فن

أحزان العالم في لحن «عازف الجيتار» لبيكاسو .

صحافة / وكالات .

أحزان العالم في لحن «عازف الجيتار» لبيكاسو
الشارقة: أوميد عبدالكريم إبراهيمالريشة أشبه بالقلم الذي يكتب به الفنان ما يجول في خاطره من أفكار ومعان على هيئة لوحة، والوتر الذي يعزف عليه ألحاناً تعكس ما يختلج في صدره من فيض المشاعر، بغض النظر إن كانت مفعمة بالبهجة والسرور؛ أو يخيِّم عليها الحزن والكمد، والأمثلة في هذا السياق لا حصر لها؛ لعل أبرزها الأعمال التي أُنجزت في ما سمِّيت ب«المرحلة الزرقاء» في حياة الفنان الإسباني الكبير بابلو بيكاسو، التي طغى عليها البؤس، والأسى؛ من بينها لوحة «عازف الجيتار العجوز».
اعتُبرت اللوحة التي رُسمت بالطلاء الزيتي وتبلغ أبعادها 121 × 92 سم واحدة من أشهر اللوحات في التاريخ، وقد أنجزها الفنان الإسباني في عام 1903؛ أي خلال «المرحلة الزرقاء» التي امتدت بين عامي 1901 و1904، وأعقبت انتحار الرسام كارلوس كاساجيماس؛ الصديق المقرب لبيكاسو، ومن المعلوم أن تلك المرحلة طغى عليها اللون الأزرق بشكل شبه كامل، وأصبح هذا اللون علامة فارقة لأعمال الفنان الإسباني في تلك الفترة، ورغم تباين التفسيرات حول لجوء بيكاسو إلى هذا اللون تحديداً؛ إلا أن المتفق عليه هو أنه يعكس حالة الحزن والسوداوية التي كان يعيشها آنذاك.

انكسارات

يتمحور موضوع اللوحة حول رجل عجوز نحيل الجسد، رثّ الثياب، شاحب الوجه، ويبدو أنه أعمى، أو ربما مغمض العينين، ويكاد المشاهد يستشعر بنفسه حالة الانكسار والعوز البادية عليه، ويتخذ الرجل وضعية جلوس غير مريحة، ويعزف على جيتاره من دون إيلاء أي اهتمام لما حوله، كأنه يقول إن هذا العالم بكلِّ ما فيه لم يعد يعني له شيئاً، ويُجمع النقّاد على أن لوحة «عازف الجيتار العجوز» من الأعمال التي تعكس جليَّاً براعة بيكاسو في وصف التدهور النفسي والمعنوي، وحتى الجسدي للشخصيات التي تتمحور حولها لوحاته.
لوحة «عازف الجيتار العجوز» المعروضة حالياً في معهد شيكاغو للفنون كجزء من مجموعة «هيلين بيرش بارتليت» التذكارية، اعتُبرت كذلك نموذجاً صارخاً للأعمال الفنية التي أنجزها الفنان الإسباني خلال «المرحلة الزرقاء»، والتي عَمدَ فيها بيكاسو إلى رسم شخصيات بائسة غائصة في الانكسار النفسي، والتَّشوه الخلقي، والحرمان العاطفي؛ مستغلاً الانعكاسات والدلالات النفسية للون الأزرق، ببرودته المعهودة، وقد باتت تلك المرحلة رمزاً للحزن والأسى، والركون إلى اليأس؛ كما اعتُبر هذا العازف العجوز أحد أشهر «بؤساء» تلك الحقبة الكئيبة من حياة بيكاسو.
اللوحة تنتمي للمذهب «التعبيري» في الفن، وهو مزيج من الانطباعية، والرمزية، والحداثة، والذي تأثر به أسلوب بيكاسو لاحقاً؛ لا سيما في «المرحلة الزرقاء»؛ على الرغم من أنه يعتبر رائد المدرسة التكعيبية، وأحد مؤسسيها، وفي اللوحة اعتمد الفنان أسلوب أحادية اللون، والشعور؛ كما أن مرحلة الشيخوخة وما تتخللها من آثار لم تكن محور اهتمام بيكاسو الذي صبَّ جلَّ اهتمامه في مسألة «شيخوخة الروح»؛ فالعجوز الذي يبدو كأن الحياة قد غادرت جسده الواهن منطو على نفسه في ركن موحش لا يجالسه، أو يؤنسه فيه سوى جيتاره المتهالك.
لم تَبُح لوحة «عازف الجيتار العجوز» بكامل أسرارها إلا بعد فحصها بالأشعة السينية، وكاميرات تعمل بالأشعة تحت الحمراء لاختراق الطبقة العليا من الطلاء من قبل القائمين على معهد شيكاغو للفنون، حيث تبيَّن أن الفنان الإسباني البارع رسم شخصيَّات، وأشكالاً أخرى خلف الرجل العجوز، وهي عبارة عن امرأة عجوز، وفتاة برفقة طفل؛ إضافة إلى حيوان يظهر في الجانب الأيمن من اللوحة، وبما أن هذه الرسومات الجانبية غير واضحة بالعين المجردة؛ فقد قدَّر الخبراء وجود لوحتين مختلفتين أخريين على الأقل؛ كما توقعوا أن يكون بيكاسو قد بدأ برسمهما قبل أن يرسم اللوحة الرئيسية، إلا أن الأسباب التي دفعته لذلك لا تزال مجهولة.
طوق نجاة

يرى بعض النقّاد ومؤرخي الفن أن بيكاسو ربما يكون اعتبر آلة الجيتار بمثابة مصدر رزق، وطوق نجاة لهذا العجوز الأعمى والفقير الذي يكسب من موسيقاه دخلاً يسيراً يعينه على البقاء والاستمرار في معترك الحياة، وفي الوقت ذاته اعتبروا اللوحة بمثابة انعكاس للوحدة التي يعيشها الفنان، وكذلك الصراعات التي يعيشها الإنسان أثناء تأدية وظيفته؛ لا سيما وأن الموسيقى، والفن عموماً، قد يصبح عبئاً على صاحبه أحياناً، وقد يخلق فجوة بينه وبين محيطه، ويعزله عن العالم، وبناءً على ذلك توصَّل النقَّاد والمؤرخون إلى تصوّر حول عمق الأزمة النفسية والمعيشية التي كان يعيشها بيكاسو حينذاك.
كانت «المرحلة الزرقاء» أهم وأبرز منعطف في حياة الفنان الإسباني؛ فلم يقتصر الأمر على حالة الحزن العميق، والألم الكبير على فراق صديقه المقرب؛ بل كان ضنك العيش، والفقر تحديات، أخرى واجهها بيكاسو، وذاق مرارتها، ويرى مؤرخو الفن أن تلك العوامل ساهمت في تقريب المسافة بين بيكاسو من جهة، وبين المشردين، والمتسولين، والمنبوذين في المجتمع، م

– See more at: http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/8e6f50d2-8481-48ed-a4eb-cbfc6103989f#sthash.HKsaHSqf.dpuf

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com