مجتمع

تجارة الجنس في العراق والجهات المتنفذة التي تقف خلفها

حكايات مروعة عن تجارة الدعارة في العراق

في منزل يحيط به سور عالٍ تغطّيه أشجار النخيل والسدر “النبك”، وبوابة صغيرة تكاد لا تفتح سوى مرّات قليلة في اليوم بمنطقة الكرادة وسط بغداد، تقطن “اندومي” ابنة الـ18 ربيعاً.

بعد أكثر من نصف ساعة من الانتظار في أحد المقاهي الصغيرة التي تعجّ بمرتاديها وسط العاصمة بغداد، حيث كان موعد لقائنا، دخلت “اندومي” بفستان مخملي أحمر قصير يظهر معظم ساقيها البيضاوين، بعد موافقتها على إجراء مقابلة صحافية شريطة عدم الكشف عن هويتها.

جلست محنيّة الظهر تقارب ساقيها من بعضهما بعضاً، شابكة يديها بقوّة، وهي تورد تفاصيل هروبها “المرعب” من منزلها في السليمانية (381 كلم شمال شرقي العاصمة بغداد) وسط انهيار الأمن. بكلمات متقطّعة وعيون ملأتها الدموع، تحدّثت عن “حزن والدتها” عليها، وعن سماعها في ما بعد بوفاتها بعد هروبها من العاصمة بأشهر.

“بالكاد كنت قد بلغت الـ14 عاماً حين قرّر والدي تزويجي بشخص كردي من مدينتي يكبرني بـ33 عاماً… تم كل شيء سريعاً بعد أن تلقّى ستة ملايين دينار كمهر لقاء قبوله بتزويجي”، تقول اندومي “عشت معه حياة غريبة، كان يتعامل معي كمومس وليس كزوجة، وهو ما دفعني للتفكير بالانتحار”.

عائلتي عاشت لفترة في كركوك، وتعلّمت هناك العربية، ولم أكن قد زرت بغداد في حياتي، ولم تكن تربطني علاقة مع أي شخص هنا، باستثناء صديقة على “فيسبوك” شجّعتني على الهروب إلى العاصمة بدلاً من الانتحار، قبل أن تختفي هي أيضاً ويصبح جوّالها خارج الخدمة، تقول “اندومي”.

تضيف وهي تحرّك يديها في الهواء، “ساعة وصولي إلى بغداد ووسط الضياع الذي كنت أعيشه، اقترب مني رجل كبير، بدا ودوداً وهو يحمل منديلاً أعطاني إياه لأمسح به دموعي… أخبرته سريعاً أني لا أملك أي أقارب هنا… اقترح إيوائي في مكان آمن… قبلت، ولم أكن أملك أي خيار”.

تشاطر “اندومي” مع أكثر من عشرين فتاة أخرى، اثنتان منهما من العاصمة بغداد والأخريات من المحافظات الغربية والوسطى والجنوبية، المنزل الذي تديره “أم فراس”.

كانت أيام “اندومي” الأولى في منزل “أم فراس” مرعبة، “بكيت لأكثر من أسبوعين من دون انقطاع”، لكن مشغّليها أقنعوها أخيراً بأن لا عودة إلى منزلها، محذّرين إيّاها من “القتل” في حال طلبت ذلك.

تهيئ “أم فراس” أندومي كل ليلة، فيتم تزيينها والاعتناء بملابسها الداخلية والخارجية، لتنقل إلى دور “الزبائن” لممارسة الجنس بشكل يومي تقريباً، ثم تعود صباحاً إلى المنزل بسيارة خاصة.

تحاول “اندومي” بشتى الوسائل توفير بعض الأموال بعيداً من أعين مشغليها، حيث تتقاضى “في الليلة الواحدة نحو 200 دولار تذهب 120 دولاراً منها إلى “أم فراس” مقابل إيواء الفتيات وإطعامهن، فيما تحتفظ “اندومي” بنحو 70 دولاراً فقط.

“أم خديجة” التي لم تبلغ الأربعين من عمرها بعد، تقطن في المنزل نفسه، وهي تعمل صباحاً في أحد مقاهي بغداد، وتتحوّل في المساء إلى عاملة جنس، تُنقل عند الحاجة لإحدى دور البغاء مقابل الحصول على بعض المال.

وصلت “أم خديجة” إلى العاصمة بغداد بمساعدة والدتها بعد مقتل زوجها “أحد أمراء تنظيم داعش” في مدينة الرمادي (110 كلم غرب العاصمة بغداد). “كان مقتله خلاصي الوحيد من وحشيّته وقسوته التي عانيت منها لسنوات”، تقول “أم خديجة”.

