مقالات

عودة إلى أزمنة “مهدي عامل” الرائع

عذري مازغ

حاولت أكثر من مرة أن اكتب نصا حول مهدي عامل ولم أفلح بسبب هو في بنية تفكريه هو ذاته، المشكل المطروح وبجدارة في نصوصه هي نفسها بنيتها التفكيكية، كيف تفكك نصا هو في بنيته الفكرية هو تفكيك مكثف لموضوع ما يناقشه مهدي عامل؟، وغالبا ما تكتب نصا حول موضوع يطرحه، وحين تعاود قراءته تجد النص الذي كتبت لا يفي باستعاب فكر مهدي عامل، محاولات الشرح او التبسيط لنصوصه غالبا ما تكون خروجا عن فهم تلك النصوص فهما صحيحا، أو على الأقل تجد فيها نوعا من الإضطراب لا ينسجم مع السياق العام الذي تاخذه نصوصه، في كتابه “مقدمات نظرية لدراسة اثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني” في الجزء الاول منه، يطرح مهدي عامل مجموعة من النصوص حول مفاهيم يحددها عمليا كمفتاح لفهم نصوصه، وعند الإنتهاء منها يطرح محاولة جريئة لفهم التاريخ في بلدان يسودها نمط الإنتاج الكولونيالي.

يحاول بها اختبار دقة مفاهيمه وهو الجزء الثاني من كتابه، في هذا الجزء نفسه سيجد نفسه مضطر لكتابة الجزء الثالث الذي هو في “التمرحل التاريخي”، وأكيد وهو نفسه يعي تماما ذلك ويفصحه أكثر من مرة أنه كلما واجه او اقتحم موضوعة ما وجد نفسه مضطرا أن يتناول ما هي عليه تتفتح هذه الموضوعة من إشكاليات لم تكن مطروحة عنده قبل ، وهو لذلك كثير ما يؤكد أن الواقع عنيد على الفكر النظري بشكل يدفع اكثر ودوما للمغامرة والإستكشاف، وهو على هذا الأساس بنى منهجه التحليلي بشكل يتفتح الواقع على الواقع الجديد بشكل مستمر في علاقة سيرورة تاريخية الأساس فيها هو إنتاج متواصل للمفاهيم النظرية التي تقبض على الواقع المادي لحركة التاريخ، إذن يبقى المفتاح الاول في فهم نظريات مهدي عامل هو قراءة لمفاهيمه التي يستعملها والتي حددها في الجزء الأول “في التناقض” ومن ثم يمكننا أن نفهم حركة فكر مهدي عامل المعاندة هي الأخرى في اقتحامه الموضوعات التي تفاجيء فكره ومن ثمة سنفهم كيف ينتقل من وضع نظري خاص مثلا بالبنية الإجتماعية إلى وضع نظري خاص لأساسها المادي بشكل يبدو كما لو كان في تناقض، بينما هو في الحقيقة يكتشف شكلا خاص للوضع المادي لبنية اجتماعية ما يتفاوت عمليا مع شكلها الذي تظهر فيه للواقع الإجتماعي العام.

 سنرى هذا التحول عند مهدي عامل في نموذج خاص حول ازمنة البنية الإجتماعية حيث في التناقض” يناقش مهدي عامل هذه الأزمنة في إطار البنية الاجتماعية في علاقاتها بالمستوياتها البنيوية الأخرى ، المستوى الإقتصادي والسياسي والأيديولوجي بينما في كتابه في “التمرحل” يعود ليناقش الأزمنة البنيوية هذه في إطار بنية نمط الأنتاج باعتبارها البنية المحددة للبنية الإجتماعية وباعتبارها أيضا تمثل الشكل المادي لتمرحل التاريخ ، وهنا سيلمس أمورا كانت ملامستها في التناقض جردا نظريا متطيرا من بنيته المادية من منطلق أن مستويات البنية الإجتماعية تناقش وضعا أو أوضاعا نظرية محضة، لكن لا يعني الأمر أنها تفتقد كنهها، فبمجرد ما نعرف أن التناقض السياسي هو المسيطر والذي يعود إليه الفضل في ركون زمن معين أو تحوله وأن المظهر الأيديولوجي والإقتصادي هو دوما اثر هذا الدور الذي للسياسي.. فإن مهدي عامل حين عودته لطرح البنية الزمانية في مخطوطته الرائعة في “التمرحل” يضع ما يمكن أن نعتبره رسم بياني لما كان يناقشه في جزء “التناقض” .. لقد حاولت سابقا أن أختصر موضوعته في أزمنة البنية الإجتماعية (واعترف مسبقا أن اختصار موضوعته هذه في مقالة مضر بكثافة تفكيكه هو لها إذ لا يمكن تفكيك ماهو مفكك بشكل مكثف) .

