رأي

هل تفلح انتفاضة الكهرباء في العراق

في تعديل مسار العملية السياسية أم ستؤدي إلى مزيد من الفوضى؟

د. عبد الحسين شعبان

شهد النصف الأول من شهر يوليو (تموز) 2018 تظاهرات احتجاجية في محافظة البصرة تطالب بتوفير الكهرباء، خصوصاً بارتفاع درجة الحرارة التي تقارب الخمسين درجة مئوية، وسرعان ما اتّسعت دائرة السخط والغضب لتشمل العديد من المحافظات في الجنوب والفرات الأوسط بسبب تفاقم الأوضاع المزرية وتدهور قطاع الخدمات والأهم من كل ذلك هو انقطاع الكهرباء المتكرر ولساعات طويلة، يضاف إلى ذلك شحّ الماء الصالح للشرب، ناهيك عن البطالة المرتفعة والمتعاظمة التي يعاني منها الشباب، الأمر الذي عاظم من السخط الشعبي، خصوصاً في ظلّ استشراء حالة الفساد المالي والإداري ونهب ثروات البلاد وتبديد المال العام.

وقد وقع جراء حركة الاحتجاج، ولاسيّما بالصدامات مع المتظاهرين العديد من الضحايا، بينهم عدد من أفراد الأجهزة الأمنية وقوات الشرطة، وقد فارق الحياة نحو 15 مواطناً.

وعلى الرغم من مرور 15 عاماً على الإطاحة بالنظام السابق بفعل الاحتلال الأمريكي  للعراق العام 2003، فإن النظام الجديد ورغم الوعود بالإصلاح ، بما فيها وعود رئيس الوزراء الحالي، حيدر العبادي لم يحقق منجزاً على هذا الصعيد، ولاسيّما في محاربة الفساد ومحاسبة المُفسدين والمقصّرين والذين ساهموا في نهب وتبديد المال العام، ولهذه الأسباب جميعها وأسباب أخرى فقد طفح الكيل كما يقال وتراكمت المشاكل، لدرجة يمكن القول أنها وصلت إلى طريق مسدود، ولم يعد السكوت أو القبول بما هو قائم ممكناً، خصوصاً وإن مستلزمات أبسط الحقوق ظلّت بعيدة المنال، ونقصد به ذلك الكهرباء والماء الصالح للشرب والخدمات الطبية الضرورية والخدمات التعليمية المواكبة لروح العصر.

ولعل الظاهرة الجديدة والمتجددة إن حركة الاحتجاج الواسعة تجري في محافظات الجنوب ومحافظات الفرات الأوسط، حيث تهيمن أحزاب الشيعية السياسية التي قسم غير قليل منها موالٍ لإيران دون أن يخفي ذلك، وهذا يعني حدوث صراع وتنافس بينها، وهو التنافس الذي يعتبر امتداداً للتنافس الانتخابي، الذي لم تحسمه نتائج الانتخابات التي تم الطعن والتشكيك بنزاهتها وصدقيتها، وقد اضطّر البرلمان إلى إصدار قرار قبل انتهاء مدّة عمله المقررة حسب الدستور يقضي بموجبه عزل المفوضية العليا للانتخابات وتعيين 9 قضاة ليحلّوا محلها، وإجراء عملية العد والفرز اليدوي، التي هي الأخرى شككت بنتائجها سلفاً بعض القوى، ولاسيّما في السليمانية وكركوك، وقالت قوى أخرى، إنه تم التلاعب سلفاً بالصناديق بما سيؤثر على النتائج المحتملة، بحيث ستكون الفوارق قليلة بين النتائج الأولى والنتائج الثانية.

وبهذا المعنى فإن التنافس الانتخابي وألغامه امتدت إلى الاحتجاج الشعبي بين أحزاب الشيعية السياسية، التي يريد بعضها استثماره لأهداف سياسية ضيّقة، في حين تتهمه قوى أخرى من داخل العملية السياسية بالتخريب لما لحق بعض المنشآت من تدمير إلى وجود بعض المندسين، ويبدو إن مثل هذا التنافس المشروع وغير المشروع يضع في حسابه المنصب الأول والمقصود به رئاسة مجلس الوزراء الذي يسيل له لعاب الجميع، وتشعر بعض الأطراف بأحقيتها في الحصول عليه بعد أن استحوذ عليه حزب الدعوة الإسلامية منذ العام 2006 ولثلاث دورات انتخابية، ويتنافس تحت هذا العنوان جماعة السيد مقتدى الصدر وكتلته سائرون، مع كتلة هادي العامري المسؤول الأول عن الحشد الشيعي، وفي الوقت نفسه فهو زعيم منظمة بدر، التي كانت منظمة شبه عسكرية، ثم تحوّلت إلى حركة سياسية بُعيد انفصالها عن المجلس الإسلامي الأعلى الذي كان يقوده عمّار الحكيم بعد والده عبد العزيز وقبل ذلك عمّه السيد باقر الحكيم والذي تأسس في إيران العام 1982، وساهم بمعارك ضد الجيش العراقي ولصالح إيران خلال الحرب العراقية – الإيرانية، وقام بعمليات عسكرية ضد حكومة الرئيس السابق صدام حسين وكان جزءًا من المعارضة العراقية في حينها.