بدأت رحلة “أم خديجة” إلى بغداد منتصف عام 2015، بعد أن دفعت مبلغ 25 ألف دولار لأحد عناصر تنظيم “داعش” لإخراجها من المدينة المحاصرة، مصطحبة ابنتها ذات الـ15 ربيعاً.

استأجرت “أم خديجة” التي تحمل شهادة دبلوم في إدارة الأعمال، منزلاً متهالكاً شرق العاصمة، وبدأت العمل بعد أيام في إحدى منظمات المجتمع المدني، إلا أنها تركت المنظمة بعد ثلاثة أشهر لضعف الأجور التي كانت تتقاضاها لقاء عملها شبه التطوّعي.

تعرّفت “أم خديجة” مصادفة إلى إحدى النساء التي عرضت عليها العمل كعاملة تدليك (مساج)، في أحد المراكز المختصة بـ750 دولاراً شهرياً، مع الحصول على مبالغ إضافية، “تصل في بعض الأحيان إلى 25 ألف دينار بشكل مباشر من روّاد المركز، لقاء خدمات إضافية “تقول “أم خديجة”.

بعد أشهر قليلة، تمّت مفاجأة “أم خديجة” بوجود تسجيلات مصوّرة لها، تظهر فيها وهي تمارس الجنس مع بعض زبائن المركز، فيما تمّت مساومتها على بيع ابنتها الوحيدة “وسن” إلى إحدى النساء (القوادات) مقابل 5000 دولار.

لم ترضخ “أم خديجة” في بادئ الأمر للابتزاز، لكنها استسلمت أخيراً، واشترطت أن تكون إلى جانب ابنتها في المنزل الجديد الذي ستعيش فيه، لهذا بيعت هي أيضاً إلى “أم فراس” بمبلغ 2500 دولار.

“بكيت كثيراً في أول ليلة أخذوا فيها “وسن”، كأن روحي وقلبي انتزعا مني”، تقول أم خديجة. لكن تلك الساعات كانت أهون كثيراً من لحظة عودتها صباحاً “كانت ترتجف من الخوف وتبدو آثار ضربة كف على خدها الأيمن”.

7000 دولار أميركي كان ثمن ممارسة “وسن” الجنس لأول مرّة مع أحد تجار العاصمة بغداد، “كان هذا ثمن فض بكارتها” تقول “أم فراس” السيدة الخمسينية التي تبدو أصغر سناً نظراً إلى جمالها وأناقة ملابسها، كما رآها كاتب التحقيق خلال لقاء جمعهما بعد وساطة “مصدر” خاص.

يزيّن فمها سن ذهبي، يظهر مع كل قهقهة تطلقها خلال حديثها للفت الأنظار، فيما يتناثر شعرها ذات الصبغة فاقعة الصفار على كتفها بقصة قصيرة.

اشترطت أم فراس عدم التصوير أو تسجيل صوتها، لإجراء مقابلة صحافية للحديث عن طبيعة عملها وكيفية استقطاب النساء للعمل في تجارة الجنس.

تجني أكثر من 5000 دولار يومياً كمتوسط دخل لقاء عمل فتياتها صباحاً في المقاهي، وتأجيرهن للجنس ليلاً.

تقول إن ما تجنيه في إدارة البغاء لا يكون مالاً صافياً لها، إذ “هناك جهات عدة تجبرنا على دفع الأتاوات” مقابل عدم التعرّض للفتيات العاملات لدينا، فيما تؤمّن لنا بعض العصابات المتخصّصة فتيات جديدات على طول السنة، يتم استقطابهنّ إما بالابتزاز أو من طريق إغوائهن بالمال، ونقوم بشرائهن كل واحدة بمبلغ معيّن بحسب صغر سنها وبكارتها وجمالها.

الاستغلال الجنسي قضيّة مزمنة

العراق كان يعد من البلدان التي نجحت في الحدّ بشكل كبير من حالات الاستغلال الجنسي والاتجار بالبشر، لا سيما بعد إصدار قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959، والذي حظّر فيه حتى الزواج القسري وتعدّد الزوجات، لكن ظاهرة الاتجار بالجنس عادت إلى الواجهة في تسعينات القرن الماضي وبعد تغيير النظام السابق عام 2003.

في التاسع من كانون الثاني 2018، أعلن المتحّدث باسم مجلس القضاء الأعلى في العراق القاضي عبد الستار البيرقدار عن اعتقال عصابة من خمسة أفراد في مدينة الناصرية (375 كلم جنوب العاصمة بغداد) تحترف الاتجار بالفتيات.

