مقالات

الفن المسرحي عند “تولستوي”

أ. زڤيريف و ڤ. تونيمانوف

ترجمة: د. تحسين رزاق عزيز

 

عندما نتأمل في الفن المسرح الروسي في القرن التاسع عشر بالكاد يخطر في بالنا أن نذكر ليف نيكولايفيتش تولستوي في عداد الكتاب المسرحين الروس البارزين , إن هذا الروائي العبقري والفيلسوف ومؤسس المذهب الخاص به لم يَدَّعِ أبداً انه كاتب مسرحي.

وهنا سرعان ما تبرز مفارقه : فالإنسان الذي رفض الفن المسرحي والذي تعامل بنوع من الازدراء مع شروط المسرح، مع هذا أسس مفهوم “مسرح تولستوي” , إضافة إلى أن مساهمته لم تكن بالكمية بل بالنوعية الفريدة لمسرحياته التي هي من روائع الفن المسرحي العالمي , وهذا التفرد صاغه تولستوي نفسه في التسعينات من القرن التاسع عش : “لكي نحدد الفن بدقة لابد لنا قبل كل شي أن نكف عن النظر إليه كوسيلة للمتعة بل يجب التعامل معه بوصفه احد الشروط اللازمة لحياة الإنسان , وإذا تمعَّنّا بالفن لابد أن نرى انه هو احد وسائل تواصل الناس فيما بينهم”.

عندما فهم تولستوي في تعريف “الفن” على انه يمثل الأدب والموسيقى والفنون التشكيلية والمسرح  فانه بذلك وحَّدَها في درس أخلاقي : جميعها لها الحق عندما تساعد على “إظهار الحقيقة وقولها عن الروح البشرية”، لأن هذه الحقيقة وحدها تسمح باختبار الشعور الثمين للوحدة لدى الناس- القراء والمستمعين والمتفرجين.

وينبثق من وجهة النظر هذه بطبيعة الحال احد استنتاجات ليف نيكولايفتش الفلسفية الرئيسية : يمكن أن يقتصر إطلاق تسمية نتاجات فنية على تلك الروايات والملاحم والمسرحيات وما إلى ذلك التي تساعد على التكامل الأخلاقي للشخص، وهذا يعني التكامل الأخلاقي للإنسانية جمعاء , ويعني انها يجب أن تكون موجهة ليس لفئة ثقافية ضيقة من الجمهور بل اسع من ذلك بكثير – أي للشعب كله.

حَسِبَ تولستوي “شروط الفن شيئاً جديداً” ونظرة الكاتب هذه للفن كانت جديدة حقاً خاصة إذا ما ألحقناها بالفن المسرحي : الذي يثير الناس ويشحنهم ويوحدهم في فضاء الصدمة الحسية الموحدة , فمن هو القادر على اختبار الإحساس هذا بالاتحاد في أقصى درجاته ؟ وبطبيعة الحال لا “الصالة” ولا “المقصورات” ولا  ممثلو الطبقة المثقفة، بل “المقاعد العليا في المسرح” (الرخيصة)، الشعب، الناس البسطاء وفي الأعم الأغلب الأفراد الذين لم ينالوا حظهم الكافي من التعليم ذوي المشاعر الساذجة وأحياناً الأحاسيس غير المتبلورة لكن التواقين حقاً للتنوير وللتكامل الأخلاقي والكمال الديني.

تذكر ي .أ. بولياكوفا هذه الميزة للجمال المسرحي عند تولستوي بشكل دقيق في دراستها التي تحمل عنوان “مسرح ليف تولستوي” : “لما كان تولستوي مقتنعاً بأنه يؤسس مسرحاً دينياً فقد أسس مسرحاً إستيتيكياً، مسرحاً ذا أهمية اجتماعية وأخلاقية كبيرة موجهاً ليس لفئات المجتمع “العليا” المحدودة، بل للشعب كله”.

إن الصيغة الدرامية بالذات تقدم نطاقاً مماثلاً لهذا يتوجه تولستوي من وقت محدد إليها مع كل تناقضات وجهات نظره إلى المسرح , ومعروفة قسوة أحكام ليف تولستوي على مسرحيات شكسبير التراجيدية وعلى مسرحيات أنطون تشيخوف المعاصرة له ومع ذلك فإنه لا يتناول المسرح  بوصفه شكلاً من أشكال العرض التي تمليها الحياة , إن تولستوي يختار هذا الشكل بالذات عن وعي عندما يلتزم بالتعبير عن الفكر الأخلاقي العميق ويطرح  دوراً فريداً خاصاً للفن المسرحي الذي، ربما، لم يشعر به احد قبل تولستوي بهذا الشكل من التمام والتفرد.