فأن طرحه نفس الازمنة على مستوى نمط الإنتاج أمر رائع جدا ويظهر بجلاء لماذا هو يسمي بأن الزمان هو زمان بنيوي وليس كما يبدو للعقل البسيط زمان خطي مستقيم في الأمور تتتابع بشكل سلس ورائع كما تستصيغه عقولنا المرحة.

يرى مهدي عامل أن نمط الإنتاج نفسه في تحديده يخضع لنفس الترتيب الزماني الذي للبنية الإجتماعية فهو في زمن التكون غيره في زمن االتجدد غيره في زمن التحول ليجيب على التناقضات التي يسقط فيها الفكر التجريبي والفكر المثالي بشكل عام، حين يسقط في التحليل الإقتصادوي لبنية اجتماعية معينة (وهنا يقصد مهدي عامل عينة كبيرة من اليسارويين ) أو يسقط في السببية المغرضة أو التماثل أو “النموذج” التي تطرق لها مهدي في كل كتاباته نقدا للفكر البرجوازي العربي بالتحديد.

إن تمرحل التاريخ وحركيته تعود لحركة التنقل من نمط إنتاج إلى آخر، إن هذا التنقل نفسه يمر بمراحل زمانية، هي كما في البنية الإجتماعية نفسها ، زمان التكون ثم زمان التجدد ثم زمان التحول، فزمان تكون نمط جديد من الإنتاج ينتمي إلى نمط الإنتاج السابق عليه بمعنى لا ينتمي لذاته، وفي نفس الوقت هما معا في إطار زمن التجدد للنمط الإقطاعي(أو زمان التطور) ماذا يريد مهدي عامل أن يقوله بهذا الخصوص؟، يريد ان يقول بأن زمان تكون الرأسمالية مثلا ينتمي إلى نمط الإنتاج الإقطاعي وليس إلى نمط الإنتاج الرأسمالي وهو في نفس الوقت يمثل زمان تحول نمط الإنتاج الإقطاعي إلى الرأسمالي، وعملية تكون أو تحول هذين الزمنين تتم في إطار علاقات إعادة إنتاج علاقات الإنتاج للنمط الإقطاعي، هذا بالتحديد ما يقصده مهدي عامل حين يقول:” زمان نمط الإنتاج الواحد ليس واحدا متماثلا بل هو بنية زمانية تترابط في حركتها أزمنة مختلفة…”

(1) وهو لذلك حين يتكلم عن الزمن لا يتكلم عن زمان واحد بل بنية ازمنة، إلا أن علاقات السيطرة لهذه الازمنة تتحدد من خلال علاقات القوى الإنتاجية في البنية الإجتماعية، وهنا يعيدنا إلى سابق تحديده، إلى مفهومه الأول للزمان في الجزء الاول “التناقض” في موضوع “ازمنة البنية الإجتماعية” حيث تتمفصل حركة كل زمان من خلال علاقة تناقض مستويات البنية الإجتماعية، أي التناقض الإقتصادي والأيديولوجي والسياسي . فالأمر لا تناقض فيه أكثر مما هو تمفصل في عملية تحديد التحديد، فحركة نمط الإنتاج من خلال بنيته الزمانية هي ما يحدد لنا الأساس المادي لظهور قوى الإنتاج المتصارعة في بنية اجتماعية محددة وهي التي تفسر لنا بشكل علمي لماذا تتواجد قوى إنتاجية سابقة في نمط إنتاج محدد وهو ما يفسر لنا أيضا ظهور قوى أخرى جديدة هي وليدة حركة التطور نفسها (في زمان إعادة إنتاج لعلاقات الأنتاج أي في زمن تجدد وتطور نمط الغنتاج نفسه) للنمط الإنتاج المحدد.