في الوقت الذي اعترف عناصر العصابة، بحسب البيرقدار، بـ “استدراج أربع فتيات إلى العاصمة بغداد عبر برنامج التواصل الاجتماعي “التليغرام” بحجة الزواج بغية المتاجرة بهن”، وصدّقت “محكمة التحقيق اعترافات المتّهمين وفق المادة (5/ ثانياً) من قانون الاتجار بالبشر”.

وأعلنت قيادة عمليات بغداد في الثاني من كانون الثاني من العام ذاته إلقاء القبض على عصابة تتكوّن من رجل وابنته، تمتهن التجارة بالبشر وبيع الفتيات في منطقة السيدية، جنوب العاصمة.

الناشطة الحقوقية والأمينة العامّة لجمعية الأمل هناء ادوارد، أكّدت تصاعد نسب جريمة الاتجار بالبشر، كاشفة عن ارتفاع حالات،”هروب النساء في المناطق الجنوبية والشمالية، بعد وعود لهنّ بالزواج من قبل سماسرة يستدرجونهنّ عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ليوقعوهنّ في فخ شبكات الاتجار بالبشر”.

مشكلة النساء اللواتي يتم استدراجهنّ تكمن بعدم القدرة على العودة إلى ذويهنّ، نظراً إلى العادات القبلية والمجتمعية التي تفرض قتل كل فتاة يكشف هروبها من ذويها، وهذا ما يجعل مهمّة خلاص هؤلاء النساء من عصابات الاتجار بالجنس صعبة أو مستحيلة.

يقول الرائد في وزارة الداخلية، علي شاكر، إن “النساء الهاربات من ذويهنّ إلى العاصمة بغداد، يضطررن إلى الحصول على أوراق ثبوتية وجوازات سفر مزوّرة، واستخدام أسماء مستعارة مع تغيير ألقابهنّ”، بهدف التخفي وقطع الطريق على ذويهنّ من ملاحقتهنّ عبر الأجهزة الامنية.

يبيّن شاكر أن ذوي الضحايا يقومون بإبلاغ مراكز الشرطة عن اختفاء بناتهم، وتسجيل محاضر رسمية بدعوى الخطف أو الفقدان، ليتم بعدها تعميم صور الفتاة والاسم على الأجهزة الامنية المختصّة في المحافظات كافة، فيما يقوم بعض ذوي الضحايا بالبحث عنهنّ بشكل شخصي في العاصمة، لكن معظم عمليات البحث تلك تبوء بالفشل.

لكن الكثير من حالات القتل سُجّلت لفتيات تم العثور عليهنّ، والتي تعتبرها قبائل عربية “غسلاً للعار”، ويخفّف القضاء حكمه على مرتكبي عمليات القتل تلك، ويصنّفها كجزء من جرائم “الشرف”، والتي لا يتعدّى الحكم فيها عقوبة حبس ستة أشهر أو سنة كأقصى حد.

جمعية الأمل العراقية كشفت أيضاً عن “وجود عشرات الفتيات “العراقيات” القاصرات محتجزات داخل دولة “الإمارات العربية المتحدة”، مؤكّدة على لسان أمينتها العامّة هناء ادوارد، “وجود عملية تهريب لفتيات عراقيات إلى “الخليج ولبنان والأردن “عبر وعود بالعمل، ثم يتم الاتجار بهن”.

وتروي إدوارد بشكل مقتضب قصة فتاة عراقية “قاصرة” – لم يستطع كاتب التحقيق لقاءها لامتناعها عن إجراء لقاء صحافي وتخويلها لادوارد للحديث عنها – تمّ استدراجها إلى (سوريا) بعد أن تقدّم لخطبتها شاب عراقي مقيم في سوريا بصحبة والدته، بعدما تعرّفت إليه عبر موقع “فيسبوك”، ونظراً إلى الحالة الاقتصادية الصعبة التي تعيشها عائلة الفتاة، وافقت على تزويجها.

بعد وصول الفتاة، اكتشفت أن والدة الشاب تدير أحد النوادي الليلية، ليتم إرغامها على العمل كـ “راقصة” في النادي بعد تطليقها، ثم نقلها بعد عام إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، قبل أن تتمكّن من العودة الى العراق.

لم يتسنّ لكاتب التحقيق الحصول على تصريح رسمي من وزارة الداخلية الإماراتية لعدم ردّها على رسالة عبر الخدمة الالكترونية لموقعها الرسمي على شبكة الإنترنت، وجّهها كاتب التحقيق لها بشأن أعداد الفتيات العراقيات المحتجزات في الإمارات، والمتّهمات بقضايا “البغاء”.

