مقالات

النقد العربي في مواجهة ضعفه؟.

بيدر ميديا .

النقد العربي في مواجهة ضعفه؟

 

واسيني الأعرج

 

نجد اليوم أنفسنا أمام غابة من المسلمات غير الدقيقة. النقد العربي مال في العشرين سنة الأخيرة نحو السهولة الكبيرة في التعامل مع الظواهر الأدبية، ولم يتوقف ولا مرة واحدة بصرامة وجدية ليتأمل منجزه بكثير من التبصر وقليل من التواضع. فيقوم بالعمل الذي يفترض أن يقوم به ما دام يرتكز على المعرفة المسبقة، كما فعل الناقد الكبير تزفيتان تودوروف، قبل سنوات قليلة، عندما وقف وفي يده مشرط النقد الذاتي في التفاتة غير مسبوقة، فانتقد الرحلة النقدية التي تفصل النقد عن دوائره الاجتماعية الطبيعية، التي كان وراءها هو وجيل أصدقائه البنيويين من الستينيات حينما أدخلوا في النقد الفرنسي تجربة الشكلانيين الروس. طرح في كتابه: الأدب في خطر la littérature en péril، قضية شديدة الأهمية في مسألة الأدبية التي تشكل حجر الزاوية في أي معرفة نقدية: هل علمنا أبناءنا حب النص والقراءة لفهم العالم الذي يحيط بهم؟ أم أننا أرهقناهم بالنظرية دون أن يكون لذلك تأثر على النص؟ نحن لا نعلم أبناءنا القراءة الفعالة التي ترتكز على المتعة ومواطن جمال النص، ولكن على الآليات التي لا تهم القارئ إلا في حدود التخصص الضيق. هل نعلمهم النظريات، أم نمنحهم الوسائل العملية لقراءة نص من النصوص وحبه والتأثر بجمالياته؟ وكان سؤاله من وراء ذلك هو تبيان المخاطر المحدقة بالأدب اليوم، فجاء جوابه قاهراً لكل المنجز النقدي الذي مشى على عكازة واحدة تتلخص في شكلية النص، لقد فضلنا الشكل وطريقة الكتابة واللغة على المحتوى الذي يشكل، جزئياً، مبرر الأدب الناجح والجيد.
في الثانويات، بدل أن نفكر في المعنى العميق للأعمال الروائية، فضلنا تحليلها الآلي وفحصها كأنها جثث مخبرية، بالرجوع إلى السيميائيات والبراغماتية وغيرها، على قيمتها، ونتساءل بعدها لماذا لا يحب التلاميذ ستاندال أو فيكتور هوغو وبقية الكتاب الكلاسيكيين الذين أصبحوا تلقائياً مكروهين. لهذا، فالخطر الكبير ليس في موت الكتاب، أو اندثار القراءة، ولكن في خسران توصيل متعة القراءة والمعرفة الفنية، وتحول النقد إلى نظام من الرموز والشفرات التي تحتاج إلى فكها، وليس مسلكاً مهماً للمعرفة وفهم النصوص.
السبب الأساس، هناك تصور مغلوط للأدب يقطع مع العالم الذي نعيش فيه، فُرِض على الجـــــانب التعــليمي وعلى النقد أيضاً الذي أصبح ميكانيكــــياً، وكذلك على كثيـر مـــن الكــــتاب. بينما يبحث القارئ بطبيعته العفوية عما يعطي معنى لوجوده من خلال المؤلفات، خارج هذه المعادلات النقدية التي فرضت عليه.
نتجت عن هذا التعامل غير الصحيح مع النص الأدبي ترسانة مصطلحية ضيعت القارئ كلياً، لم تراجع ولم تضبط ولم تُرهن، إذ إن عمر بعضها قرابة القرن بالمسوغات نفسها، لدرجة أن أصبح لكل ناقد مصطلحات تنشأ في الأغلب الأعم على الفراغ، أو على فهم خاطئ للنظريات النصية التي تشكل مرجعاً له. لا يمكن لظاهرة من الظواهر أن تتطور إلا بالمراجعة الفعالة لما أنجز حتى اليوم، ووضعه في مجال اختبار للتقويم والتصحيح والاحتفاظ به إذا كان استعماله جيداً، أو التخلي عنه. الأمر في هذا السياق ليس