مقالات

بين لافرينتي بيريا وناظم كزار ؟ .

قصص قريبة في حكاياتها ومترعة بالخيال والمبالغة والاساطير … ولا تخلوا عنها الحقائق.

بيريا … رئيس جهاز الامن الخاص للرئيس السوفيتي السابق ستالين , والذي رحل الى جوار ربه قبل خمسين عاما . حيكت حوله قصص وحكايات حول بشاعة وقتل خصوم ستالين  .. الا أن انتهت أسطورته بدس السم في قهوة الأب .. الرفيق ستالين .. ليموت بعد أيام معدودات، وفي عام ١٩٥٣ يعدم بيريا لفداحة الجرائم التي لصقت به .

ناظم كزار … مدير الامن العام في حكومة البعث ما بين ١٩٦٨ الى ٣٠ حزيران ١٩٧٣ ناظم كزار شخصية عراقية تداول عنها العراقيون العديد من القصص والروايات والمواقف والحكايات والاساطير والخرافات والمبالغات والحقائق أيضاً، قرأت قبل سنوات مضت نتفا من كتابا حول سيرة ناظم كزار للباحث شامل عبد القادر .. وجدت بين سطوره معلومات وحقائق تدحض بعضاً من مسلماتي حول دموية ناظم كزار وحقده على الشيوعيين بل التلذذ في رميهم في أحواض التيزاب أو سحقهم في المثرمة في محاولة يائسة لتبيض صفحته المحفورة في ذاكرة العراقيين الجمعية بما احتوائه سجله من تعذيب وقتل للشيوعيين في ذلك المبنى السيء الصيت والسمعة.

عام ١٩٧١ أعتقل المرحوم والدي مع قريبنا الشيوعي عبد الرحمن أسماعيل علاوي من أهالي بهرز وأخي الشهيد فليح، غيبوا لمدة عام كامل في قصر النهاية بتهمة التنظيم في القيادة المركزية الجناح الذي أنتفض على سياسة اللجنة المركزية.

كنت كثير الالحاح بالأسئلة لوالدي حول ظروف الاعتقال في قصر النهاية ودموية التعذيب والقتل .. كان يقص لي حكايات مرعبة ويذكر مواقف يدنى لها الجبين الإنساني، ناظم كزار واحد من رموز البعث ( الذئاب ) المفترسة .. ومحاولته الانقلابية الفاشلة في ٣٠ حزيران ١٩٧٣ ما هي الا حباً للغطرسة والاستحواذ على السلطة والتآمر بين زمر البعث في صراعهم الدموي، ولم يعد التقارب الشيوعي البعثي سبباً في محاولته الانقلابية لأنه كان يدرك جيداً موضوع الجبهة ما هي الا خطوة تكتيكية للقضاء على الشيوعيين وذبحهم .. ولا الاشكالية في حل القضية الكردية وملابساتها الداخلية وتداعياتها الخارجية .. يقول حسن العلوي البعثي في دولته ( الاستعارة القومية )  .. عندما وقع عزيز محمد مع أحمد حسن البكر ميثاق العمل الجبهوي في ١٦ تموز ١٩٧٣ .. في يومها وزعنا منشورا داخليا على الجهاز الحزبي الطرق والاساليب في تفتيت تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي ..    ولد ناظم كزار عام ١٩٤٠ في بغداد .. لكن جذوره تنبع من جنوب العراق لينتقلوا الى بغداد في مطلع الثلاثينات ,  وحسب المصادر أن صدام حسين هو الذي فرضه على الجهاز الحزبي أن يكون مديراً عاماً للأمن  بعد انقلاب ١٧ و ٣٠ تموز ١٩٦٨ رغم الموقف الرافض من رفاقه لتوليه هذا المنصب . يصفون صورته أنه كان بعثياً شرساً ودموياً لا يتهاون مع من يقف في طريقه ..  حيث وصفه صدام حسين .. حاسوبا لا يخطئ .. وموهبة أمنية لا تقدر بثمن , لكن بعد أقل من خمس سنوات أعدمه صدام بطريقه سرية وغامضة . ولم يعدمه كونه ( شيعي .. شروكي ) . بل يذكر أنه من أوائل البعثيين الذين وقفوا ضد سياسة البكر  وصدام .. في تحويل حزب البعث الى حزباً عشائرياً وقروياً من خلال تجميع أبناء عمومتهم وعشيرتهم في مؤسسات الدولة الحساسة والقصر الجمهوري , لكن هذا لا يعني أن يكون نزيهاً.. أو حاملاً مشروعاً وطنياً لعراق تعددي وحر , فهو لا يقل بؤساً عن صحبه , هكذا كان رده عندما سأله صدام بعد فشل محاولته ومواجهته بعد أن قبض عليه في طريقه للهرب الى أيران عبر منفذ زرباطيه  . وناظم كزار لا يقل دموية وفتكاً عن سعدون شاكر أو طه الجزراوي وسبعاوي بأشراف وتخطيط صدام وحضوره شخصيا الى قصر النهاية والاشراف المباشر على التعذيب والقتل .. عندما أعتقل ناظم كزار سكرتير القيادة المركزية عزيز الحاج وضعه أمام صدام في قصر النهاية بملابسه التي أعتقل بها.