القضاء العراقي، وعبر الكثير من التقارير والبيانات التي أصدرها خلال السنوات القليلة الماضية، كشف عن وجود شبكات تمارس الاتجار بالبشر، وتدير شبكات تستقطب النساء بهدف تشغيلهنّ في دور البغاء.

وذكر المكتب الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى في تقرير نشرته صحيفة “القضاء” الصادرة عنه، في حزيران/ يونيو 2006، أنه صادق أقوال إحدى شبكات الاتجار بالبشر والتي اعترفت ببيع الكثير من النساء بمبلغ 2500 دولار أميركي، وأنهنّ لا يتقاضين لقاء عملهن في البغاء، سوى توفير مكان للمبيت والمأكل والملبس.

عن رفاه وعلياء اللّتين أوقعهما “زيد”

بين طاولات أحد كافيهات منطقة العرصات وسط العاصمة بغداد، تتنقل “رفاه” ذات الـ24 سنة، لتقدّم النرجيلة وبعض الخدمات للزبائن، ولا تسلم من التعرّض للتحرّش اللّفظي طوال ساعات عملها.

غادرت رفاه الموصل بعد سيطرة تنظيم “داعش” على المدينة في العاشر من حزيران 2014، مصطحبة معها شقيقتها وأمها، بعد أن قتل التنظيم والدها الذي كان يعمل شرطياً قبل سيطرته على المدينة بتسعة أشهر.

خمسة أشهر هي المدّة التي قضتها في مخيّم للنازحين شمال الموصل قبل أن تتعرّف إلى “زيد” خلال زيارته المخيّم مع إحدى المنظّمات الإنسانية والذي عرض عليها مغادرة المخيّم إلى العاصمة بغداد “وتوفير عمل براتب مجزٍ لي ولشقيقتي”. تقول رفاه “وافقت بسبب ظروفنا الصعبة على رغم قلقي بشأن تصرّفات زيد وتقرّبه مني ودوافعه”.

وصلت رفاه وشقيقتها بغداد، ليتم نقلهما إلى شقة صغيرة مؤثثة في منطقة البتاوين وسط المدينة، وبعد أسبوع من وصولها باشرت العمل في مقهى، فيما تم تشغيل شقيقتها في أحد صالونات الحلاقة النسائية.

تكفّل زيد والذي تبيّن- بحسب شهادة رفاه- أنه يعمل ضمن شبكة تستقطب الفتيات إلى بغداد، بإيجار منزلها لمدة ثلاثة أشهر، “لكنه بعد أسابيع عرض عليّ مبلغ 1500 دولار مقابل المبيت مع أحد الزبائن”. تقول رفاه “وافقت بعد تهديده بطردي من الشقة وتسريحي وشقيقتي من العمل وأشياء أخرى، لم يكن هناك مجال للتراجع”.

بعد أسابيع قليلة، تم إرغام شقيقتها على العمل في أحد مراكز التدليك “هدّدوني بفيديو بينما كنت أستحم في صالون الحلاقة”، تقول “علياء” شقيقة رفاه.

محنة الإيزيديات مستمرّة

في الثالث من آب 2014، اقتحم تنظيم “داعش” مدينة سنجار (120 كلم شمال غربي الموصل) والتي تقطنها غالبية ايزيدية، واختطف نحو 3550 فتاة وامرأة، تمكّنت أقل من ألفين منهنّ من الهرب أو النجاة بعد دفع “فدية” فيما ما زال مصير نحو 1580 منهنّ مجهولاً.

ومع سيطرة التنظيم الراديكالي على نحو 90 في المئة من محافظة نينوى، حيث يعيش المسيحيون والايزيديون والشبك، ومساحات واسعة من الأراضي العراقية، وإنشاء ما أسماها التنظيم “أرض التمكين”، افتتحت أسواق كثيرة لبيع الايزيديات المختطفات من العراق وبعض المسيحيات من سوريا.

في قرية بالقرب من معبد “لالش” الخاص بالايزيديين (60 كلم شمال غربي مدينة الموصل) تجلس “نغم” متّكئة على كرسي خشبي يعود صناعته إلى خمسينات القرن الماضي. لم تستطع الفتاة ذات الـ25 ربيعاً من الجلوس على الأرض، كبقية أفراد عائلتها، نظراً إلى الإصابة البالغة التي مُنيت بها نتيجة التعذيب الذي تعرّضت له على يد عناصر “داعش”.