نستنتج من هذا أن الزمان عند مهدي عامل هو زمان بنيوي (مركب من عدة أزمنة) وليس زمانا واحدا خطيا تتابع فيه الأشياء أو زمانا بسيطا , نستنتج أن مايبدو زمنا واحدا ظاهريا ليس في الحقيقة إلا بنية زمنية ، ففي زمان التجدد (أو زمان تطور النمط الإنتاجي الواحد) نجد انماطا أخرى سابقة على النمط المحدد تتكيف وفق تطور النمط السائد وانماطا تبدأ في التكون نتيجة لتطور نمط الإنتاج نفسه المحدد، نجد مثلا في النمط الإقطاعي نفسه أنماطا تنتمي إلى ما بعد الإقطاع يكيفها وفق تطوره وانماط تبدا في التكون كالنمط الرأسمالي، نتيجة لتطوره هو نفسه . وبالعملية نفسها، في نمط الإنتاج الرأسمالي، في زمن تجدده الذي هو أيضا زمن تطوره نجد انماطا سابقة عليه يكيفها وفقا لتطوره كالنمط الإقطاعي كما نجد انماطا في التكون كالنمط الإشتراكي هي نتيجة أيضا لتطوره هو وهذا أعتقد أيضا ما يقصده سمير أمين حين يحدد نمط كيان الإتحاد السوفياتي بأنه نمط رأسمالية الدولة، أي أن شكلا من الرأسمالية اتخذ شكل رأسمالية الدولة وليس رأسمالية الأفراد أو طبقة محددة..

نتيجة لهذا التركيب البنيوي عند مهدي عامل ندرك تماما لماذا عليه أن ينحو هذا المنحى من التحيديدات على مستوى صياغة مفاهيمه قبل الدخول في الممارسة النقدية لقطيع من الكتاب البرجوازيين ممن تناول نفس القضايا بمناهج مختلفة، فهو يريد بدئيا أن يقيم الإختلاف مع تلك المناهج من جهة ونقضها من جهة اخرى بشكل يطرح رؤيا تختلف في تفسير الأمور، تختلف مثلا في تفسير النموذج، التخلف، التقدم، مفهوم الحضارة، قراءة التراث و قراءة “العقل العربي”، ليصيغ في الأخير فهما جديدا للتحرر.
كثير من الكتاب يقولون مثلا بانهم توصلو إلى نفس الحقائق كما توصل إليها مهدي وإن بمناهج أخرى، فالتخلف مثلا قد يستوعبه بشكل ما أي شخص بنفس المقارنة التي يصيغها أي دكتور في علم الثرثرة وبنفس المعيار وبطرح نفس النموذج لكن طريقة طرحه وتحليله عند مهدي عامل تتيح وضوحا آخر غير وضوح عقل المعيار أو عقل المقارنة وما إلى ذلك، يتيح لنا ان أن نفهم مثلا لماذا شكل من نمط قديم في مجتمعاتنا لا زالت تسري دماؤه حية فينا، إنه ببساطة يتعرض لعملية تكيف مع الرأسمالية وتستعمله في تطورها، إن تخلفنا ضرورة أساسية لتطور الرأسمالية وليس لأمر خاص بعقلنا أو تطاحناتنا وما إلى ذلك، إن كل هذه الامور تغذي تطور الرأسمالية.


(1) مهدي عامل، في التمرحل التاريخي، ط: 2013، ص 37 دار الفارابي، بيروت
ملاحظة: اعتمدت نفس المرجع ونفس الفصل في التمرحل الذي بعنوان أزمنة البنية الإجتماعية ، ص: 38 من التمرحل

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com