تحقيقات

لقاء مع جريدة النداء .. حسين مروة ١٩٨٠ .

بيدر ميديا

قاء مع حسين مروة في مقابلة خاصة مع جريدة “النداء” بمناسبة الذكرى السادسة والخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني، يعكس فيه اندماجَ مسيرة المفكر والأديب والمناضل بمسيرة الحزب والنضال الوطني عامةً ومسيرة الفكر التقدمي… وكانت أجوبة الدكتور حسين مروة تقدّم لَمحةً عن مسيرة الحزب الثقافية ورأياً نابعاً من هذه المسيرة، في قضايا أساسية (راهنة) حول الحزب على الصعيد الفكري الثقافي، وحول الجبهة الثقافية الديمقراطية، إلى جانب لمحات من الجانب الآخر، تجربة حسين مروة الشخصية، الفنية والمعبِّرة في قلب هذه المسيرة.

هذا نَصُّ المقابلة التي أجرتْها علوية صبح، نُشرت في 26 تشرين الأول 1980:

• بعد تجربتك الطويلة والغنيّة في الحزب، كيف يتعامل الحزب مع الواقع الثقافي في لبنان؟
ـ يمكنني القول، إنّ علاقتي بدأت أول ما بدأت، عبر التعامل الثقافي. فأنا مذ رجعتُ من العراق صيف عام 1949 بدأتُ أكتبُ في جريدة “الحياة” زاويةً يومية كان عنوانُها أول الأمر كلمةَ “أدب”، ثم صار عنوانُها الدائم “مع القافلة “. وهذه الزاوية استمرّت يومياً أكثرَ من سبعِ سنواتٍ متواصلة. وفي الوقتِ نفسِه كنتُ أوائل الخمسينيات، أكتبُ صفحةً ثقافيةً أسبوعية في جريدة “الحياة ” نفسِها. هذه الزاوية، وهذه الكتابات، كانت تطرحُ قضايا فكريةً وأدبيةً واجتماعيةً وسياسيةً ذاتَ صلةٍ بالواقع العربي والواقع اللبناني، حتى الواقع اليومي من ذلك. وكان اتجاهها اتجاهاً تقدمياً وكان تناولها جريئاً رغم كونها تصدر في جريدةٍ “غير تقدمية”، إنّ هذا “الإطلال” على الكتابة من هذه “الشرفة” الصحفية هو الذي عقَدَ الصلة بيني وبين الحزب. إذ إن معالجاتي التقدمية والجريئة لتلك القضايا لفتتْ نظرَ الحزب، وكان في الوقت نفسِه عندي مطمحٌ للصلة بالحزب عبر الثقافة أيضاً، وعبر بعض الأصدقاء المثقفّين. وكان لي عِلمٌ أنّ الحزبَ معنيٌّ بالثقافة، ويهتم بالمثقفين. فضلاً عن معرفتي بأنّ الحزبَ يقوم بنشاطه على أساس النظرية العلمية، أعني النظرية الماركسية اللينينية. وقد كانت لي طموحاتٌ إلى استيعاب هذه النظرية بدأتْ معي في العراق إذ كنتُ أعيش هناك منذ تخرّجي من النجف ممارساً الكتابةَ الأدبيةَ والفكريةَ والصحفية مع ممارسة التعليم. وكنتُ ألتهمُ الكتبَ المختلفة ومنها الكتب الماركسية.
هنالك، إذن، صلةٌ موضوعيةٌ فكريةٌ ثقافية بيني وبين الحزب قبل الاتصال المباشر، وهذه الصلة دفعتني، كما دفعتْ بعض الرفاق المثقفين في تلك المرحلة الأولى من حياتي في لبنان، بعد العودة إليه نهائياً عام 1949، دفعتني ودفعت أولئك الرفاق إلى أن نلتقيَ فعلاً. وبدأ اللقاءُ ثقافياً أيضاً، وذلك بأن شرّفني الحزب أن أكون من مؤسّسي مجلة “الثقافة الوطنية” ومحرّريها مع الرفيق العزيز محمد دكروب.
وكان يشاركنا ويوجِّهنا في نطاق التحرير قائدان من قادة الحزب هما الرفيقان فرج الله الحلو ونقولا الشاوي.
إنّ هذه الظاهرة كافيةٌ للتدليل على توجّه الحزب الثقافي واهتمامه بشأن الثقافة الوطنية بالفعل. وقد دأبتُ على هذه الثقافة وإبرازِ قيَمِها الديمقراطية والتقدمية ومكافحةِ عواملِ تشويهها. وكانت المكافحةُ ضدّ كلّ الأفكار السوداء التي تحمل ايديولوجيات الإمبرياليين والرجعيين إلى ثقافتنا الوطنية. وقد دأبتْ مجلة “الثقافة الوطنية” على التوجّهِ نحو التراث الوطني والتقدّمي الفكري. ويُشرّفني أنني حملتُ هذا التوجّه على عاتقي في ” الثقافة الوطنية ” منذ تأسيسها عام 1951.
وفي الوقت نفسِه كانت مجلة “الطريق” تمضي في طريقها الثقافي بثباتٍ منذ تأسيسها على يد الرفيق أنطون تابت وكبار المثقفين في الأربعينيات مثل عمر فاخوري ورئيف خوري. في فترة الأربعينيات والخمسينيات كانت “الطريق” ثم “الثقافة الوطنية” المجلّتيْن العربيتيْن الوحيدتيْن اللتيْن تنشران الفكرَ العلمي والاتجاهاتِ الثقافيةَ التقدميةَ في العالَم العربي كلِّه. وقد سبقتْهما مجلة “الطليعة” التي كانت تصدرُ في دمشق وكذلك مجلة “الإنسانية” التي أصدرها المؤرِّخ المعروف يوسف إبراهيم يزبك أحد مؤسسي الحزب.
على أنه قد لفت نظري قبل الاتصال بالحزب اهتمامُه بإحياء ذكرى كاتبٍ كبير مثل عمر فاخوري ورأيتُ في هذا النهج تقديراً للثقافة والأدب، فزاد ذلك من اندفاعي نحو هذه الصلة التي كان لي شرفُ انعقادها بيني وبين الحزب وانخراطي في صفوفه جندياً مناضلاً عبر الثقافة والأدب والفكر. وقد تطوّرتْ بعد ذلك اهتماماتُ الحزب بالثقافة والمثقفين وبقضايا التراث الفكري القومي وهي ـ هذه الاهتمامات ـ ذاتُها التي أنتجتْ عملي الأخير في كتاب “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية”. فإنه لو لم يفسحْ لي الحزب مجالَ التّفرّغِ التام للتعامل مع التراث والعيش معه نحو عشرِ سنواتٍ كاملة لما كان في طاقتي أن أُنتجَ هذا العمل إطلاقاً. فالحزبُ هو صاحبُ الفضل لكلِّ ما استطعتُ إنتاجَه منذ الخمسينيات إلى اليوم.