اختطف “داعش” نغم وشقيقتها، وسط مدينة سنجار بعد أن قتل جميع افراد عائلتها من الذكور، “بعد فترة احتجاز في بلدات قرب سنجار، اقتادوني نحو مدينة سورية عرفت في ما بعد أنها الرقة”.

احتجزت نغم وشقيقتها في إحدى “مضافات” التنظيم لأكثر من ثلاثة أسابيع حتى تمّ “عرضي وعدد من الإيزيديات في سوق عام، ليتم بيعي في مزاد علني شارك فيه عشرات الرجال غالبيتهم من عناصر التنظيم”.

بيعت “نغم” بمبلغ 80 دولاراً فيما لم تعرف مصير شقيقتها البالغة من العمر 9 سنوات والتي بيعت بمبلغ 500 دولار أميركي.

تقول نغم إن الكثير من الموجودين في سوق بيع السبايا هم أجانب، وهم “يدفعون مبالغ كبيرة لقاء شراء الفتيات اللواتي تقل أعمارهنّ عن 9 سنوات”.

ما زالت عائلة نغم تبحث عن شقيقتها مجهولة المصير مثل أكثر من 1500 فتاة وامرأة أخرى، أملاً بالعثور عليها واستعادتها، لكن المهمّة أصعب بسبب صغر سنّها حين اختطفت.

اتجار بالبشر في مخيّمات النزوح

مستشار وزارة الداخلية وهاب الطائي أكّد خلال حديث لكاتب التحقيق “ورود شكاوى كثيرة من نساء تم اجبارهنّ على ممارسة الجنس، بعد استغلال ظروفهنّ المعيشية”.

جمعية الأمل وناشطون في مجال حقوق الإنسان كشفوا عن “تسجيل مراكز ايواء النازحين الكثير من عمليات الاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي من قبل عصابات منظمة، لا سيما أن معظم نزلاء مخيّمات النزوح من الطبقتين المتوسّطة والفقيرة”.

وهذا ما أكّدته عضو لجنة المرأة والأسرة والطفولة النيابية في البرلمان السابق ريزان دلير، كاشفة عن منعها من دخول مخيّمات نزوح في إقليم كوردستان، “بعد إصراري على كشف حالات الاتجار بالبشر في تلك المخيّمات”، مشيرة إلى عدم وجود “خطط واضحة للحكومة ومنظمات المجتمع المدني لمكافحة الاتجار بالبشر”.

واتّهمت دلير جهات “متنفذة” لم تسمّها، بالوقوف وراء عمليّات استغلال الحالات الإنسانية للنازحين في مخيّمات النزوح وغيرها، بهدف تشغيلهنّ في “الكافيهات” أو بيوت “البغاء” واستغلالهنّ جنسياً.

المتحدّث باسم وزارة الهجرة ستار نوروز نفى لكاتب التحقيق تسجيل وزارته ومصادرها المنتشرة في كل مخيّمات النزوح أي انتهاكات بحق النساء، ووافقه الرأي رئيس المرصد العراقي لحقوق الإنسان مصطفى سعدون، الذي أكّد وجود مراقبة دقيقة من قبل الحكومة والمنظمات المحلية والدولية لمخيّمات النزوح.

في بلد مثل العراق، لا يمكن الوصول إلى المعلومات والبيانات بسهولة، لا سيما ما يتعلق بملفات الجريمة وعمليات الفساد، حيث تتكتّم الجهات المعنية على معظم الإحصاءات والأرقام بحجة تأثيرها سلباً في المجتمع وعملها بشكل خاص.

يقول مدير الشرطة المجتمعية ببغداد العميد خالد المحنة “ليس لدي تخويل بالتصريح عن البيانات الدقيقة والإحصاءات بشأن عمليات الاتجار بالبشر”، مؤكّداً أن مهمّة مديريته تكمن في “جمع البيانات وإجراء الدراسات والأبحاث حول الجرائم المجتمعية ومنها الاتجار بالبشر، وتقديمها للجهات التنفيذية”.

وكشف المحنة عن استخدام العصابات المقاهي ومراكز التدليك كواجهة لتجارة الجنس، مؤكداً وجود “ما يقارب 60 مركزاً للتدليك في العاصمة بغداد وحدها، والتي عادة ما تكون عبارة عن “غرف لممارسة الجنس بواجهات مساج”.

وسُجّل، بحسب المحنة، وجود “أكثر من 100 كافيه ومقهى في العاصمة تعتمد على النساء في كوادرها”، خصوصاً من الشابات والقاصرات، ما يفتح باب استغلالهنّ لأجل البغاء.