يبقى ناظم كزار واحد من مجرمي البعث , نعم قد أتفق وأختلف هنا وهناك من صناعته وخلق منه بعبع مرعب للأخرين من عامة الناس وبتخطيط وعمد من ماكنة النظام القمعية .

أستند الباحث شامل عبد القادر على الكثير من معطياته حول سجايا ناظم كزار من رفاقه ومن عائلته تبرأ عن ما عرف عنه من دموية في قتل الشيوعيين أو تبريرها   . لكن ليس هذه كل الحقيقة، ومؤسسة السياسيين التي منحته في العراق شهيدا عام ٢٠٠٥ , فهذا الوضع برمته مشكوك به ومدان أنها مؤسسات بريمر وعملائه .

ناظم كزار … الملاحظ عليه قليل الظهور والكلام والضحكة .. ولم تعرف عنه الا صورة واحدة لحين رحيل النظام، ظهرت له وعبر أهله قلة من الصورة جلها لم يكن مبتسما بها . قبل محاولته الانقلابية .. كتب الى أحمد حسن البكر وصدام حسين في التخلص من رجال الردة ويقصد بذلك سعدون غيدان وحماد شهاب وزيري الداخلية والدفاع .. مذكرا بمواقفهم في التآمر على البعث مع عبد السلام عارف.

في المحاولة الانقلابية التي قام بها عبد الغني الراوي عام ١٩٧٠ وعندما فشلت شكل البعثيين محكمة خاصة بقيادة طه الجزراوي , فكان ناظم كزار عضو بها .. وظل موقفه شديدا وحاقدا على مجموعة الراوي .. وقتلوا الكثرة الاكثر ممن شاركوا في المحاولة , وكانت فرصة للخلاص من معارضيهم وهم بعيدا عن ما حدث , لكن لم يكن الذئب الوحيد بين البعثيين ولا الحمل الوديع  .. فهناك ذئاب أكثر منه افتراسا وحقداً .. عدائه للشيوعيين ينطلق من حقده عليهم عندما أرادوا سحله بالحبال عام ١٩٥٩أيام المد الشيوعي حسب استنتاجات وبحث شامل عبد القادر , الذي يخبرنا بها في صفحات كتابه , أنا ليس بصدد الدفاع عن المقاومة الشعبية أبان المد الشيوعي بعد ثورة تموز ١٩٥٨ أرتكبت حماقات هنا وهناك وتجاوزات لا مبرر لها  , لكن هذا لا يعني ولا يبرر بدفع مدير أمن أن ينتقم من الالاف من الشيوعيين بعد سنوات … وللتذكير أيضا كانت سجون الزعيم ممتلئة  بالشيوعيين المعارضين لفرديته في أدارة أمور البلاد .

