مجتمع

اللميعة والدكتور جعيط وموتنا الآتي!

بيدر ميديا.."

اللميعة والدكتور جعيط وموتنا الآتي!

 

 غادة السمان

حين بدأت الكتابة في «القدس العربي» منذ أعوام لاحظت مقالاً شبيهاً بفصل عن الذكريات للشاعرة العراقية لميع عباس عمارة، وكانت لميعة تلمع -كما سمعت- حين تقف على المنبر وتلقي أشعارها، وتمنيت أن أطالع لها يومئذ كل أسبوع كما أكتب أنا عمودي الأسبوعي، لكن اسمها غاب. وكنت قد قررت الاتصال بها أينما كانت لأحرضها على الكتابة الأسبوعية في «القدس العربي» وشعرت بالحسرة لأن لميعة عباس عمارة رحلت دون أن ألتقي بها مرة واحدة.
لكنني سمعت الكثير عن جمالية إلقائها لقصائدها وحضورها على المنبر، وتأكد لي ذلك حين قرأت ما كتبه الشاعر العراقي علي جعفر العلاق عنها، إذ قال: «أسطورة الشاعرة العراقية لم تصنعها قصائدها وحدها، بل ما في تلك القصائد من بهاء الإنشاد وجزوة الصوت وتموجاته الدالة، ومن اهتمامات الأنثى مغلوبة وغالبة». أما علاقتها بالسياب، حقيقة كانت تلك العلاقة أو متوهمة، فقد تركتها عمارة دون نفي أو تأكيد، وكأنها قطرة من ضوء… أحببت كلمة الشاعر علي جعفر العلاق (22-6-2021) إذ كتب عنها وكأنها لم ترحل عن كوكبنا. وليس في سطوره كلمة رثاء واحدة، بل الكثير من التقطير الشبيه بالحنين نحو «قيثارة الإبداع».

وداعاً أيها المفكر الكبير جعيط

أعرف أننا جميعاً نعيش في ذلك المطار، وحين يُنادى علينا نستقل تلك الطائرة التي تنقل الناس إلى وجهة واحدة: المقبرة.
ولكنني أسفت لرحيل التونسي هشام جعيط، رئيس «جامعة الحكمة». وكان يكتب بالفرنسية والعربية، وكلمته محترمة في الغرب. كما كان صديقاً لناشره الأستاذ الجامعي والناشر اللبناني بشير الداعوق (زوجي) صاحب «دار الطليعة» اللبنانية. ومن الكتب التي أصدرتها «دار الطليعة» للدكتور جعيط تسعة كتب، منها: الوحي والقرآن والنبوءة، وتاريخية الدعوة المحمدية، ومسيرة محمد في المدينة، والفتنة الكبرى، ونشأة المدينة/الكوفة.
ودهشت حين اتصل بي يومئذ الأستاذ سامي كعكي من «دار الطليعة» وقال لي إن المفكر التونسي الكبير يريد رقمي الهاتفي في باريس ليحدثني، وكان ذلك بعد رحيل زوجي.

رشحني وقبلوا ترشيحه!

ظننته يريد تقديم التعازي لي برحيل زوجي ولو متأخراً، لكنني حين سمعت صوته للمرة الأولى والأخيرة فوجئت به يقول لي، وهو المفكر الكبير الشهير حتى في الغرب: لقد رشحتك لجائزة نوبل للأدب وقبلوا ترشيحي، وصار اسمك على قائمة المرشحين للجائزة.
ولم أقل له إن العديد من الأدباء والمفكرين العرب سبق أن قاموا بترشيحي لتلك الجائزة، لكنها المرة الأولى التي تقبل فيها اللجنة السويدية للجائزة إضافة اسمي إلى قائمة المرشحين. وكانت تلك المخابرة الهاتفية الوحيدة بيننا، وكم سررت حين قرأت ما سطره عنه الكاتب التونسي مالك التريكي تحت عنوان «بين جعيط وطه حسين: فتنة التاريخ والأسلوب» ومما جاء في المقال واجتذبني قول التريكي: رحم الله هشام جعيط، كان مثقفاً شامخاً ورجلاً أشمّ، يبدو لمن لا يعرفه مانعاً رادعاً وذا صرامة تشبه القسوة، ولكن مع غنى نفس وعدالة». للأسف، رحل هشام جعيط ولم أسمع صوته إلا مرة واحدة، لكنني سمعته عالياً في كل كتاب سطره، والكتب لها حنجرة حتى بعد انطفاء حنجرة الكاتب.