الحرب والجديد الذي طرحتْه
• هل طرحت الحربُ اللبنانية رؤيا جديدة في هذا التعامل؟

ـ لا شك أنّ الحربَ اللبنانية طرحتْ قضايا فكرية واجتماعية وسياسية على الكثير من الكتّابِ والمثقفين في بلادنا. وقد نشطت الحركةُ الثقافيةُ في لبنان خلال سنواتِ هذه الحرب الساخنة والباردة معاً مهما اختلفتْ اتجاهات المرتبطين بهذه الحركة من المثقفين اللبنانيين. وأحياناً أقول اختلفتْ اتجاهاتُهم وأعني اختلافَ الرؤيا لهذه الحرب. إنّ هذه الرؤيا قد اختلفتْ بدافعٍ من سببيْن متقاطعيْن لا متوازيين. أحدُهما التكوّنُ الثقافي البرجوازي الذي ينظر إلى الأحداث وإلى الدافع والقضايا المُثارة نظرةً ضيّقةَ الأفق ومنعزلةً عن الآفاق التي يفتحها تطوّرُ العالم دائماً. والسببُ الثاني إيديولوجي يتّصل بالانتماء الطبقي. فإنّ الأيديولوجية رؤيةٌ فكريةٌ معيّنة من زاوية الموقع الاجتماعي الطبقي والفئوي.
على هذا الأساس ظهرت الرؤيا لمشكلاتِ الحربِ وقضاياها مختلفةً جداً. وقد تجلّتْ هذه الرؤيا المتعدّدة المختلفة في مختلف أنواعِ النشاط الثقافي، شعراً وقصةً ورواية وبحثاً ودراسةً ومقالةً ومسرحاً إلخ… كما تجلّى في الفنون التشكيلية وفي الأغنيةِ السياسيةِ وغيرِ السياسية وما يتّصل بالأغنيةِ والموسيقى. والغريب أنّ كثيراً من المثقفين لا يروْنَ هذا التغيّرَ في الرؤيا لدى المثقفين والكتّابِ تجاه قضايا الحرب وما استجدَّ من آثارها على مجتمعنا وعلى مختلفِ فئات المجتمع. لكنّ الذي يجب أن نذكرّه هنا أنّ النشاط الثقافي الذي برز خلال سنواتِ الحربِ هذه، مهما اختلفت الرؤيا لدى أوساطِ هذا النشاط، كان يحملُ ظاهرةً مهمةً جداً في رأيي هي ظاهرة التّحدّي الديمقراطي لمشروع الفاشية في الجانب الآخر من الحرب. لكننا نشعر بالوجه الديمقراطي لثقافتنا الوطنية بكلِّ جوانبها قبل الحرب هذه. كما نشعر الآن أنّ اتّساعَ رقعةِ الديمقراطية خلال ذلك النشاط الثقافي طوال سنواتِ الحرب، كان يشكِّلً تصميماً تلقائياً وجماعياً على تحدّي الفكر الفاشي والسلوك الفاشي القمعي. أي أنّ الديمقراطية الثقافية التي تجلَّتْ في هذا النشاط كانتْ أحدَ أسلحةِ القوى الوطنية في تحدّي مشروع الفاشية، أي المشروع الذي كان من أهم عواملِ هذه الحرب لدى الفريق الآخر الذي اِشعلَ نارَها.