طيلة فترة حكم عبد الكريم قاسم مركوناً بعدة زوايا من سجون العراق وحتى بعد انقلابهم المشؤوم عام ١٩٦٣ والصراع مع الجناح القومي أيضا زج في السجون الى يوم ١٧ .. ٣٠ تموز ١٩٦٨ وكان موقفه شديداً , وكان أخر بعثي أطلق سراحه بعد انقلاب ١٧ تموز .. عكس صدام حسين كان موقفه ضعيفا وأدى باعترافات كاملة الى مدير الامن العام رشيد محسن وبعد عام ١٩٦٨ صادر صدام منه كل أضابير الاعترافات وبعثه الى القاهرة وأن يصمت الى أبد الابدين بعد أنتزع منه كل أشرطة الاعترافات، أما البكر كان موقفه أشد بؤساً وإيلاماً من رفاقه قدم البراءة من البعث وسكن البيت .. ونشرت براءته في الصحافة حسب ما روى شامل عبد القادر في بحوثه، لكن بعد ١٧ تموز عادوا الى القصر الجمهوري بخطابات وخطوات ظللوا بها خصومهم السياسيين قبل رفاقهم وعبر منظمات ودول صديقة   ليذبحوهم باسم البعث والقومية والتآمر على الوطن .. ولم ينجى منهم حتى رفاق الامس .. ومجزرة قاعة الخلد عام ١٩٧٩ دليل على دمويتهم، كان هاجس صدام والبكر , ولكي يفرضوا هيمنتهم على الحزب والدولة فلابد من التخلص ممن يقف بطريقهم وممن يشكل عائقا جديا أمامهم وأمام مشاريعهم وأهدافهم في الاستحواذ والسيطرة على مقدرات البلد .. محاولة ناظم كزار ومهما لصقت بها من سيناريوهات , كانت فرصة لصدام للتخلص من معارضيه الحقيقيين ناظم كزار .. محمد فاضل .. عبد الخالق السامرائي .. بما يمتازون به من زهد وتصوف في حياتهم الحزبية بعيدا عن المظاهر بحياة بسيطة وبيوت متواضعة وأيمان بمشروعهم العربي القومي وتأييد حزبي وشعبي لهم، في القضاء عليهم فتحت الابواب أمام البكر وصدام من أوسع أبوابها في ارتهان البلد ومصيره بيدهم , وكملوا مشروعهم في القضاء على أخر ما تبقى بما يسمى ( البعث اليساري ) في قاعة الخلد عام ١٩٧٩ . نقلا عن كتاب الباحث شامل عبد القادر .. أن ناظم كزار قال لاحد رجاله حسن المطيري .. أذا لم أقتله والتخلص منه رأس الانحراف ويقصد صدام سوف أنتحر. كان ناظم كزار يقود جهازاً إرهابيا المتمثل بمديرية الامن العام لحزباً إرهابيا على المستوى الاخلاقي والسياسي لم تأخذه دوافعه الانسانية والفكرية والوطنية في الرأفة بمعارضيه ظل يلاحق أعضاء القيادة المركزية واحداً واحداً الا أن قضى عليهم تماما , ومئات من الشيوعيين قتلهم في المعتقلات أو عبر طرق الاغتيال شاكر محمود , ستار خضير , محمد الخضري بالتنسيق مع صدام وأجهزته .