معقداً.. أن يتم جرد المصطلحات التي استقرت في العالم النقدي العربي واعتمادها نهائياً إذا ثبت جدواها، أو التخلي والتعويض لكل ما هو مرتبك علمياً. لا يمكن لنقد أن يتطور في ظل ترسانة مصطلحية غير دقيقة. هناك مجموعة من المصطلحات، متداولة اليوم، ولكن أساسها فهم خاطئ أو محدود في مرجعها الأوروبي أو الأنجلوساكسوني. يمكن ضبط ذلك بإرادة نقدية أقوى، تتوخى خدمة النقد أولاً وأخيراً. من بين ذلك، مصطلحات نقدية فردية لا سند لها على الإطلاق، وتدور في فلك صاحبها.
طبعاً، للناقد الحق في فعل ما يريده، لكن على المؤسسة النقدية العربية، إذا وُجدت، أن تفرض نفسها كقوة مقاومة توقف حالة التسيب الذي أنهك النقد والطلبة والجامعيين، لدرجة أن يجد الباحث نفسه في أدغال مصطلحية مرتبكة. وينسى من نحتوا المصطلحات أن كل المصطلح هو اختزال لمعرفة بكاملها مخبأه فيه، وليس مجرد أنانية نقدية تدور في فلك الذات والاستراحة داخل اليقين المناهض أصلاً للمعرفة التي هي حركة دائمة في التغيير المستمر. ونظراً لضخامة هذه الترسانة المصطلحية، يبدو أمر هزها صعباً، وربما مستحيلاً. مع أن الحلول التقنية الأولية متوفرة؛ مثلاً، عقد سلسلة مؤتمرات عربية نقدية يحضرها الفاعلون في المجال النقدي، توفر فرصاً كبيرة لوضع المصطلحات الأساسية في الحقل الأدبي رهن النقاش والسجال، مع أوراق عمل واضحة ودقيقة، لا تكفي فيها الانطباعية التي تتأسس عليها –للأسف- الكثير من العناصر الثقافية التي تخل بالعلمية.
لا نستغرب اليوم أن نجد جيلاً نقدياً ضائعاً داخل أدغال المصطلحية التي ليست أمراً ثانوياً ولكنها من الضرورات العلمية. الهدف من وراء هذه المؤتمرات، الخروج بثبت مصطلحي عربي شامل يرتكز على وفاق معرفي مسبق في المجال النقدي، ينشر في شكل معجم، ويقدم بل يفرض على الطلبة الباحثين في رسائلهم، ويطبق على الحقل المغاربي أولاً، حيث النشاط النقدي الجديد بارز، ثم التنسيق على مستوى عربي للوصول إلى تكوين منظومة مصطلحية قريبة من بعضها، من خلال إنجاز معجم نقدي موسع يعتمد في الجامعات العربية. طبعاً، قد يصطدم ذلك بإرادة جيل استقر على الوهم المصطلحي ولن يقبل بأي تغيير، لكن إثارة الأمر والذهاب فيه عميقاً يشكل اليوم أكثر من ضرورة، حتى ولو بقي المشروع سلسلة ورشات مفتوحة. ربما جاء جيل، غير جيلنا، وأخذها مأخذ الجد وناقشها بعمق أكثر، ووضعها في سياق ما يجب تغييره.
النقد ليس دائرة مغلقة، وليس نصوصاً منجزة، لكنه عالم حي ومتحرك، مشروع مفتوح باستمرار على المنجز البشري العلمي. على هذه الحركة أن تنعكس على الإرادات النقدية العربية الحية، وتهز يقين ما هو مثبت اليوم خطأ، وإلا سنعود إلى التراب مخلفين وراءنا جيلاً بنى مشاريعه النقدية على الوهم والخطأ واليقين، ورثناهم له دون التمكن من تصويبهم نقدياً. نرى ملامح ذلك اليوم أمام أعيننا، حيث كثير من الدراسات والأبحاث يقوم بها طلبتنا الذين أصبحوا أساتذة أيضاً، تبنى على مصطلحات مرتبكة وضعناها بين أيديهم، دون التمكن من تصويبها أو تقويمها، لقنّاهم إياها كحقائق مطلقة تكاد تكون مقدسة، لن تشيع في النهاية إلا معرفة مزيفة وعطالة نقدية حقيقية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com