مقالات

إستقامة الرأي في مقابل الفهم .

بيدر ميديا .

إستقامة الرأي في مقابل الفهم

شيرزاد النجار

(كل شخص بإعتباره شخصاً يمتلك القيمة نفسها)

يوركن هابرماز (1929-…)الفيلسوف الألماني المعاصر

(ما لايُستطاع القول فيه ينبغي كتمانه)

لودفيك فيتكشتاين(1889-1951)الفيلسوف النمساوي

(I)

في الأسطورة الإغريقية، يُلاحظ (بروتاغورس، 485 ق.م.-410 ق.م.)، إن تجمع الناس وإنشاء مُدنٍ لحماية أنفسهم أدى في نفس الوقت إلى سعيهم نحو إيذاء بعضهم البعض بسبب إفتقادهم إلى الفن السياسي مما أدى إلى تفرقهم وتشتتهم…وهذا الوضع أدى بـ (زيفس – إله السماء) إلى إرسال إبنه(هيرمس – رسول آلهات الإغريق) يحمل للناس رسالة العدل والحشمة كدواءيين مُلطفين، ولكن (زيفس) إحتفظ بسر السياسة لنفسه الذي يعني فن التعايش دون أن يؤذي بعضهم البعض.

وطالما أن هذه الكتابة موجه للحالة العراقية فإنه عند إستقراء تأريخ العراق المعاصر، يظهر أن هذا الفن (فن التعايش) يفتقده العراقيون إلى حد بعيد.

 

(II)

 

السياسة كممارسة جعلت الناس مختلفين (التي تعني القدرة على مراجعة المعايير والحدود لإجل عمليات تجديد غير منتظرة)، وحتى في أرقى أنواع تطبيقات الديمقراطية لا يمكن إنكار هذا الإختلاف ( يكفي أن نشير إلى ما يجري الآن من مناوشات ومناقشات في الولايات المتحدة الأمريكية قبل الإنتخابات الرئاسية في نوفمبر2020).

إذن، فالسياسة هي فعل شيء تجاه الإنحرافات العادية، عوضاً عن عدم فعل شيء، ولكن كيف تعبر السياسة عن نفسها؟ السياسة هي رفض لما هو قائم من الشعارات وبالتالي العمل على تغييرها بإستمرار. وهكذا فالسياسة في مجتمع مدني  متطور هي عملية خلق لتغييرات متواصلة مشتركة.

ولكن من البداية يجب أن نُقِر بأننا في وطننا لا نعيش في بيئة ديمقراطية، لذا ستكون نتائج الإنتقادات أكثر إنحداراً وقساوة وظلماً، مما يجعلنا نتشائم وإذا إستمرت الحالة هكذا فإنه يمكن أن نقول: ” ليس هناك من نورٍ يمكن إنتظاره“. وهذه النتيجة تمثل كارثة بحد ذاتها.!!!

(III)

مناسبة هذه الكتابة هي ما كتبه السيد عادل حبه في جريدة (المدى يوم 6/8/2020) وفي (الحوار المتمدن يوم 8/8/2020) بصدد الباحث والمفكر د.عبدالحسين شعبان، قراءتها وفي قلبي “حزن وألم شديدين” على ما جاء فيها من كلمات وأوصاف كانت ” قاسية جداً”.

في الحقيقة، الكلمات لا تنتج الأشياء، بل أن علاقة الإنسان بالأشياء تم وعلى الدوام عبر العلاقات مع الآخرين وعبر الوساطة المتبادلة معهم والتي هي متجددة بشكل لا نهائي وفي إطار الصراعات والمنازعات الإجتماعية. إذن هذه العلاقات مع الأشياء هي خاضعة لتأريخ متحرك وخاضعة كذلك لنظام المبادىء الأخلاقية بإعتبار أن هذه المبادىء متوافقة مع الإستقامة الأخلاقية. ولكن من الخطأ (يؤكد الفياسوف توماس هوبس 1588-1679) إعتبار أن هذه المبادىء تتطلب منا أن نجد أنفسنا في موقع ضحية للآخر. ولكن كيف سنكون ضحية للآخر؟ سنكون ضحية عندما نخضع عن سابق معرفة لرغبة الآخر بالإضرار بِنا وهذه الحالة تمثل حالة الإستغلال والتي هي خارج وضعية التعاقد الإجتماعي الذي نادى بها مفكرو العقد الإجتماعي ( توماس هوبس، جون لوك و جان جاك روسو).