المخابرات السوفيتية ( كي جي بي ) . لها الدور الاكبر في فشل محاولة ناظم كزار في تمويه مخابراتي عراقي أن البكر وصدام ماضون في توقيع ميثاق العمل الوطني مع الشيوعيين وتحولات تقدمية لكنهم يعزون التلكؤ والبطء الى معارضة كزار ورفاقه في الوقوف بالضد من هذا الانجاز الوطني، البكر وصدام ورفاقهم تمكنوا من تصوير صورة بشعة وساقطة بحق كزار ورجاله ومهنة القتل التي لصقت بهم وهذه هي الحقيقة في قصر النهاية وبهذا أرادوا وتمكنوا من أبعاد التهمة حولهم ودورهم القذر في ذبح خصومهم السياسيين في زنازين قصر النهاية، هنا برزت قوة البكر وصدام بالخلاص من منافسيهم الحقيقين , وبدأ صدام بتعزيز شبكاته الامنية باستقدام أبناء عمومته وعشيرته . في عام ١٩٧٩ قرر صدام بعزل البكر عن كافة مسؤولياته فالتجأ الى خاله وأب زوجته خيرالله طلفاح ليكن حكما وهو الخصم، فذاك صباح دعا خيرالله طلفاح الى بيته احمد حسن البكر وأبنه هيثم وعدنان خيرالله وصدام، وطرح طلفاح فكرة تنازل البكر عن مسؤولياته كاملة , لكنه في البدء رفض وأشتد الموقف مما دعا هيثم أبن البكر يشهر سلاحه ويطلق النار ويصاب عدنان خيرالله بيده .. هنا حسم السجال صدام وقال للاب القائد البكر .. لم يعد لك شيء في مؤسسات الدولة ولا في المخابرات ولا حتى في الحرس الجمهوري .. ما أمامك خيار الا هذا البيان المكتوب سلفا تخرج على شاشة التلفزيون وتعتذر من الناس بالتنحي عن كافة مسؤولياتك .. وفي المساء دعا البكر الى اجتماع قيادي طارئ على مستوى رفيع من قيادات الدولة .. وأعلن أمام الحاضرين قراره بالتنحي عن مواقعه ومسؤولياته لأسباب صحية وتسلم القيادة الى الابن البار صدام حسين ولم يعرفوا تفاصيل الاجتماع الذي عقد في الصباح في بيت خيرالله والذي دعا له لأمر هام  . كان في يومها صدام يسجل ملاحظاته عن ردود الافعال ومواقف الرفاق .. وقف أول الحاضرين عدنان الحمداني مخاطباً الاب القائد بالعدول عن الفكرة ونحن على أبواب توقيع ميثاق العمل القومي مع الشقيقة سوريا، ونهض غانم عبد الجليل رافضا الفكرة بتنحي البكر وتسليم المسؤوليات الى النائب صدام حسين .. وأجهشوا بالبكاء محمد عايش و محمد محجوب، بعد يوم من تلك الحدث الدراماتيكي , دعوا الى اجتماع طارئ أخر في قاعة الخلد والتي سميت مذبحة ( قاعة الخلد ) هنا تمكن صدام حسين في القضاء على أخر ما تبقى من قيادات البعث في مشهد مسرحي هزيل سيناريو وأخرجا .. ميلودراما تراجيديه أدى البطولة بها محي عبد الحسين المشهدي والبطل أيضا أعدم  .. أعتقل من الحاضرين ٥٢ بعثيا قيادياً .. وأعدم ٢٢ منهم بأسرع محكمة تاريخية وليتوج صدام رئيسا للدولة ورئيس مجلس قيادة الثورة بلا منازع وتهتف الجموع بروحه وتسطر القصائد بخصاله وبحب القائد .. وفي لحظة تاريخية دراماتيكية ترفع صور الاب القائد من على حيطان دوائر الدولة والساحات والواجهات الشعبية والرسمية وبدون ذكر ولا أثر، وليوجهوا بوصلة العراق نحو الحرب والفوضى والدمار ولينتهي المطاف به ساحة للنزاعات الطائفية والعشائرية والارهاب والاحتلال.

ناظم كزار يشكل جزء مهم من اشكالية عراقية بمرحلة معقدة من تاريخ العراق السياسي وصراعاته كانت في أوجهها على المستوى الداخلي والتقاطعات المحيطة بالبلد . فعندما تتناول تلك الشخصية ليس بالضرورة أن تكون من المتعاطفين معه أو من المؤيدين لأفكاره وتبنيه .. وهذا ينطبق أيضا على أي حدث تاريخي أو واقعة .. المهم والمريود منه أن تتجلى الحقائق في صورها الحقيقية بعيدا عن الرتوش المنمقة، في العالم الغربي جل الباحثين والدارسين ينقبون عن أحداث وشخصيات تركت ظلال مشوشة وسيئة ومؤلمة لتوعية الاجيال القادمة .. أما في عالمنا العربي حدث ولا حرج في رقي ديمقراطيته المستبدة والمستعمرة .. عندما تتناول شخصية أو حدثا يتقاطع مع أفكارك تتعرض للتهميش والاتهام .. فكيف نبني شعوبا وثقافات وأفكار وتطلعات، ومن خلال اطلاعي على كتاب الباحث شامل عبد القادر حول سيرة ناظم كزار , كان في كثرة من الجوانب والتفاصيل ملما بها ومعتمدا على وقائع وأحداث  . وتمكن من اظهار جوانب خفية من حياة ناظم كزار قد لا بعرفها العديد من المتابعين والمعنيين .. سيبقى ناظم كزار واحد من مجرمي البعث في أشد حقبة من تاريخ العراق السياسي دموية وصراخاً .. في الذاكرة الجمعية العراقية دماء وغياب رفاق وأهل.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com