وإذا كانت الهبّة الجماهيرية والحركة الاحتجاجية قد تبلورت على نحو واضح منذ تموز/ يوليو العام 2015، فقد ساهمت عوامل عديدة فيها ، منها انخفاض أسعار النفط ونتائجه على اشتداد الأزمة المالية والصعوبات الكبيرة التي أعقبتها، خصوصاً وقد ترافقت تلك مع تعاظم الإرهاب والعنف في العراق، ولاسيّما بعد احتلال داعش لمحافظة الموصل (10 يونيو/حزيران/2014) وتمدّده ليشمل نحو ثلث الأراضي العراقية، فإن الهبّة الجديدة تأتي بعد إعلان هزيمة داعش العسكرية (أواخر العام الماضي 2017)، كما تأتي بعد انتهاء أزمة الاستفتاء الكردي (25 سبتمبر/أيلول/2017) وتداعياتها اللاحقة، المطار والمنافذ الحدودية وبسط هيمنة الحكومة الاتحادية على محافظة كركوك، ولاسيّما منابع النفط وخطوطه، كما تأتي هذه الأزمة الجديدة والتي يطلق عليها ” انتفاضة الكهرباء” بعد نحو شهرين من إجراء الانتخابات النيابية الرابعة (12 مايو/أيار)، وتصويت المحافظات الجنوبية لصالح أحزاب الشيعية السياسية، التي دخلت في صراع بين بعضها البعض، بما فيها من انحاز لصالح حركة الاحتجاج والآخر تحفظ عليها، بل وحاول التشكيك فيها مباشرة أو بصورة غير مباشرة .

وكان السبب المباشر لاندلاع الانتفاضة هو امتناع إيران عن تزويد العراق بالكهرباء حسب عقود مبرمة بين البلدين، وبرّرت ذلك الإجراء بعدم دفع العراق مستحقاته والإيفاء بالتزاماته المالية، واعترفت الحكومة العراقية بتأخرها في ذلك.

وأياً كانت الأسباب والمبرّرات المباشرة وغير المباشرة فإن الأحداث أكّدت ما لا يدع مجالاً للشك، ولاسيّما بعد تجربة عقد ونصف من الزمان، غياب أية شرعية للإنجاز من جانب الطبقة السياسية الحاكمة، لأن الانتخابات لوحدها لا تمنح الحاكم شرعية استمراره في السلطة، وخصوصاً في ظل غياب الأمن والأمان وعدم القدرة على حفظ أرواح وممتلكات الناس والأمن العام وتلك وظيفة أساسية للدولة، وبدونها ستفقد ” شرعيتها” في كونها دولة، كما أن من واجب الدولة، أية دولة، سواء كانت دولة حماية أم دولة رعاية توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية للناس، ولا يمكن لحاكم ما البقاء في السلطة مهما طال أمد حكمه أم قصر، لأن رضا المحكوم هو من يضفي على الحكم شرعيته.

وأكّدت الأحداث الاحتجاجية عدم قدرة وإمكانية الطبقة السياسية الحاكمة على تجاوز الأزمة المركبة التي تعاني منها الدولة العراقية، وهي أزمة عضوية وبنيوية على جميع المستويات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والتربوية والأخلاقية، بحيث تحوّل العراق إلى دولة فاشلة تتحكم فيها القوى الإقليمية والدولية، ويمكن القول أنه أصبح بفعل الاحتلال الأمريكي والتوغل الإيراني خاضعاً ومقسماً بينهما بفعل عوامل عديدة جيوسياسية وعسكرية ، ناهيك عن عدم خبرة الطبقة السياسية ، خصوصاً عدم معرفتها بشؤون الدولة، يضاف إلى ذلك فسادها وعلى أقل تقدير ضعف صدقيتها وتقديمها ما هو ذاتي ومصلحي على حساب ما هو عام ووطني.

