أبحاث

ملحمة كلكامش … رؤية تحليلية

الدكتور ضرغام عبد الله الدباغ

في عمر مبكر ربما 16 ــ 17 قرأت بعمق شديد إنجاز العالم العراقي الكبير طه باقر ” ملحمة كلكامش “. يقع بعض الناس في خطأ شنيع بتصورهم أنه أدب سومري قديم لا ينطوي على عمق أدبي وفلسفي. ولكن العكس هو الصحيح. والملحمة التي وصلت لنا لحسن الحظ، سليمة تماماً، حيث هناك ثلاث نسخ متطابقة منها عثر عليها في مواقع متباعدة، لم تدع سطراً ضائعاً منها.

كلكامش هو ملك سومري، أراد أن يشارك صديقه الحميم أنكيدو، في همه الكبير في البحث عن سر الخلود، أين ترى يوجد ذلك السر، في أفواه أنصاف الآلهة، حكماء المعابد، قاهري الوحوش، النساك المنقطعين للتأمل في البراري وعلى قمم الجبال، بحثوا عنه في كل مكان حتى ذهبوا إلى الجبال والغابات البعيدة، ، قيل لهما أن نبتة، أو عشبة قد لا تلفت الأنظار، قد لا تكون جميلة أو ثمينة، هي في أعماق البحر، وبحثا  بلا كلل أو ملل، وغاصا حتى أعمق الأعماق، حتى عثرا على تلك العشبة وقد أعياهما التعب … وجدوا العشبة في أعماق الخليج (الخليج العربي اليوم) ثم أن إعياء شديد أجتاح كيانهما القوي الشديد البأس، فأرتميا على رمل الساحل، تقول الأسطورة، أن أفعى تسللت وسرقت العشبة وغاصت في أعماق البحر ..وراح على كلكامش وأنكيدوا سر الخلود .. يوم عثورهما عليها …!

ومع أن ملحمة كلكامش وصلت إلينا مكتوبة بأكثر من نسخة وبأكثر من لغة (كانت ملحمة كلكلمش قد ترجمت في وقتها إلى لغات عديدة منها الميدية، والحيثية والعيلامية وربما لغات أخرى، وفي ذلك دلالة مدهشة على انتقال الثقافة في تلك المرحلة، ومصداقية للعمل نفسه) وهي بذلك تكتسب المزيد من المصداقية، وإن فقد منها بعض الألواح، إذ كتبت ألفين عام قبل الميلاد، فإن الإلياذة والأوديسة وهما أقدم أنتاج أدبي لليونان يعود زمن تدوينها بما لا يتعدى القرن السابع أو الثامن ق.م أي أنها متأخرة بما لا يقل عن خمسة قرون. وإن هذه الآداب قد عانت الكثير من التحوير والإضافة على يد النساخ والشراح، في حين أن الأدب البابلي أو السومري أو الآشوري جاء كما هو على هيئة نصوص، وما تزال النسخ الأصلية موجودة.(1)

يذكر مترجم كتاب الجمهورية إلى اللغة العربية، أن :”هناك ثلاث نسخ لكتاب الجمهورية (أفلاطون) وهي ترجمة تيلر، وترجمة سنس، وترجمة دافيس وفوغان  فكنت أقابل كل جملة فيها من أول الكتاب إلى آخرة  واقف على صورة التعبير في كل منها، وقد بذلت وسعي في اختيار أصحها لأنها تختلف في كثير من مواقفها اختلافا كبيراً “، كما يشير إلى الكثير من الأشعار الواردة فيها ويحذفها من الترجمة قائلاً : ” إن مسالة شاعريتها وبلاغتها غير مرادة هنا ! ” .(2)

ويتركز النقد على الفكر السياسي الرافديني كونه ورد إلينا منتشراً من نصوص ووثائق وأساطير وأدب وشعر، أو لم ترد الشعار في مؤلف أفلاطون الجمهورية، بل أن الكتاب جله مدون على شكل حوارات ذات جمل قصيرة !  وكذلك جاء كتاب أفلاطون التئيتس Theetete على شكل حوار يطرح من خلالها أفلاطون أفكاره السياسية.(3)