ربما لهذا السبب دخل ارث ليف نيكولايفيتش تولستوي المسرحي في تاريخ المسرح العالمي في واقع الحال بمسرحية واحدة هي “الجثة الحية” وفي تاريخ المسرح الروسي بثلاث مسرحيات هي “الجثة الحية” و”سلطان الظلام” و”ثمار التنوير”, إن مسرحيات تولستوي المبكرة وكذلك المتأخرة (“أول من صنع الخمر” و “بيوتر الخباز” و” والنور يسطع في الظلام”، “المستطرق والفلاح” و”كل الفضائل تأتي منها”) ليس لها تاريخ على خشبة المسرح  إلا بعض الاستثناءات المحدودة وربما لم تعرف أبداً النجاح  الذي هو احد قوانين المسرح المهمة جداً.

و إذا ما تمعَّنا جيداً فإن هذا المعيار الذي هو خارجي تماماً من وجهة النظر الفلسفية لكنه مهم من وجهة نظر الجماليات المسرحية، كان يهدف بالذات إلى إظهار المهمة الداخلية  لتولستوي الكاتب المسرحي بشكل كامل الذي صاغها في رسالته (بحثه) التي تحمل عنوان “ملكوت الله في داخلك” : “إن الحاسم لكل شيء والقوة الأساسية  التي حركت الأفراد والشعوب وتحركهم كانت دائماً وتظل إلى الأبد قوة واحدة غير مرئية وغير مدْرَكة ناتجة عن القوى الروحية كلها المعروفة لجميع الناس وللإنسانية كلها، التي يعبِّر عنها الرأي العام” , وليس من قبيل المصادفة أن في رسائل تولستوي ومذكراته في الأوقات التي توجه بها إلى الفن المسرحي تصادفنا كلمة “نجاح” فالنجاح كان ضروري  له بوصفه تعبيراً عن الرأي العام.

يشير غ. غالغان بحق في مقال له بعنوان “قضية الرأي العام في ارث ليف تولستوي” إلى أن الكاتب كان يفهم دائماً الرأي العام على انه مجموع التصورات المتجانسة عن الحقيقة: الصادق يجمع الناس والكاذب يفرقهم , واعتقد اننا يمكن أن نفترض أن تولستوي عدَّ المسرح مكاناً لتشكيل هذا الرأي العام، الذي تظهر فيه الحقيقة بمعناها الموحد والصادق , وهكذا يفهم الكاتب دور الفن المسرحي، دوراً تربوياً وواحداً من أهم وسائل “التواصل بين الناس”.

هذا بالذات ما لم يجده تولستوي في المسرح المعاصر له , لم يكن النجاح بالنسبة له معياراً أبداً، وفي هذا مفارقة إذ يكمن هنا جانباَ القوة والضعف عند تولستوي الكاتب المسرحي في وقت واحد.

تَعَرَّفَ ليفوشكا ( تصغير اسم ليف – م ) تولستوي على المسرح مبكراً جداً في ذلك الوقت فقد كان عمره تسع سنوات عندما جاءت عائلته من ياسنيا بوليانا إلى موسكو وتوجهت إلى مسرح البولشوي , وكانت هذه أول خيبة أمل له , “انظروا يا أطفال، أين هي خشبة المسرح، قالت الأم وهي تشير إلى احد الجوانب , نظر الأطفال إليه ولم يعجبهم …” ومن يعرف، ربما تولدت عند تولستوي منذ ذلك الوقت النظرة إلى المسرح الموسيقي (الأوبرا والبالية) بوصفه شيئاً حياتياً غير طبيعي وغريباً على بساطة الحياة ؟ إن اشتراط المضامين والشخصيات والطبيعة الإشارية للباليه دفعت الكاتب نحو السيكولوجية المعقدة للعلاقات الإنسانية.

وكانت علاقة الكاتب بالمسرح الدرامي مختلفة رغم أن تولستوي، إذا حكمنا من خلال يومياته ومذكرات القريبين منه، لم يكن أبداً من مرتادي المسرح المتعطشين , وربما استطاع أن يتذوق الانطباع الحاد من التواصل مع الفن الحقيقي ومع فنان كبير (كما حدث عندما رأى ليف نيكولايفتش الممثل شيبكين في دور حاكم المدينة في مسرحية “المفتش” لكن لا يحتمل انه مال لتكرار هذه الصدمة أو حتى بحث انطباع مماثل في مسرحيات أخرى).