معظم النوادي الليلية التي يتخفّى معظمها تحت لافتات “المراكز الثقافية”، تنتشر بشكل ملحوظ وسط العاصمة بغداد، لا سيما مناطق الكرادة والعرصات وشارع أبو نواس المطل على نهر دجلة، وقد سُجّلت زيادة كبيرة في أعدادها خلال السنوات السبع الماضية، بعد أن كانت قبل 2010 تُحصى على عدد أصابع اليد.

وتدرّ النوادي الليلية التي تستخدم النساء كعنصر أساس لاستقطاب الزبائن، بحسب عدد من ضباط الداخلية المطلّعين على هذا الملف، ملايين الدولارات، إذ إن المعلومات المتوافرة، بحسب أحد الضباط، تشير إلى أن “واردات أحد النوادي الليلية التي تحوي صالة قمار في بغداد تبلغ ما بين (1.5-1) مليون دولار يومياً”.

وهذا ما أكّده النائب فائق الشيخ علي في 27 تشرين الاول/ أكتوبر 2016 خلال مؤتمر صحافي، كاشفاً عن حصول أحزاب سياسية لم يسمّها على “نصف مليون دولار يومياً”، من صالات القمار والنوادي الليلية.

مافيات الاتجار بالبشر

المفوّضية العليا لحقوق الإنسان هي الأخرى لا تمتلك إحصاءات دقيقة حول عمليّات الاتجار بالبشر، وكل ما تعرفه هو وجود مافيات تعمل على الاتجار بالبشر وترويج تجارة الجنس “بشكل مخيف في البلاد”، وهذه المافيات تعمل على “استغلال النساء والأطفال لممارسة البغاء تحت عناوين كثيرة”، بحسب عضو مفوضية حقوق الانسان فاتن الحلفي.

كاتب التحقيق، وعبر وساطات ومصادر خاصة، تمكّن من لقاء أحد كبار العاملين في تجارة الجنس، والملقّب بـ الـBoss، الذي كشف “وجود أكثر من (80) منزلاً” للبغاء في بغداد، تعمل بشكل علني، معظمها في منطقة “الطوايل” غرب العاصمة، فيما هناك “أكثر من (170) وحدة تجارية معظمها مراكز للتدليك وكافيهات تستخدم لتجارة الجنس”.

وكشف الـBoss، عن “تشغيل أكثر من (1000) امرأة في مجال البغاء في بغداد وحدها، غالبيتهن من المحافظات”، فيما هناك أعداد أقل بكثير في بقيّة المحافظات.

أوائل عام 2013، تصاعدت حدّة الهجمات المسلّحة ضد النوادي الليلية ومحال بيع الخمور بشكل مكثف، فضلاً عن استهداف بعض دور البغاء في العاصمة بغداد من قبل مجموعات مسلّحة مجهولة.

مساء الثاني عشر من تموز/ يوليو 2014 وفي منطقة شقق “زيونة” شرق العاصمة بغداد تحديداً، فتحت مجموعة مسلّحة نيران أسلحتها الرشاشة على مجموعة من النساء والرجال داخل العمارتين رقم (43، 44)، حيث قتلت في الحادث 25 امرأة، فيما أصيب 10 آخرون نصفهم من الرجال، كانوا متواجدين داخل الشقق.

الملفت أن الحادثة وقعت على بعد أمتار قليلة من نقطة تفتيش “زيونة” التابعة للشرطة الاتحادية، وقد اكتفت وزارة الداخلية بحسب الناطق باسمها اللواء سعد معن بـ “احتجاز القوّة المسؤولة عن المجمع السكني على خلفية الحادث”.

هذا ولم تكن مجزرة الثاني عشر من تموز الأولى من نوعها في زيونة أو عموم بغداد، ففي 18 من أيار/ مايو 2014 اغتالت مجموعة مسلّحة 4 نساء في المنطقة ذاتها مستخدمة أسلحة كاتمة للصوت، فيما اغتالت مجموعة أخرى في 3 حزيران/ يونيو من العام ذاته 5 نساء في منطقة الكرادة ذات التحصينات الأمنية العالية، وسط العاصمة بغداد.

لكن الغريب في الأمر أن “الهجمات على النوادي الليلية وبيوت البغاء تراجعت بشكل مفاجئ وبنسبة 90 في المئة ما بعد 2015″، فيما بدأ نشاط تلك النوادي للعودة بشكل ملحوظ من دون أن يتعرّض لها أحد.