جبهة ثقافية ديمقراطية ضدّ الفاشية

• على الصعيد السياسي، هناك عملياً حركة سياسية وجبهة ديمقراطية بين الأطراف السياسية. على الصعيد الثقافي، ماهي برأيك مقوّمات جبهة ثقافية ديمقراطية واسعة؟

ـ يمكن أن يكون ما قلتُ سابقاً عن النشاط الثقافي وجانبه الديمقراطي جواباً على هذا السؤال. لكنْ لا بدّ الآن من إيضاح هذا الجواب بشكلٍ آخر. لقد قلتُ سابقاً إنّ النشاط الثقافي خلال الحرب في المناطق الوطنية كانتْ سِمتَها البارزة الديمقراطية. فماذا تعني هذه السِمة؟ الجواب: تعني بالدرجة الأولى حرية النقاش وحرية الصراع الفكري ديمقراطياً، دون أية بادرةِ قمع أو قطع لهذه الحرية. إنّ ديمقراطية النقاش بهذا الشكل، لكي تتوطّد وتتطوّر، لا بدّ أن تقومَ على أساس من اللقاء الواسع بين مختلف أوساط المثقفين والكتّاب الوطنيين والديمقراطيين والتقدّميين بمختلف اتجاهاتهم وأيديولوجياتهم. والأساس الذي يقوم عليه هذا اللقاء، ينبغي أن يكون مواجهةَ المشروع الفاشي بمختلف تجلّياته المادية والفكرية والاجتماعية. بناءً على هذا الأساس لا بدّ من قيام جبهة ثقافية وطنية واسعة ينضوي تحت جناحيْها كلُّ من تعزُّ عليه الحياة الديمقراطية سواءَ كانت في مجال الفكرِ والثقافة أم في المجالاتِ السياسيةِ والاجتماعية، وكل مَن تعزُّ عليه تقاليدُنا الوطنية التي كانت الديمقراطيةُ مضمونَها الحقيقي. طبعاً لا نعني بهذه الجبهة الديمقراطية الليبرالية بل نعني كما قلتُ سابقاً انفساح رقعة الصراع الفكري والأيديولوجي بالوسائل الديمقراطية بين مختلف الاتجاهات والتيارات الفكرية والأيديولوجية، سواء في مرحلة صدّ المشروع الفاشي أم في سبيل استراتيجية للثقافة الديمقراطية الوطنية.
ويبدو لي أنّ مثلَ هذه الجبهة قد بدأت تُرسي قواعدَها في الأوساط الثقافية عندنا بدليل تلك الظاهرة العظيمة التي رأيناها تتجلّى بوضوح في المؤتمر الأول للكتّاب اللبنانيين الذي نظّمه اتحاد الكتّاب اللبنانيين هذا العام. كما أن لها تجلّياتٍ أخرى في نشاطِ مختلف المؤسسات الثقافية في السنوات الأخيرة مثل النادي الثقافي العربي، والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، وسائر المؤسسات الثقافية والاجتماعية في المناطق الوطنية.

الماركسية واحدة والمهم حُسنُ التطبيق

• بعد مسيرة 56 عاماً للحزب، ثقافياً هناك أصواتٌ “جديدة” بالمعنى الزمني. والديمقراطية تستوعب هذه الأصوات إلى حدّ ذهب بعضُهم إلى القول: ماركسي كلاسيكي وماركسي جديد. ما رأيك؟

ـ لقد أشرتُ فيما سبق إلى رؤيتنا الفكرية في خضم الأحداث ومعترك القضايا التي خلقتها هذه الحرب. وقلتُ إنّ هذه الرؤية، بما هي مستمَدّة من الفكر الماركسي اللينيني ليستْ جديدة، لكنّ الجديد فيها هو التجاوب الخلاّق مع المعطيات المستجدّة رغم ما كان يتخلّلها من مفاجآت ومتفجّرات مستمرة. فالفكر إذن هو الفكر والنظرية الماركسية هي النظرية، لم يتغيّرْ شيءٌ منها ولم يُستجدّْ فيها غير طريقة الممارسة لهذا الفكر وهذه النظرية خلال التعامل مع تلك الأحداث وتلك القضايا. وسواء قلنا إنّ ذلك التعامل كان خطأً أم صواباً فإنّ الجديد هو طريقة التعامل أي التطبيق وليس الفكر أو النظرية. على أنّ القضيةَ في نظري هي أنّ الحزبَ تعامل مع معطياتِ هذا الواقع تعاملاً خلاّقاً كما ذكرت، رغم كلّ المفاجآت، ذلك أنه يستندُ إلى نظريةٍ علمية مطمئنأ إليها ومقتنعاً كلّ الاقتناع بها وممثّلاً بالتعامل معها طبقةً يحملُ كلَّ مطامحَها الاستراتيجية والمرحلية. وخلاصة القول ليس هناك ولن يكونَ هناك ماركسية جديدة وماركسية قديمة، إنما هناك ماركسية واحدة، وهناك مَن يُحسنُ تطبيقها ومن لا يُحسنُ تطبيقها: هذه هي المسألة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com