فرنسواز هاردي: أريد أن أموت!

لا أدري لماذا لا نحب كعرب، وبالذات نجوم الشهرة الحديثَ عن الموت وعن موتهم الشخصي.
وإذا قال أحدنا في جلسة اجتماعية: «حين أموت».. يقاطعه الحضور بعبارة: «بعيد الشر». ولكن الموت ليس شراً! إنه الكأس التي سيشرب منها المتسول والملك والفقير والمليونير. الموت قدرنا جميعاً، لكننا نعتقد أن الحديث عن موتنا بمثابة اعتداء شخصي علينا.
وهكذا حينما تمرض ممثلة عربية أو مطربة شهيرة يتم التكتم على الأمر كما لو كان فضيحة. ولذا، يعجبني في الغرب نجوم الطرب والسينما وهم يتحدثون عن موتهم الآتي ببساطة. وها هي المغنية الفرنسية الشهيرة فرنسواز هاردي، زوجة المغني جاك ديترون، تقول ببساطة: أنا مريضة جداً، وأتعذب، وأريد أن أحظى بحق الموت! أي بمساعدة طبيب لي على الموت الرحيم دون أن أتعذب بانتحار أهوج.

عندنا: المرض سر والموت مفاجأة!

في بلادنا العربية يمرض نجومنا سراً كأن المرض عاهة. ومن المحرم دينياً أن يطلب أحد منا مساعدته على الانتحار غير الأليم.
الحياة وهبها الخالق للإنسان وهو يستعيدها حين يشاء، لكن ذلك لا يمنع الحديث عن مرضه المزمن وأوجاعه. ولكن في عالمنا العربي نتكتم على أمراضنا وسوء حالتنا الصحية، بل والأوجاع المروعة التي نعيشها كأننا نموت بالتقسيط!
وقد وجدت في حوار النجمة فرنسواز هاردي، التي كانت جميلة في شبابها، شجاعة دونما أي خجل من الشيخوخة والمرض، بل وحتى الموت الذي تشتهيه. وربما كان على نجومنا العرب الإقرار بأمراضهم المميتة (كمرض فرنسواز هاردي بالسرطان) فقد يمنح الشفاء الذي قد يكون قدرهم شجاعة للآخرين لمواجهة المرض وليس رغبة في طلب (الموت الرحيم) فالخالق وحده يقرر متى نموت.

كأنهم يموتون سراً!

كتبت ما تقدم لأن موت المبدعين العرب الذين نحب، يكاد يكون مفاجأة لتكتمهم على الأمر، وبالذات من حولهم، ولا مفر من (تطبيع) العلاقة مع الموت، وأن نقول علناً: مرضنا لا شفاء منه، وإنها مشيئة الخالق. أما عن (الموت الرحيم) أي الانتحار بمعونة طبيب هرباً من ألم الاحتضار، فما زال قضية خلافية حتى في الغرب. وأظن أن موت المرء وهو نائم أجمل أنواع الموت، ويبدو أنه لا مفر لنا كعرب من الصلح.. مع الموت! ولو على مضض! وحين يقول أحدنا: حين أموت.. لا تقاطعه بعبارة «بعيد الشر».
الموت ليس شراً. انه الحقيقة التي قد تكون أليمة جداً لمن حولنا.. ثمة طبيب في المستشفى الشهير في ضاحية «نوبي» الباريسية كان أحد الذين عالجوا المرحوم زوجي وصار يسألني كلما ألتقى بي مصادفة في دهليز المستشفى: هل كان زوجك يعرف انه يموت وهو يحتضر! سؤال يسبب لي الألم لأنه يذكرني برحيل زوجي وصرت حين أرى ذلك الطبيب أُسارع الخطى وأتظاهر بأنني لم أره.. ومرة حاصرني وسألني السؤال ذاته وقلت له بقسوة: ستعرف الإجابة حين تحتضر وتموت أنت أيضاً. ولم يعد بعدها إلى طرح السؤال عليّ!!.. وصار هو يتحاشاني!

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com