حيتان الفساد خلف الاتجار بالبشر

الأمينة العامّة لجمعية الأمل “هناء ادوارد” اتّهمت من سمّتهم “حيتان الفساد” بالوقوف وراء عمليّات الاتجار بالبشر، كاشفة عن “حماية بعض رجال السلطة لمراكز المساج والنوادي الليلية والترفيهية”، بينما أشارت عضو لجنة المرأة ريزان دلير إلى “تورّط مجاميع مسلحة بقضايا الاتجار بالبشر وإدارة شبكات البغاء وحمايتها”. فيما امتنع أكثر من خمسة مسؤولين حكوميين بينهم مستشار وزير الداخلية ورئيس الشرطة المجتمعية عن كشف أسماء الجهات التي تقف خلف عصابات الاتجار بالبشر، مكتفين بتسميتهم “العصابات”.

العقيد (خ. الشمري) أقرّ بصعوبة التعامل مع حالات الاتجار بالبشر لارتباط تلك العصابات بمنظومة فساد مالي كبيرة. لذا، فإن القبض على تلك العصابات “يحتاج إلى سلسلة مراجع، ودعم من كبار قادة الداخلية والأجهزة المساندة”.

في إحدى العمارات السكنية القريبة من المسرح الوطني وسط بغداد، تقطن “هبة” البصراوية نسبة إلى محافظة البصرة (549 كلم اقصى جنوب العاصمة بغداد).

ببشرتها داكنة السمرة وابتسامتها الساحرة وجسدها الممشوق، تجتذب هبة الزبائن خلال عملها في إحدى الكافيهات وسط بغداد، لكنها تقوم بكل ذلك تحت أنظار مشغّليها.

لم تمضِ سوى دقائق معدودة على لقائنا بـ”هبة” في أحد المكاتب الصحافية حتى انهارت باكية، اضطرّ بعدها كاتب التحقيق إلى إيقاف المقابلة لأكثر من عشر دقائق، قبل أن تعود إلى الحديث.

تنحدر “هبة” التي تبلغ 21 سنة من عائلة فقيرة، ويغلب الطابع الديني “المتشدّد” على شقيقها الوحيد الذي منعها من إكمال دراستها الجامعية بحجّة عدم الاختلاط بالجنس الآخر، في الوقت الذي منعها فيه من مغادرة المنزل إلا للضرورات برفقته أو مع أحد والديها.

“تعرّفت إلى أحدهم عبر فيسبوك، فأحببته”، تقول هبة. استمرت العلاقة عامين، حتى قرّرا لقاء بعضهما بعضاً مستغلّين وقت مغادرة أخيها إلى العمل. “لكن أخي علم باللقاء بعد أن أخبره جارنا بأني قابلت أحدهم عند ناصية باب الدار”.

اضطرت “هبة” إلى الهروب من المنزل “تلقّيت على مدى أسبوع كامل شتى أنواع العذاب على يد أخي”، فذهبت متّجهة إلى العاصمة بغداد من دون أن يكون لها أي ملجأ. “لم أستطع حتى الاتّصال بحبيبي، لعدم امتلاكي هاتفاً نقالاً بعد أن صادره أخي”، تقول هبة.

ومثل الضحية “اندومي”، تم استدراج هبة من قبل أحد سائقي الأجرة، والذي يعمل مع عصابات الاتجار بالبشر، “اصطحبني إلى منزله، الذي كانت تشاطره فيه زوجته وطفلاه، والذي لم يكن مريباً لي للوهلة الأولى”.

أحد ضباط استخبارات الداخلية في العاصمة، رفض الكشف عن اسمه، كشف لكاتب التحقيق عن انتشار عصابات الاتجار بالبشر عند مرآب بغداد الجنوبي والشمالي، لتصطاد هناك النساء والفتيات الهاربات من المحافظات باتجاه العاصمة.

بعد أربعة أيام فقط من وصولها إلى المنزل، غطّت هبة بنوم عميق بعد شربها كأس عصير برتقال، لتُفاجأ صباحاً بشريط فيديو يظهرها وهي عارية بين أحضان صاحب المنزل.

“باعني بـ3000 دولار بعد تهديدي بنشر الفيديو وتسليمي لأهلي بعد أن علم أنني من أهالي البصرة في حال لم أرضخ لأوامره”، تقول هبة، فـ “وافقت”.

اشترى أحد مديري بيوت البغاء هبة، لكنه لم يكن يعلم أن تلك الفتاة على رغم كل الظروف التي مرّت بها ماز الت قوية. “رفضت أن أمارس الجنس وحاولت الهرب من الشقة التي وضعوني فيها… فقيّدوني واغتصبوني”، بعدها قاموا بتعذيبها حدّ الإغماء.

