طفرة المواطن العربي من النضال الأممي إلى «غيتو الحومة»
من يتابع ردود أفعال الشعوب العربية تجاه ما يدور في العالم، من أحداث، سيلاحظ تناقص الاهتمام خاصة في العقدين الأخيرين. بالمقابل، هناك تحول ملحوظ في التركيز على الشأن الداخلي، حتى يكاد يصل في بعض البلدان حد التقوقع المجتمعي.
يتبدى ذلك في كثرة المطالب الخدمية والمعاشية اليومية، كل حسب منظمته أو حزبه، عن طريق الاعتصامات المؤدية، أحيانا، إلى انتفاضات، سرعان ما تستقطب القمع الحكومي السريع، كما حدث في العراق أثناء انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول 2019. ولم تحظ الانتفاضة التي دامت ما يقارب العام وتجاوز عدد شهدائها 600 شخص بأي رد فعل عربي شعبي بل قوبلت بالصمت المدوي. وتكاد القضية الفلسطينية ومقاومة شعبها والمناسبات السنوية لذكرى احتلالها، تمر هي الأخرى بصمت باستثناء بعض النشاطات والتجمعات الرمزية بالمقارنة مع ما كان يحدث سابقا حيث تخرج الجماهير إلى شوارع المدن، تعبيرا عن غضبها ودعمها ومشاركتها في إبقاء القضية والمقاومة حية حتى التحرير. يدفع هذا التراجع المتزايد إلى طرح مجموعة من الأسئلة، على غرار: كيف انكمش الاهتمام بالقضايا الإنسانية العامة، بضمنه قضايانا المصيرية، من الحلم الجماعي بالتغيير والحرية والعدالة ليُصبح بحثا عن سبل البقاء على قيد الحياة؟ هل سبب التفتت، بكل المستويات، الذي تعيشه شعوب البلدان العربية هو حالة الإحباط العام، الذي يدفعها، بشكل متسارع، نحو عقلية «غيتو الحومة» والتي تُزيد بدورها من اليأس الجماعي، ومن أعراضها افتراض أن ما تمر به من مصاعب سياسية واقتصادية، بشكل جماعي أو منفرد، يصيبها لوحدها، بل والاعتقاد بأن ما تمر به من أزمات لا مثيل لها؟ وأن الحل الوحيد هو المحافظة على البقاء ولو على حساب الانكفاء على الذات؟ مما يقود إلى تساؤلات أخرى. مثل: ماذا حدث للعمل الجماعي ضمن الحركات الأممية والايمان بوحدة نضال الشعوب والتضامن العالمي؟ هل بات البديل لذلك، كما نرى من الانعكاسات على واقعنا، هو العولمة فعلا وعلى رأسها عولمة النزاعات والحروب بالإضافة إلى عولمة الثقافة وسيادة الاقتصاد الرأسمالي؟
لعل هذا هو ما تميل الصورة النمطية الجاهزة عن الأوضاع السياسية والاقتصادية العالمية والمحلية، إلى تقديمه إلى الشعوب عموما، وليس العربية لوحدها، وهي نقطة مهمة تقتضي التفنيد تجنبا للوقوع في مطب مظلومية الضحية، فريدة المَصاب، والقبول بأن المصاب مهما كان جسيما إلا أنه يجب التعامل معه، من خلال وضعه في موقعه الصحيح، في تاريخ البشرية المناضلة من أجل حريتها. كما يجب الحرص على بقائه نضالا عاما عصيا على القولبة في مسابقة الضحايا المؤدية، حتما، إلى إضعاف العمل التضامني الجماعي عالميا.
كيف انكمش الاهتمام بالقضايا الإنسانية العامة، بضمنه قضايانا المصيرية، من الحلم الجماعي بالتغيير والحرية والعدالة ليُصبح بحثا عن سبل البقاء على قيد الحياة؟
من هذا المنطلق نتفق بأن أحد أسباب إحباط الشعوب العربية، هو مواصلتها العيش في المنطقة التي تدور فيها غالبية الصّراعات الأكثر دموية في العالم، خاصة في العشرين عاما الأخيرة، وفي أعقاب غزو واحتلال العراق. وهو مركز لم تُغيره الحرب الروسية الأوكرانية، على الرغم من كل الاهتمام العالمي بكافة جوانبه العسكرية والاقتصادية والإنسانية. إذ بقي الشرق الأوسط، بضمنه البلدان العربية، محتلا للمركز الأول، دافعا أوكرانيا جانبا، بفضل الحرب الأهلية في السودان وإضافة 25 مليون شخص في حاجة ماسة للمساعدات الإنسانية.