لقد تعمقت المشاكل والإشكاليات التي عانت منها الدولة منذ الاحتلال الأمريكي العام 2003 وذلك بفعل نظام المحاصصة الطائفية- الإثنية الذي يقوم على الغنائمية المستندة إلى الزبائنية والاستزلام ، وبطبيعة الحال حاول نظام المحاصصة التغطية على الفساد المستشري في جميع مرافق الدولة وأجهزتها، حيث تمكن العديد من الفاسدين الإفلات من العقاب، وحتى الآن فإن لدى مفوضية النزاهة أكثر من 1000 (الف) شخص متهمون بالفساد، بينهم نحو 15 وزيراً، إضافة إلى وكلاء وزراء ومدراء عامون ونوائبهم، ومستشارون وأصحاب الدرجات الخاصة، وكان بعضهم قد فرّ إلى الخارج، كما أن بعضهم الآخر يحمل جواز سفر آخر.

وقد أكّدت الأحداث على استمرار وتفاقم ظاهرة العنف والإرهاب على الرغم من الهزيمة العسكرية التي لحقت بداعش، لكن نفوذه ما يزال قائماً ما لم يتم تصفية جذوره الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وردم قنواته المالية وتجفيف ينابيعها، لاسيّما بتفكيك البيئة الحاضنة له، فالهزيمة العسكرية للإرهاب وداعش لن تقضي عليه، إذا لم يصاحبها عمل مركب وطويل الأمد ووحدة وطنية ومصالحة ومعالجات اقتصادية واجتماعية وثقافية، ولاسيّما إيجاد فرص عمل للشباب والخريجين بشكل خاص.

وحتى الآن فإن الخلايا النائمة والذئاب المنفردة يمكن أن تتحرك إذا لم يتم وضع حد للأسباب التي أدت إلى إنتاج داعش وتصديره، ناهيك عن التمييز والتهميش السائد، الذي يمكن أن يشكل أرضية لاحتضانه أو تفقيس بيضه من جديد. ودليلي على ذلك إن ما حصل قبل اندلاع انتفاضة الكهرباء بعدة أيام من اختطاف وقتل للعديد من الأبرياء في الأنبار وكربلاء خير دليل على ذلك.

والقضاء على الإرهاب يتطلب معالجة أسباب التعصّب وهذا الأخير هو الذي يقود إلى التطرّف ، وإذا كان الأول مجرد تفكير فالثاني سيعني سلوكاً، وهذا السلوك إذا انتقل إلى الفعل والتنفيذ سيكون عنفاً، والعنف يستهدف الضحية بعينها، في حين إن الإرهاب يضرب عشوائياً، وهدفه خلق نوع من الرعب في المجتمع وإضعاف الثقة بالدولة وإحداث نوع من الفزع والهلع الذي يمكن أن يصيب السكان، وقد يؤدي إلى فتنة بفعل انتشار السلاح والرغبة في الهيمنة والحصول على المكاسب على حساب الآخر. وهو ما قد يزيد من الفوضى التي قد تكون إدارتها حافظت على التوازن حتى الآن، بما يؤدي إلى المزيد من الانفلات في المستقبل.

إن تخبط العملية السياسية، بل فشلها يعود إلى عدم امتلاك أي من الأحزاب الحاكمة وحتى معارضتها المشاركة معها أو من خارجها أية برامج سياسية أو رؤى وتحليلات تمثل الحد الأدنى، وكان غياب الاستراتيجيات واللهاث وراء المصالح الخاصة والمذهبية والإثنية قد جعل الدولة سائبة ويحاول كل طرف أو حتى شخص سرقتها، بما تملكه من مغريات مالية وضعف أو انعدام الرقابة وغياب حكم القانون، فضلاً عن ضعف أجهزة الدولة وغياب الوحدة الوطنية ، فلم تعد الطبقة السياسية تكترث أو تخاف أو تخشى أو تحاذر من ازدراء مطالب الناس والحركة الاحتجاجية، ولاسيّما منذ العام 2011 وحتى الآن، وأخذت تستهين بالمطالب المشروعة والعادلة للمتظاهرين، لاسيّما وهي تشعر أنها فوق سلطة النقد، ناهيك عن عدم إمكانية التغيير بفعل التعقيدات الدستورية ونظام الانتخابات.

ومفترق الطرق هذا إمّا أن يفضي إلى المزيد من تفتيت الدولة وهزالها ويزيد من حجم التدخّلات  الإقليمية والدولية، وخصوصاً في ظلّ وجود الميليشيات  المسلحة وانتشار السلاح وضعف الولاء الوطني، أو يمكن أن يؤدي إلى إعادة النظر ببعض أو كل العملية السياسية القائمة على المحاصصة، ولكي يحصل مثل هذا التطور فلا بدّ من منعطف يحقق الوحدة الوطنية بإرادة المحتجين وتحت ضغط الإصرار الشعبي، وقد تمرّ البلاد بمرحلة انتقالية قد تطول وقد تقصر على الرغم من الظروف العصيبة، وقد تحتاج إلى مساعدة من جانب المجتمع الدولي لإعادة ترتيب أوراقها ، لكن ذلك مرهون بتطور حركة الاحتجاج أولاً وأخيراً.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com