  الملحمة(Epic) هي أحداث تدور حول فرد من البشر، تهتم بمنجزاته ومآثره وبطولاته (4) وتعرف الموسوعة الألمانية الملحمة ” إنها شكل عظيم للحكاية الشعرية لغة رفيعة وبعمل كبير يعرض حياة أحد الأفراد” (5)

وملحمة كلكامش التي ذاع صيتها عالمياً، ترجمت في عصرها وفي العصر الراهن إلى معظم اللغات الحية: الإنكليزية، الألمانية، الفرنسية، الروسية، الإيطالية وغيرها وهي تروي أحداث وسيرة أحد اشهر ملوك الوركاء وهو الملك كلكامش، الذي كان ثلثاه من مادة الآلهة وثلث من مادة البشر، وتنطوي على الكثير من الأفكار السياسية والأحداث المهمة. ويجدر بنا القول أن بطل الملحمة كلكامش ليس بشخصية خيالية، بل هو إنسان واقعي، والملحمة هي أشبه ما تكون ترجمة لحياته(بيبلوغرافيا)Bibliographia  ، لأسفارة وحروب بحثاً عن الحقيقة والعدل والخلود وعن الأمن والسلام، وهي أزمة عصره الذاتية الشخصية والسياسية، ومفردات هامة في القاموس السياسي لذلك العصر، ثم يستحق الملاحظة أيضاً، أنها متماثلة تماماً في نسختها السومرية والبابلية والآشورية، وكذلك في اللغات التي ترجمت إليها في ذلك العصر وهي اللغات الحيثية والعبرية والحورية.(6)

ونستدل من خلال ملحمة كلكامش على الأكثر من المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والحضارية أيضاً، فعلى سبيل المثال، في العمود الثالث من الفصل الثاني، نص :” صنعوا أسلحة عظيمة … سبكوا فؤوساً وسيوف أغمادها من ذهب ” إذن فنحن أمام تأكيد بوجود صناعة لأسلحة، والأهم من ذلك أن الإنسان العراقي قد توصل إلى استخراج وسباكة الحديد والذهب.

وتؤكد الملاحم الرافدينية كلها على المكانة الكبيرة للآلهة. ففي ملحمة الطوفان (زيو ـ سدرا) هناك نص يؤكد، أن الملوكية نزلت من السماء بعد الخلق، وقدرت الأقدار، وأسست المدن الخمس، وحلت فيها الملوكية، ولكن البشر أغضبوها، فقررت أحداث طوفان وإفناء البشر.(7)

والملحمة تنسب إلى البشر سلوكهم السيئ، حيث أغضبوا الرب الذي أهلك منهم الكثير ولم ينج إلا الذين انقادوا إلى الحكماء والأتقياء الذين حذرتهم الآلهة عرفاناً بخدماتهم واحترامهم للآلهة وتلك فكرة مهمة حيث ستسيطر على فكر الشرق الفلسفي السياسي. وعن ذلك يقول أرنست باركر” إن الشرقيين كانوا قد أغرقوا أنفسهم في عالم الدين، فيما بقى الإغريق ينظرون إلى العالم بمنظار العقل”(8)

ويمكننا أن نلاحظ بسهولة ويسر تأثر الإلياذة والأوديسة البالغ بملحمة كلكامش لا سيما بعد أن تأكدنا من وجود ترجمات لها في اليونان القديمة، وهذه الملحمة قد أرست هدفاً للملاحم ألا وهو تمجيد التضحية والوفاء والبطولة والإيثار.

والواقع، فأن ثراء الفكر الرافديني السياسي، أو السياسي/ الأدبي، لم يقتصر على ملحمة كلكامش ذات المعاني السياسية والفلسفة العميقة، ولا ملحمة الخليقة الزاخرة كذلك بالفلسفة، بل أنتج أيضا ملحمة  (زيو ـ سدرا) وكذلك ملحمة (أترا حاسس) ومعناها حيث لا آلهة مثل الإنسان، وهذه الملحمة تنطوي بدورها على جوانب سياسية / فكرية. فجوهر الملحمة هو وصف الأزمنة القديمة حيثما لم يكن في الكون سوى الآلهة العظام، فكان على الآلهة لا سيما الصغار، أي من ذوي المراتب الدنيا أن يضطلعوا بأنفسهم في تهيئة ما يحتاجون إليه من شؤون الدنيا المختلفة، ثم الاتفاق بينهم على ضرب من ضروب تقسيم عمل، وأتفق الآلهة العظام آنو وأنليل وآيا على تقسيم الكون بينهم.(9)

