مقالات

التوجه الديني المتسائل “الطريق إلى دين كوني “

” إن من لم يعد يستطيع أن يشعر بالتساؤل أو بالدهشة من حوله هو ميت , و عيناه قد أطفأتا “

ألبرت آينشتاين

 

لا يمكن نكران أن البشر لهم حس فطري للتساؤل و حب الأستطلاع بشأن القضايا التي تخص و تلامس جوانب حياتهم عامة , و لكن ربما إنطفاء هذه الملكة التساؤلية بفعل العوامل و القيود المجتمعية و البيئية أدى تدريجيا الى نسيانها و إسقطاها من قائمة القوى الفطرية المزود بها الانسان للمساعدة في تحسين جودة حياته و الأرتقاء بها , و ربما كان أكثر الجوانب التي فرض فيها الموانع و المحاذير في ما يخص التساؤل و الفحص و التمحيص هي الحقائق أو الجوانب الدينية .

و لكن من وجهة نظر العلم فكل شيء يمكن إخضاعه للتساؤل و البحث و أن الشك هو بداية اليقين و السبيل الى الحكمة , هذا ما دفع عالم النفس الامريكي الدكتور دانيال باتسون D.Batson الى إقتراح مصطلح ” التوجه الديني المتسائل” من خلال تطويره لنظرية عالم النفس الامريكي “البورت”, أذ كان الأخير  قد طرح نظريته عام 1950 التي نصت على أن هناك نوعين من التوجه الديني هما ” التوجه الديني الظاهري : و الذي يعني أن الفرد يتخذ الدين كوسيلة ” أما الأخر فهو “التوجه الديني الجوهري: و الذي يعني أن الدين بحد ذاته يمثل غاية بالنسبة للفرد ” .

قام باتسون بتطوير هذه النظرية  بأضافة نوع ثالث هو ” التوجه الديني المتسائل Quest Religious Orientation” معتمداً في طرحه على أن البورت نفسه قد اشار في نظريته الى  أن التميَز عن الأعتقادات الدينية الابوية “الموروثة” يتطلب وجود تفكير نقدي و فحص و تمحيص , كذلك فأن النضج الديني يستلزم أكثر من الأنتقاد فقط بل يشمل أيضا صياغة الأفكار , لذا رأى باتسون بأن البورت بمقياسه للتوجه الديني يقيم النضج الديني بشكل غير واف ذلك لأنه لا يقيس بدقة التساؤل الوجودي و البحث و بذلك أقترح التساؤل كبعد مستقل ثالث و قد وصفه بأنه ” مدخل يشمل مواجهة الأسئلة الوجودية بأخلاص  في كل تعقيدها , بينما يرفض المرء في الوقت ذاته قطعا واضحا الأجابات السطحية , و الفرد الذي يقترب الى الدين بهذا الأسلوب يدرك إنه لا يعرف , و ربما لن يعرف أبداً الحقيقة النهائية بشأن الكثير من الأمور , و يتميز الأشخاص  ذوي التوجه الديني المتسائل بأهتمام بالتطور الروحي كرحلة تتضمن أو تنطوي على التساؤل و البحث .

و قد أشارباتسون بأنه يتألف من ثلاثة أبعاد رئيسية هي :

_ الاستعداد لمواجهة الاسئلة الوجودية دون التقليل من تعقيدها.

_ النقد الذاتي : أي القدرة على فهم و أدراك التساؤلات الدينية التي يطرحها الفرد.

_ الانفتاح على التغيير و ما هو جديد.

و منذ أن طُرح المصطلح عام 1976 و قد تم دراسته من قبل العديد من الباحثين حتى الان , ليقدموا عدد من التجارب و الدراسات التي سعت الى تبيان ضرورة تفعيل هذا الجانب التساؤلي في شخصية الأنسان و مدى أهميته في خضم زيادة العولمة و وتيرة التفاعلات بين الناس من خلفيات دينية متباينة أذ يؤدي أنفتاح المرء و تقبله للتساؤل و النقاش و الرغبة في التطور الى تقبل الأخرين و بالتالي الحفاظ على مواقف أيجابية تجاه أتباع ديانات مغايره لما يعتنقه من دين أو يؤمن به من معتقدات.

فالأفراد الذين يبحثون عن إجابات للأسئلة الوجودية قد لا يكون لديهم أهتمام بالمؤسسات الدينية الرسمية , و لكنهم يمتلكون أهتمام عميق بالتعاليم الدينية , فأولئك الأكثر أخلاصاً في معتقداتهم الدينية و يميلون الى حب الأخرين و الأهتمام بالمحتاجين و التعاطف مع الناس , ففي الدراسة التي أجراها الدكتور باتسون نفسه في عام 2001 وجد أن التوجه الديني المتسائل هو أحد مصادر التعاطف العالمي , أذ وجد أن الأفراد الذين يسجلون درجات عالية على مقياس التوجه الديني المتسائل يكونوا أكثر تعاطفا مع الأخرين المختلفين عنهم .

أما الدراسة التي أجراها Berhan Messay   من جامعة دايتون عام 2010 , و التي طبق فيها مقياس التوجه الديني المتسائل على عينة من 242 من طلبة الصفوف المنتهية في الجامعة الكاثوليكية , فقد أكدت على أن هناك أبعاد في التوجه الديني المتسائل تنبيء بالغفران و التسامح منها بُعد الانفتاح على التغيير .

و بدورهما الباحثتان Reeshma Haji & Deanna Hall   التي أستهدفت دراستهما في عام 2014 الكشف عن الفروق الفردية في التوجه الديني المتسائل و علاقتها بالمواقف تجاه الجماعات الخارجية , و قد تألفت العينة من 55 فرد من الديانة المسيحية , طُلب منهم الأجابة على مقياس التوجه الديني المتسائل , ثم  التعبير عن مواقفهم تجاه الجماعات الخارجية من المسلمين و اليهود , و قد توصلت الدراسة ان ذوي التوجه الديني المتسائل لهم مواقف أيجابية تجاه الجماعات الدينية الاخرى (أي الجماعات الخارجية) .

