية البنية التحتية التعليمية لا سيما في المدارس في المناطق الريفية والمناطق المتضرّرة من الأزمة، والنقص في المواد التعليمية الضرروية الذي يحدّ من التعليم الفعّال، والافتقار إلى مرافق المياه والصرف الصحي والنظافة الملائمة والمواتية للفتيان والفتيات، والتوزيع غير العادل للمدرّسين المؤهلين».
وستتبدى بوضوح مدى جدية النظام في ايجاد حلول للعوائق حين نعلم ان الميزانية الوطنية للبلد، خصصت في السنوات الماضية، أقل من 6 بالمئة للقطاع التعليمي، ممّا يضع العراق في أسفل الترتيب لدول الشرق الأوسط، في الوقت الذي تتزايد فيه تخصيصات الفساد المالي لتصل المليارات. لاتوفر المدارس مكانا للتعلم فقط بل أماكن لحماية الأطفال من الأذى والمحافظة على سلامتهم من خلال التعرف على التهديدات التي قد يتعرضون لها في المنزل والمجتمع. ووجود الأطفال خارج المدارس يعني حرمانهم من الاحساس بالأمان وجعلهم أكثر عرضة للاستغلال وسوء المعاملة، بما في ذلك عمالة الأطفال والاستغلال الجنسي والزواج المبكر، والأخطر على انفسهم والمجتمع هو التجنيد من قبل جهات مسلحة أيا كانت. واذا اخذنا بنظر الاعتبار أبحاثا أمريكية توصلت الى ان فقدان عام دراسي واحد يعادل تخلفا ذهنيا عاما بمعدل نصف عام، هل من المستغرب اقتناع الكثيرين بأن سياسة النظام العراقي التعليمية هي تكريس التجهيل وتدمير الأجيال الجديدة، عقليا وجسديا، وابقاء البلد ضعيفا قابلا للاستغلال والهيمنة، وهو هدف الاحتلال عام 2003، والتوافقات الاقليمية التي تلته.

كاتبة من العراق

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com