بعد أشهر بيعت هبة مرّة أخرى إلى مجموعة أخرى، طمعاً ببنيتها الجسمانية التي تمكّنها من العمل إضافة إلى ممارسة الجنس. “تم تشغيلي في أحد المقاهي نهاراً وإرغامي على ممارسة الجنس ضمن خدمة التوصيل المجاني “الدلفري” ليلاً”.

كيف تمّ استقطاب زينة؟

في أحد أزقّة منطقة الكرادة، رُمّمت إحدى الدور السكنية القديمة، لتُعلّق على بوّابتها يافطة لإحدى شركات “التنظيف”، لكن الشركة انتقلت بعد أشهر قليلة إلى مكان آخر من المدينة، وهي تستبدل موقعها بشكل مستمر كل 8 أشهر.

زينة (34 سنة) كانت من أول العاملين في شركة التنظيف، إذ تم استقطابها، على أساس العمل كمنظفة منازل عند الحاجة، لكنها تفاجأت بعد أسابيع قليلة حين عُرض عليها تقديم “خدمات إضافية” لبعض الزبائن لدى زيارة منازلهم.

وافقت زينة، بحسب قولها، مضطرّة بسبب ظروفها المادية الصعبة ولتأمين إيجار شقّتها وقوت أطفالها الثلاثة، بعد أن فقدت زوجها في أحد تفجيرات العاصمة بغداد منذ 4 سنوات.

تقول زينة إنه يتم نقلها بواسطة خدمة التوصيل إلى منزل الزبون بحجة التنظيف “إلا أنني أقدّم للزبون الجنس لقاء أموال يدفعها للشركة عن طريقي”. فيما تحصل زينة، بحسب قولها، على “البقشيش” من كل زبون.

وهذا ما كشف عنه مجلس القضاء الأعلى خلال تقرير له نشر في حزيران 2016 في صحيفة القضاء الصادرة عنه، أعلن فيه عن إلقاء القبض على شبكة للاتجار بالبشر توفّر خدمة جديدة للزبائن والمعروفة بـ”التوصيل المجاني”.

مديرة هيئة رعاية الطفولة في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية عبير الجلبي، أكدت تغير الإجراءات الحكومية تجاه ضحايا الاتجار من النساء بشكل ملحوظ، كاشفة عن فتح دار رعاية حكومية خاصة بضحايا الاستغلال الجنسي والاتجار بالبشر المعروفة بـ”البيت الآمن”.

وفي السادس من أيلول/ سبتمبر 2017 صوّت مجلس الوزراء خلال جلسة عقدها برئاسة حيدر العبادي على مشروع رعاية ضحايا الاتجار بالبشر.

تقول الجلبي إن اللجنة العليا المكلفة بمكافحة الاتجار بالبشر تشرف وبشكلٍ مباشر على دار إيواء ضحايا الاتجار الذي افتتح في العاصمة بغداد، والتي تُعد أول دار من نوعها في البلاد، مبينة أن الدار التي افتتحت في كانون الاول/ ديسمبر 2017 أوت منذ افتتاحها حالتين من ضحايا الاتجار بالبشر، وهما اللتان تمّت إحالتهما إلى الدار بأمر قضائي.

وأوضحت الجلبي أن “الدار توفّر ملاذاً آمناً لضحايا الاتجار بالبشر خصوصاً من النساء، وإعادة تأهيلهنّ وفق برامج خاصة تتضمّن التأهيل النفسي ومعالجة الأضرار الجسدية التي تسبّب بها خضوعهنّ للاستغلال الجنسي، فضلاً عن تعليمهنّ بعض المهن والمهارات مثل الخياطة بهدف إعادة دمجهنّ بالمجتمع”.

تبسّمت إندومي عندما أخبرناها عن “المنزل الآمن” الحكومي، وبعد لحظة، شاحت بنظرها إلى سقف الكافيه، قاطعة ابتسامتها بإيماءة خوف ارتسمت على وجهها… توقّفت هنيهة، ثم قالت وهي تغادر مقعدها “لا أعلم متى سأتخلص من هذا الكابوس، لكن يوماً ما سأتمكّن من الهروب بعيداً”.

يتحفّظ كاتب التحقيق عن ذكر الأسماء الحقيقة ومكان وجود المتحدّثات في التحقيق، كما يتحفّظ عن ذكر أسماء بعض ضباط وزارة الداخلية بطلب منهم.

عن شفق نيوز

فريق عمل “نيريج”

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com