ويقول الأستاذ العراقي المعاصر د. الطعان ” قد يوجه النقد إلى صعوبة التوفيق بين الأسلوب الفلسفي العلمي والأسطوري، وقد تمت مهاجمة الفكر الأسطوري باسم الفكر العقلاني، وقد قال أرسطو في كتابه النفس، أن كل الأشياء تبدو غاصة بالآلهة وأن المغناطيس حي لأنه قادر على تحريك الحديد. وقد اشتغل الإغريق بالأساطير كثيراً “(10)

ولعل في الاستشهاد بهذه السطور من قصيدة ملحمية لشاعر سومري يجمع فيها الروعة البلاغية والدقة في وصف أكداس القتلى في العراء :” وقد تحللت أجسادهم كما يتحلل السمن في الشمس المحرقة”، وهذه دقة في الوصف تسمح لنا بأعتماد مصداقية الوصف في الملاحم. ثم لاحظ مرة أخرى الدقة في هذا النص ” فتحطمت أور بفعل السلاح مثلما يتحطم إناء من فخار ” وهنا يشير إلى الهزيمة الكاملة لأور وتحطمها في الحرب وليس بفعل عوامل طبيعية أخرى كالزلازل والفيضانات أو الأعاصير. ثم لاحظ في نص آخر  :” كانت الزوابع تهب والعواصف تهيج، ووسط عاصفة معركتهم الضارية هذه، لم يعد بإمكان المقاتل أن يرى رفيقه الذي كان إلى جانبه. “(11)

هل ربح كلكامش وأنكيدوا أم خسرا ..؟

ربحا بالتأكيد ..إن هذا الجهد والبحث الفوق بشري الذي بذلاه، والعبر والحكم التي استمعا لها، وتجارب ومعاناة رهيبة مرت عليهما في البر والبحر، في الجبال والوهاد، والبراري والغابات كانت ثروة لا يمكن الحصول عليها .. ليس هناك شيئ خالد، سوى البحث والنضال دون هوادة، هو ما سيمنحهما سر الخلود، والخلود لن يكون بصورة تواصل للحياة، ومزيد من التهام للطعام والاستمتاع مع النساء، سر الخلود هو أن تجسد الحكمة والمعرفة تجربتهما ، وأن تبقى تلك المحاولات هي إنجاز يحرزه بني البشر دليل واضح على الكمال البدني والعقلي … وفي اتحادهما يتقدم  عربة الحياة تنوء بثقلها في دروب وعرة، قد يقدم الإنسان حياته ثمناً نظيرها، ولكن دولاب العربية يدور ويحقق المعجزات الفكرية والرياضية والعلمية …..

الهوامش

1 . باقر، طه: ملحمة كلكامش، ص19 ، طبعة 4…………………………………………بغداد/ 1980

2 . خباز، حنا: مقدمة لكتاب الجمهورية(أفلاطون)،  ص6……………………………… بغداد/ 1986

3 . أفلاطون: التئيتس  ترجمة: الأب فؤاد جرجي بربارة …………………………….  دمشق/ 1981

4 . عبد الواحد علي، د. فاضل: ن سومر أسطورة وملحمة.، 147……………………….بغداد/ 1981

5 . DUDEN : Lexikon ; S.195 Aotorenkollektiv : Lexekon DUDEN                     Manheim 1984

6 . باقر، طه: نفس المصدر،  ص47

7 . باقر، طه: نفس المصدر،  ص204

8 . الطعان، د. عبد الرضا: الفكر السياسي في العراق القديم، ص45، …………………  بغداد / 1981

9 . باقر، طه: نفس المصدر،  ص214

10 . الطعان، د. عبد الرضا: نفس المصدر،  ص360

11 . عبد الواحد علي، د. فاضل: نفس المصدر،  ص72 ـ 73

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com