مجتمع

سرد البحر في الثقافة العربية.

بيدر ميديا.."

سرد البحر في الثقافة العربية

سعيد يقطين

 

انعقدت بالشارقة خلال اليومين 22 و23 ايلول/سبتمبر 2022 الدورة الـ»22» لملتقى الشارقة الدولي للراوي تحت محور: «حكايات البحر». وعلى غرار كل الدورات اتسع برنامج الدورة لندوات وأنشطة وفعاليات وورشات مختلفة، ساهم فيها عدد كبير من الباحثين والمنشطين والرواة، من مختلف الدول العربية والأجنبية. فبدا للجميع أن موضوع الدورة مهم جدا، ولا يمكن لدورة واحدة أن توفيه حقه. لا يتعلق الأمر فقط بحداثة البحث في موضوع البحر، ولكن أيضا بسبب غناه وتنوعه وتعدد الجوانب التي يمكن أن يثيرها. وعلى غرار كل الدورات كانت اللجنة التنظيمية قد طبعت عدة كتب تدور في فلك الموضوع ساهم فيها بعض الباحثين من الوطن العربي.
صدَّرت ورقتي التي قدمتها حول «سردية البحر في الليالي: عبد الله البري وعبد الله البحري نموذجا»، بالقول إن من بين فضائل هذه الدورة أنها علاوة على اقتراحها موضوعا طريفا، تدفع البحث العربي إلى تجديد رؤيته حول قضية اجناس الكلام العربي، أو ما يعرف بنظرية الأجناس الأدبية. لطالما تجنبنا الخوض في هذه القضية، واعتبرناها إما محسومة بالاكتفاء بما تقدمه نظرية الأجناس الكلاسيكية التي أخذناها عن الغرب، وهي التي ندرسها لتلاميذنا وطلبتنا. أو أننا تجاهلنا أهميتها بدعوى أن المهم هو النص، وأنه من الاستحالة الحديث عن الأجناس وأنواعها لأن أي نص يمكن أن يتضمن عدة أجناس وأنواع. ولقد بدا لي من متابعة الجلسات أن البحر غدا موضوعة، أو تيمة يتناولها كل باحث كما يتناول أي تيمة من التيمات التي يزخر بها أي نص كيفما كان نوعه. لم يكن الالتفات إلى أهمية نوع «سرد البحر» لأن تفكيرنا لا ينبني، عند معالجة أي موضوع، على تأطيره جنسيا، ونوعيا، والنظر إلى موقعه ضمن باقي أجناس الكلام وأنواعه، بهدف تحديد نوعيته وشكله، وخصوصيته بالمقارنة مع غيره من أصناف الكلام. إن التصنيف جزء من أي عملية علمية لأنه يضبط لنا مميزات أي ظاهرة أو خطاب، على مستوى الطبيعة والوظيفة.
يبدو غياب التصنيف في تفكيرنا مثلا في أننا لا نمتلك تصورا محددا للتمييز بين الخطابات الروائية. فكل شيء عندنا رواية، ولا فرق لدينا بين الطويلة والمتوسطة والقصيرة، ولا بين أنواعها الكبرى، وما تتضمنه من أنواع فرعية. ولعل مرد التقصير في هذا الجانب يكمن في أننا لا نأخذ بأسباب البحث العلمي في الأدب وغيره. وأنا أستعد للبحث في سردية البحر، وجدتني أتساءل أين يمكنني تأطير قصة «عبد الله البري وعبد الله البحري»؟ ما أسهل أن أقول إنها قصة من قصص الليالي، أو أنها قصة عجائبية، أو أنها تنتمي إلى الحكاية الشعبية. أو أنني أسلك مسلكا آخر ينسجم مع ما تتطلبه الدورة، وهي تتمحور حول «حكايات البحر»، فأعالج تلك القصة بالتركيز على «تيمة» البحر فيها. وهذا المسلك الأخير هو الذي اعتمده كل المتدخلين على اختلاف مقارباتهم لموضوعة البحر في الحكايات والأمثال والتاريخ، والشعر، والسينما، والمسرح، وغيرها من الخطابات.
قادني البحث في الكتابات الأجنبية فوجدتها تزخر بما يسمى بـ «أدب البحر»، أو «سرد»ـه. وتدرج في ذلك روايات وخطابات متعددة، وكلها تتقدم من خلال متون كثيرة تعطي لهذا «النوع» خصوصيته وطبيعته المميزة. وبالذهاب إلى الثقافة العربية سنجد أن الجزيرة العربية يحيط بها البحر الذي نجد له حضورا في الشعر العربي، وفي الأمثال العربية قبل الإسلام، وفي القرآن الكريم ذكر البحر لفظا حوالي عشرين مرة، وظل التاريخ العربي يقدم لنا تراثا زاخرا حول البحر بعد اتساع رقعة الدولة الإسلامية مع الفتوح، وبروز الكتابات التاريخية والجغرافية، والرحلات، وكتب