و لازال البحث و الدراسة قائمة في هذا المجال , في سعي متواصل لتطوير هذا المتغير و بالتالي الخروج بتوصيات و مقترحات عن كيفية تفعيل و تنمية الجانب التساؤلي في شخصية أنسان هذا العصر بعده أكثر الجوانب التي يحتاجها الفرد أذا ما أراد البقاء , و لعله الطريق الوحيد الذي من شأنه أيصالنا لديانة كونية موحدة ترتكز على تقبل الأخر و التسامح و الغفران , و ليس التعصب و التمييز والرفض  .

إذ تؤكد دراسة ألتميير و هونسبرغ في عام 1992 الى أن الأفراد الذين يعد الدين بالنسبة لهم أمراً قاطعاً و متزمتاً هم أكثر أحتمالاً أن يكونوا متعصبين تجاه تشكيلة من جماعات الأقلية , بينما تشير دراسة فينيس في عام 1995 الى أن الدرجات العالية على مقياس التوجه الديني المتسائل ترتبط بالأنفتاح العقلي و اللين في النقاش , أذ أن الأنفتاح على التساؤلات الدينية و الرغبة في مواجهة الأسئلة الوجودية لا تنفي الدين , كما أن البحث الروحي و التساؤل لا ينفيان وجود التزامات دينية لدى الأفراد.

بل على العكس من ذلك يدل الأنفتاح على الأسئلة و تقييم و أدراك الفرد لتساؤلاته مؤشراً على الأنفتاح و قبول الأخر , و يؤدي بالتالي الى أخلاص أكبر و أعمق من قبل الفرد للمعتقدات التي يتوصل اليها من خلال البحث و التساؤل .

أن البحث و التساؤل المستمر هو السبيل الوحيد للولوج  في مستوى وعي يتلائم و التطور الذي وصل اليه الجنس البشري , ما لم نسعى بجهود حقيقية و بحث أصيل و عميق من أجل التوصل الى حقائق تنتشلنا من حالة الركود و توقف النمو الذي يميز الحياة الروحية لأنسان هذا العصر الى حالة من النضج الروحي و تواصل النمو و التطور لبلوغ  صورة الانسان الكوني , بمنأى عن التصنيفات و الأنتماءات الجوفاء مقابل هويته الروحية اللامتناهية.

و بعيداً عن العلم و الدراسات المذكورة أعلاه , أود ان أبين رأيي في المصطلح نفسه أي ” التوجه الديني المتسائل Quest Religious Orientation” و أُوضح أنه كان حري بالمنظر الدكتور باتسون أن يستخدم مصطلح الروحي بدلاً من الديني , فيصبح المتغير ” التوجه الروحي المتسائل Quest Spiritual Orientation” و هذا ما أقترحته بالفعل على الدكتور باتسون عن طريق مراسلته, و بدوره لم يعارض أن يتم أستخدام هذا المصطلح الاخير المقترح و لكن شريطة أن يتم الأشارة الى المصطلح الرئيسي للمنظر و نظريته و من ثم التوسع بالمصطلح الثاني و بيان سبب أفضلية استخدامه .

أنا أفضل مفردة الروحي لعدة أسباب منها أن كلمة الدين في المجتمعات العربية تحيطها الكثير من المحاذير و التشدد في ما يخص الخوض فيها , كما ان الروحي تبدو لي أوسع و أقرب لفحوى و مضمون ما ينص عليه مفهوم التساؤل و البحث .

معتمدة في ذلك على ملاحظاتي لعدد من المجاميع و الأفراد الذين يطغى في منظومتهم النفسية هذا الجانب التساؤلي و الباحث , أذ وجدت أن الأغلب ان لم يكم جميع هؤلاء الافراد يرفضون تصنيفهم ضمن ديانة معينة او فئة , و انما يعدون الديانات مراحل روحية يمر بها الفرد متنقلاً من دين الى اخر بحسب تجربته الروحية كما أرادها له الخالق , على سبيل المثال فأنك قد تكون مسيحي بالوراثة و لكنك يهودي في مرحلتك الروحية , او قد تكون ولدت مسلماً في الوراثة و لكنك يهودي  في المرحلة الروحية التي تمر فيها.

فهم يركزون في المضمون الكامن لهذا الحلم المسمى بالحياة , و المغزى المخبأ خلف  الشكل الظاهري له , محاولين تفسير الحقائق بالاعتماد على اللغة الرمزية لهذا المضمون فهم يحاولون التوصل الى دلالات هذه الرموز للوصول الى المعنى الكامن او الجوهر المطمور تحت طبقات من القشور المتراكمة.

و إن المعتقدات و التعاليم الدينية بالنسبة لهم مرنة قابلة للبحث و النقاش و التفسير و التدبر الدائم , في جو من التقبل لكل فكرة جديدة دون التشنج او الرفض او الحكم عليها بالخطأ او الصواب .

لذا فأن مثل هذه المجموعات التي تتميز بمستويات وعي عالية و متقدمة , و بدرجة من النضج الروحي دفعتني الى التأكيد على ان الروحي هو الاصلح للمتغير بدلاً من الديني , فالروح هي من تتسائل و هي من تسعى للوصول و التسامي , و ليس الدين التي تعده مرحلة و محطة من أجل الوصول الى الغاية الأعمق , و هي العودة الى أصولنا كجزء من وعي لامتناهي !

 

بقلم الكاتبة

زينب كاظم 

 

 

  

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com