هذه الوضعية ( وضعية التعاقد الإجتماعي المبني على المبادىء الأخلاقية) توصف بكونها الوضعية أو الحالة السياسية التي تنبثق عن الإبداع الإنساني وأنه بدون هذا الإبداع فإن الحالة هي حالة لاسياسية. من أهم مبادىء الإبداع الإنساني هي ما جاء بها عصر الأنوار (الرينساس) في أوربا: العقل، العلم، التقدم.

 

(IV)

 

عندما نتأمل في أعمال د.شعبان سنلاحظ أن إهتماماته كانت مركّزة على قضايا إنسانية مهمة وشاملة كـ: حقوق الإنسان، العنف واللآعنف، حق تقرير المصير، حكم القانون، الديمقراطية، الأديان، الماركسية، ورَفد المكتبة العربية بأكثر من 50 كتاباً ناهيك عن دراسات كثيرة في القضايا المصيرية العراقية وتعقيداتها كقضية الديمقراطية وتطبيقاتها؛ القضية الكردية وحلها على أساس مبدأ حق تقرير المصير؛ الفيدرالية ومشاكل تطبيقها. وهنا نذكر منها على سبيل المثال البعض من مؤلفاته:

*من هو العراقي 2002

*الانسان هو الأصل-مدخل الى القانون الدولي الإنساني 2002

*إشكاليات الدستور العراقي المؤقت 2004

*العراق:الدستور والدولة من الإحتلال إلى الإحتلال 2004

*المعاهدة العراقية – الأمريكية: من الإحتلال العسكري إلى الإحتلال التعاقدي 2008

*بغداد-واشنطن – أي مقايضة للإحتلال العسكري؟ 2011

*جدل الهويات في العراق: المواطنة والهوية 2009

*الشعب يريد – تأملات فكرية في الربيع العربي 2012

*الإسلام وحقوق الإنسان 2014

* الحبر الأسود والحبر الأحمر- من ماركس إلى الماركسية2013

*تحطيم المرايا – في الماركسية والإختلاف 2009

*المثقف وفقه الأزمة- ما بعد الشيوعية الأولى2016

*الجواهري – جدل الشعر والحياة 2010

كوبا الحلم – الحلم الغامض2011 *

*أغضان الكرمة – المسيحيون العرب 2015

*السيادة ومبدأ التدخل الإنساني 2000

د.شعبان ساهم كذلك في تأسيس العديد من المنظمات والمؤسسات العربية والإقليمية والدولية نذكر منها: المنظمة العربية لحقوق الإنسان ( وكان سكرتيرها العام ومن هذا الموقع دعم الكثير من طالبي اللجوء السياسي في المملكة المتحدة ومنهم شخصيات سياسية عراقية وعربية بارزة)، منتدى التكامل الإقليمي، منظم أول حوار عربي – كردي/لندن ثم مواصلة نفس الحوار في عمان، منظم مؤتمر أعمدة الأمم الأربع-عمان…إلخ.

أسوق هذه الأمثلة لكي أطرح الإشكالية الآتية: إنسان صاحب هذه الأعمال الفكرية، السياسية،القانونية، هل يمكن أن نوجه إليه كلمات قاسية خارج المقاييس العلمية الموضوعية المُحايدة؟ أم بالعكس نوجه له تقديرخاص لإنجاز تلك الأعمال التي بلاشك تخدم المسيرة الثقافية والعلمية ( العديد من أطروحات دكتوراه ورسائل ماجستيرفي الجامعات العراقية والعربية إعتمدت في تحليلاتها على تحليلات ودراسات المفكر عبدالحسين)؟

 

(V)

بروفيسور إبراهيم العلاف، أستاذ التأريخ المعروف في جامعة الموصل، طرح فكرة رائعة عندما تحدث في نفس موضوع كتابة السيد حبه وهي:

من حق الدكتور عبد الحسين شعبان أن يستقرئ تاريخ العراق المعاصر باشكالياته وملابساته وخفاياه ومن حقه ان يدين الاحتلال… ان كاتبا ومفكرا من وزن الدكتور عبد الحسين شعبان يجب ان لانتسرع في مهاجمته  وانتقاده ؛ فالرجل قامة ثقافية وكتاباته ستكون يوما مصدرا للباحثين والمؤرخين ، وان كانت لدينا ملاحظات فعلينا ان نكتبها وننشرها بطريقة بعيدة عن التجريح والاتهامات  والتسقيط  لكي يرى القارئ والباحث نفسه أمام اكثر من رأي تجاه الحادثة الواحدة .. لنكتب نحن ولندعه يكتب  هو ايضا ، والفيصل هو المؤرخ والباحث هو من يقارن ، وهو من يحلل ، وهو من يصدر احكام.”

نعم نحتاج إلى رؤية أكاديمية محايدة في مسألة تقييم أعمال أكاديمية رصينة وكتابات فكرية عميقة حتى يمكننا أن نخرج بنتائج تكون في خدمة المسيرة التطورية للمجتمع والمسيرة.

وهنا يلعب النقد البناء دوراً مهماً وقد يصل ألى حد ” النقد الذاتي” وحتى ” جلد الذات” لإعادة تقييم أوضاع مر بها إنسان واعٍ يمارس النقد لأجل تصحيح مسيرة و الإستفادة من التجارب. وعندما يمارس د.شعبان النقد فإن هدفه هو ” تسليط الضوء على بعض النواقص والثغرات…لكي لا تتكرر، ولكي يتعّرف عليها الجيل الحالي والمستقبلي وينتفع منها. ونقد التأريخ هو أيضاً نقد للبرامج والسياسات والممارسات…”. ويُلاحظ أن د.عبدالحسين قد إنتبه إلى ما يمكن أن ينتج منه من ردود فعل، لذا حاول أن يربط الممارسة السياسية بالإخلاق، وهذا ما يرجعنا إلى بدايات الفكر الإنساني، إلى الحضارة الإغريقية، إلى أفلاطون وأرسطو في الربط ما بين السياسة والأخلاق، حيث يؤكد أرسطو على أن السياسة يجب أن تكون مصبوغة بصبغة أخلاقية. وفي فلسفة الأنوار يؤكد (إمانويل كانت1724-1804) في (مشروعه الدائم للسلام1795) أن السياسة ولكي تتمتع بمكان في واقع الميدان العملي يجب أن تكون خاضعة تماماً للأخلاق التي تكونه وتديره، وعليه وبحسب (كانت) السياسة هي بلا معنى اذا لم تكن ممارسة للحق الذي هو مجموعة من الشروط المحددة أخلاقياً. إذن فالسياسة لا تستطيع الإستغناء عن الإرتباط بالأخلاق.

لذلك يؤكد المفكر عبدالحسين أنه يتصرف كناقد يشرح ويحلّل ويفسّر، سواء أصاب أم أخطأ، ولكنه يقدم إجتهادات قراءات جديدة، منطلقاً من نقد ذاتي حاول من خلاله كسر بعض المحرمات والممنوعات حيث أن القراءة النمطية لا تقود إلا إلى الجمود و الإنغلاق. وفي كل هذه الأعمال فإنه لا يتخلى عن مبادىء الحق والعدالة والأخلاق، وهو في هذا الحهد يخرج من نطاق الفكر التجريدي إلى ميدان الفكر العملي، فهل هذا التوجه مدان؟

 

(VI)

وأخيراً، فإن هذه المساهمة ما هي إلا نفحة من الوفاء لصداقة تمتد لأكثر من نصف قرن بدأت من بغداد الحبيبة، أيام الزمن الجميل، وفرضت علينا الكثير من القيم ومبادىء أخلاقية والتي دفعتنا لكي نخفف ونزيل من آثار  ” القساوة” تجاه إنسان كَرّس معظم حياته للدفاع عن تلك المبادىء وفي إطارالقيم الإنسانية الشامل

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com