منوعات

المتأوِّلون الجدد

بيدر ميديا.."

المتأوِّلون الجدد

سعيد يقطين

 

المتأول من بالغ في تأويل ما يدل عليه النص، أو اجتمع عليه الناس، أو اختلفوا فيه اختلافا عاديا، فضخَّمه ووجهَّه وجهة تقوم على نقيضه، أو بزعم نفي وجوده، أو إنكار محتواه، بادعاء تقديم تأويل «حقيقي» و«صحيح» يكشف أن ما تم حوله الإجماع باطل ولا قيمة له.
يمارس هذا التأول، ولا علاقة له بالتأويل المؤسس على ضوابط محددة، في كل زمان ومكان، إن أي حدث أو نص يختلف الناس في تلقيه وتأويله، ولكل مصلحة خاصة في تأكيد ما يراه متطابقا مع تصوره ومقاصده. أضرب مثالا من تفسير بعض الشيعة لسورة التين على النحو التالي: «التين: رسول الله صلى الله عليه وآله، والزيتون: أمير المؤمنين عليه السلام، وطور سنين: الحسن والحسين عليهما السلام، وهذا البلد الأمين: الأئمة عليهم السلام». وهم في تقديمهم لهذا التأول يتهكمون على من فسر التين والزيتون بما يؤكل، ويتساءلون كيف يقسم الله عز وجل بهما. والتأول ليس خاصا بالشيعة فقط، فقد مارسته كل الطوائف، وكل المذاهب على اختلاف توجهاتها.
أما المتأولون الجدد فهم فئة، أو جماعة متفرقة من الناس، أو لنقل من «المثقفين» وإن ادعوا أحيانا أنهم باحثون، لا يجمع بينهم سوى ممارسة التأولات البعيدة، والقراءات غير الدقيقة لنصوص تتعلق بالدين وبالتاريخ الإسلاميين. ولهم في ذلك قناعة راسخة بأنهم يسعون إلى «تحطيم» أساطير دينية، أو «تصحيح» أكاذيب تاريخية، من جهة. وأنهم يفهمون ما لم يفهمه غيرهم في كل التاريخ، من جهة ثانية، وأن لديهم الثقة المطلقة في أن يقدمونه تجديد للدين وللتاريخ. وفي ضوء هذه التحديدات نتبين أنهم في واقع الأمر لا يختلفون عن المتأولين القدامى من المسلمين، أو غيرهم من الصليبيين، وعن المستشرقين الذين ظل الكثير منهم يقدم تصورات مناقضة لما أجمع عليهم المسلمون، من خلال ادعاء العثور على وثائق جديدة، أو امتلاك مناهج علمية. إن المبدأ المنطلق منه لدى هؤلاء المتأولين، وهو ما يجمع بينهم هو: هناك وقائع تقدم على أنها حقائق، وليست سوى «أكاذيب». وهناك نصوص تقدم على أنها مقدسة، لكنها ليست سوى «أساطير». وهم جميعا يعملون على وضع حد للأكاذيب، ونهاية للأساطير. ما زادهم من العلم؟ ما هي المناهج التي ينطلقون منها؟ لا نجد جوابا عن ذلك. فهم «تنويريون» يحاربون الخرافات.

إن قول الحقيقة والدفاع عنها مما يتعلق بزماننا، وما يزخر به من مشاكل سياسية واجتماعية هو ما يمكن أن تصب فيه اجتهاداتهم ورؤاهم الصائبة، وكشفهم للحقيقة التي لا يراها غيرهم.

إنها دعوى لا تختلف عن أي دعوى ويظهر ما يقدمونه من تأولات أنها لا تصمد أمام الأسئلة والقراءات المتأنية. إلى جانب ذلك المبدأ الجامع، نتساءل ما هي الموضوعات التي يشتغلون بها؟ لقد اختاروا القرآن الكريم، والحديث النبوي، والتاريخ الإسلامي القديم، أو تاريخ الحركة الوطنية ضد الاستعمار. فكان تصورهم أن جمع القرآن الكريم، وتدوين الحديث، وكتابة التاريخ لعبت فيه عوامل سياسية وأيديولوجية، فكان التحريف، وكان أن سادت الخرافات، والأساطير، والأكاذيب التي أجمع طائفة من المسلمين عليها، ففرضوها وألغوا غيرها، ومنعوها من الظهور. وهم في هذا الجانب لا يزيدون عما قيل قديما، وهم يكررون ما عمل بعض المستشرقين على نشره في العصر الحديث، وإلى هذه الساعة.
لقد نوقشت قضية النص ومدى مطابقته للوقائع، أو مخالفته لها قديما وحديثا. وما يقدمه المتأولون لا جديد فيه سوى السخرية التي يمارسونها، وحتى المعلومات لا جديد فيها. فما هي الحقب التاريخية التي يرومون كشف أساطيرها، أو إبراز أكاذيبها؟ لقد اختاروا صدر الإسلام، والعصر الأموي والعباسي، وتاريخ الحركة الوطنية. إن الباحث عن الحقيقة، والحالم بوضع نهاية للأساطير عليه أن يختار الحقب التاريخية التي ساد فيه التخلف والانحطاط والصراع، والتي تشبه ما نعيشه حاليا من انقسام وعجز عن التفكير، وعن الفعل في العصر الذي نعيش فيه. إن قول الحقيقة والدفاع عنها مما يتعلق بزماننا، وما يزخر به من مشاكل سياسية واجتماعية هو ما يمكن أن تصب فيه اجتهاداتهم ورؤاهم الصائبة، وكشفهم للحقيقة التي لا يراها غيرهم.
أما اختيارهم للحقب المذكورة فهي أزهى الحقب، وهي التي تأسست فيها حضارة ذات بعد إنساني، أين منها الحضارة التي نعيش فيها الآن؟ وهل يمكننا أن نقارن ما أنجزه العرب والمسلمون في تلك الأزمنة بما نعيش حاليا؟ إذا كانت الأساطير والأكاذيب نجحت في إقامة صرح حضاري وثقافي وإنساني ما يزال مستمرا إلى الآن، وسيظل متواصلا، فإن ادعاءات إنهاء الأساطير وتصحيح الأكاذيب ليست سوى «كناطح صخرة يوما ليوهنها/ فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل»؟ إن كل التأولات التي يقدمونها بنبرة العنف والثقة العمياء والسخرية لا يمكنها أبدا أن تزيل ما يعتبرونه أساطير أو أكاذيب. لم أتناول الثيمات التي يقفون عليها في النصوص، والتي يتناقلونها في ما بينهم، لأن أغلبها لا أثر له في الحياة العامة. إن مناقشة الغيببيات والظنيات، ومحاولة إيجاد تأولات لها لا يغير من المعتقدات شيئا. أما الوسيط الذي اختاروه للترويج لتأولاتهم فهو وسائل التواصل الاجتماعي. وفي هذا دليل آخر على الترويج لبضاعة مزجاة في وسيط يعج بمن يستغله للتفاهة وموردا لطلب الرزق.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com