في خارطة النزاع المسلح، يذكر مركز جنيف الدولي لدراسات النزاع، أن الشرق الأوسط يعيش أكثر من 45 نزاعًا مسلحًا، بضمنها من البلدان العربية: فلسطين المحتلة، العراق، ليبيا، المغرب، سوريا، اليمن، والسودان. ويذكر المركز أن غالبية النزاعات غير دولية، وتشمل عددًا كبيرًا من الجهات الفاعلة المسلحة غير الحكومية والتدخلات الأجنبية من قبل القوى الغربية وروسيا والدول المجاورة. وتعتبر سوريا البلد الأكثر تضررا في المنطقة. تحدث العديد من النزاعات المسلحة غير الدولية المتعددة والمتداخلة في البلاد – بما في ذلك العديد من الجماعات المسلحة التي تقاتل ضد الحكومة وضد بعضها البعض – إلى جانب احتلالين عسكريين وثلاثة نزاعات مسلحة دولية. وتجدر الإشارة، في باب محاججة القائلين بأن البلدان العربية هي الوحيدة التي تشهد النزاعات والحروب بسبب ثرواتها (وهو سبب حقيقي لا يتطرق اليه الشك) وهو سبب الإحباط وانتفاء الاهتمام بالشأن الدولي العام، بأن في إفريقيا أكثر من 35 نزاعًا مسلحًا وفي آسيا 21 نزاعا، وستة في أمريكا اللاتينية، متقاسمة بين المكسيك وكولومبيا. حيث تشهد كولومبيا واحدة من أطول النزاعات المسلحة غير الدولية في العصر الحديث ولا تزال مسرحًا لثلاثة نزاعات مسلحة غير دولية. ولم تسلم أوروبا من رشاش النزاعات، حيث تعيش 7 نزاعات مسلحة، على الرغم من كون سياسة الدول الأوروبية الاستعمارية نفسها، أحد أسباب النزاعات الرئيسية في العالم.
فهل يعني هذا أن الدول العظمى لم تعد هي المُؤججة الوحيدة للنزاعات في العالم؟ وإذا قبلنا، بأن الحروب والنزاعات المسلحة الدولية وانعكاساتها الاقتصادية والمجتمعية وبالتالي النفسية على المواطنين، أينما كانوا، هي سبب تدهور الاهتمام الشعبي بالقضايا العامة خارج حدود البلد الواحد، فما هو تأثير ممارسة عدد متزايد من الدول غير الغربية، أي «القوى الوسطى» لنفوذها في الأزمات والصراعات (دور قطر في أفغانستان) وحتى إرسال قوات عسكرية (السعودية في اليمن) والميليشيات كحرب بالوكالة (إيران في العراق وسوريا) وعبور الحدود والقصف الجوي ( تركيا في العراق)؟
تبين أحدث معطيات برنامج أوبسالا، وهو المزود الرئيسي في العالم للبيانات حول العنف المنظم، أن ما يقرب من نصف الحروب اليوم تشمل قوات أجنبية كبيرة، مقارنة بـ 4 بالمئة فقط قبل ثلاثة عقود. ولأن «القوات الأجنبية» لا تعني بالضرورة « قوات غربية» كما هو راسخ في أذهاننا، بل قد تكون عربية تعمل بالوكالة، مما يجعل هذا سببا يستحق المتابعة لفهم ظاهرة تنامي عقلية الغيتو القطرية، وكيف بات المواطن العربي يعيش وضعا ملتبسا تتلاشى فيه أمام عينيه أحلام الأمة بالتحرير والتضامن العربي إزاء تصاعد النزاع والاقتتال العربي ـ العربي، وسياسة التدجين لاحتضان عدو لايزال يمارس أبشع الجرائم في بلد يدّعون قدسيته.