العجائب والمسالك والممالك. وكان وصول البحارة العرب إلى الهند والصين، والتعرف على العوالم الغريبة عن طبيعة البلاد العربية أن انتشرت أخبار التجار، مثل التاجر سليمان، وإقدام أبي زيد حسن الصيرافي على جمع الأخبار التي سمعها عن البحر، فظهرت كتبات تتناول أخبار الهند والصين، وما فيها من العجائب. وتقدم لنا الحكايات الشعبية، وخاصة ما تضمنته ألف ليلة وليلة من قصص، مثل رحلات السندباد، وغيرها من القصص عوالم خاصة تبرز شغف العرب بأخبار المحيطات وعجائبها. وفي السيرة الشعبية، وخاصة سيرة الأميرة ذات الهمة، والظاهر بيبرس نجدها تقدم لنا حوض البحر الأبيض المتوسط بصورة دقيقة، وما جرى فيه من حروب وصراعات ومخابرات إبان المواجهات مع الروم والصليبين.
كل هذا التراث العربي حول البحر يتقدم إلينا من خلال الثقافة العالمة والشعبية. وفي كل الأقطار العربية نجد حضور البحر في اللغة والأمثال والقصص. وحتى الرواية العربية تستثمر عوالم البحر باعتباره فضاء ومتخيلا، يمكن أن يكون مصدرا للغنى أو الشقاء، للحياة أو الموت، وما نعرفه حاليا مع قوارب الموت، والهجرة السرية إلى العوالم الشمالية سوى مثال على ذلك. يتجلى البحر بصور متعددة ومختلفة، إما كليا أو جزئيا في مختلف الخطابات، وأيا كان الوسيط الموظف فيها.
إن الانتقال من التعامل مع البحر باعتباره «تيمة» أو «موضوعة»، إلى التفكير فيه بصفته واقعا حقيقيا أو متخيلا من خلال الخطاب المهيمن في تقديمه يدفعنا إلى البحث فيه من منظور «النوع» الذي يتحدد من خلاله، والذي نجده بارزا من خلال السرد. فمعظم الخطابات التي تتعامل معه تبرز من خلال الإخبار عنه لتقديم المعرفة أو المتعة، سواء كان ذلك الإخبار صادقا أو كاذبا، وأيا كانت اللغة التي تقدمه، يومية أو أدبية. إن الكتابات التاريخية والجغرافية والرحلات والمسالك والممالك قدمت لنا إفادات ومعلومات عن البحار التي تعامل معها المستكشفون والذين عاينوا تلك الفضاءات وسجلوا عنها ملاحظاتهم وتقاريرهم. كما أن الذين استمعوا إلى مختلف تلك الثقافة البحرية المعيشة والمتخيلة، استغلها بعضهم ليجعلها مادة سردية للمتعة وإعمال الخيال المبدع. ولعل رحلات السندباد، خير مثال على ذلك. لقد استغل الراوي الشعبي مختلف الذخيرة البحرية، وقدمها لنا من خلال نص يحفل بما تخيله الإنسان العربي، وهو يعبر عن همومه وآلامه، ورؤيته للحياة. ولا غرابة أن نجد صورة السندباد غير مختلفة إلا في التفاصيل عن سيرة الملك سيف في مغامراته البحرية، والراوي الشعبي يرمي به بين الفينة والأخرى في جزر غريبة وعجيبة.
كما أن المتابع للرواية العربية يجد نفسه أمام نصوص كثيرة تجعلنا أمام إمكانية الحديث عن «رواية البحر»، تماما كما نتحدث مثلا عن «رواية الصحراء». وإذا كان بإمكاننا إدراج هذين النوعين ضمن نوع أوسع هو «رواية المكان»، فإن قراءة رواية البحر مثلا ضمن السرد العربي ستعطينا إمكانية إعادة تصنيفها بالنظر إلى تطور سرد البحر في التاريخ العربي، فنكون بذلك أمام تاريخ لنوع سردي خاص. وهذا النوع قابل لأن ينظر إليه ضمن نوع آخر هو «سرد المكان»، وبذلك يمكننا أن نعدد مداخل التصنيفات، وننظر من خلال ذلك في الأنواع وهي تتحول في التاريخ، وتتقارب، وتتباعد. فتكون نتيجة البحث المتواصل تكوين صورة عامة وشاملة عن الأنواع والأشكال، وهي تتقاطع، وتتداخل، وتتمايز سواء في علاقتها وبنياتها وتحققاتها.
إن هذا النوع من البحث يتطلب مجهودا نظريا ومنهجيا. كما أنه يتطلب رؤية شاملة للإبداع. أما الموضوعات فهي المركب السهل للتلخيص والتجميع والتأويل.
كاتب من المغرب

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com