معروف أن تولستوي وقَّع سوية مع أدباء آخرين من بطرسبورغ تحية ( ترحيباً ) لشيبكين بمناسبة عيد ميلاده الخمسين , ويُعتقد أن توقيع ليف نيكولايفيتش يكاد يعود بالدرجة الأولى إلى الكلمات التي توضح تفكير تولستوي بالدور التربوي للمسرح : “كيف نُجْمِل كم من الحركات المفرحة أثارها الفنان وكم من المشاعر الحاضرة إلى الأبد أثارها من الخمول وأنعشها ؟ إنها خدمة ومأثرة  غير مرئية وغير مدروسة لكنها عظيمة , والتعاطف العام هو الجائزة عليها وهو أفضل جائزة يمكن أن يتمناها الإنسان.

إضافة إلى شيبكين الذي كان تولستوي على علاقة جيدة به إلى درجة انه كان يزوره في منزله، فقد قيّم ليف نيكولايفيتش عالياً الفنان مارتينوف الذي رآه في شبابه في كازان عندما مثّل دور خليستيكوف (في مسرحية غوغول “المفتش” – م) , وشهد أ.أ. ستافوفيتش أن مارتينوف خليستيكوف قد بهر  الطالب تولستوي إلى درجة أن “ليف نيكولايفيتش يضع مارتينوف (الذي شاهده فيما بعد في بطرسبورغ في ادوار درامية) بالمرتبة الأولى من بين جميع الفنانين الذين شاهدهم سابقاً في الأوقات كلها”.

هز تولستوي أداء موتشالوف وثمّن تمثيل سامارين وكان من أوائل الذين لاحظوا عبقرية غوربونوف الكبيرة , وكان بالفعل عاشقاً لمسرحيات أ.ن.أوستروفسكي , وعدَّ ليف نيكولايفتش مسرحية “المكان الروحي” مثالاً للكوميديا الفاضحة الحديثة , وتجدر الإشارة إلى أن أوستروفسكي كان من القلائل الذين يتبسط معهم تولستوي بالحديث ويخاطبهم بـ “أنت” (بدلاً عن “انتم”) , وذكر ن.ن.غوسيف حديثاً لتولستوي عام 1908 (الشاهد على أن علاقة الكاتب (تولستوي) بالكاتب المسرحي (أوستروفسكي) طوال نصف قرن لم تتذبذب أُعجِب ليف نيكولايفيتش بإبداع أوستروفسكي منذ خمسينات القرن التاسع عشر) :

“كان يعجبني ببساطته وذخيرته الروسية من الحياة، وبجديته وبموهبته الكبيرة. انه إنسان أصيل وطريف ولم يداهن أحداً حتى في عالم الأدب”.

ربما الحوار في المقام الأول مع أ.ن. اوستروفسكي (وجميع تطورات الحياة المسرحية الروسية في خمسينيات القرن التاسع عشر) دفع تولستوي نحو الفن المسرحي الذي بحث فيه عن مثاله عن إمكانية توحيد الناس في فضاء روحي مشترك وفي تفكير موحد وفي البحث عن الحقيقة.

دَوَّنَ تولستوي في يومياته في شباط من عام 1856 : “خطة الكوميديا تنهكني” , ومنذ ذلك الوقت نعثر على الدوام تقريباً في مسوداته ودفاتر  ملاحظاته ويومياته على ذكر الكوميديا القادمة وخيارات عنوانها “الأسرة النبيلة”، “مباركة العم” . . “الموضوع الرئيسي هو الفجور المحيط بالقرية , سباب الخادم , الأخ مع الأخت , الإبن غير الشرعي مع زوجة الأب .. وهلم جرا”.

هنا يمكن ان نلاحظ تأثير أوستروفسكي ليس وحده فحسب بل حتى تأثير تورغينيف وعدة ظروف مختلفة من سيرة حياته (يذكر ليف نيكولايفيتش في “المذكرات” علاقة قديمة لوالده مع فتاة خادمة في منزلهم : “ولد من هذه العلاقة الابن ميشكا الذي عمل  ساعي بريد والذي عاش في حياة أبيه بشكل جيد لكنه فيما بعد انحرف عن جادة الطريق وصار غالباً ما يتوجه إلينا نحن أخوته الكبار لطلب المساعدة , وأتذكر ذلك الشعور الغريب بالحيرة الذي استولى عليّ عندما طلب منا المساعدة أخي هذه الذي يشبه أبانا جداً (أكثرنا شبهاً به) والذي كان ممتناً لنا (على مساعدته بعشرة روبلات أو أكثر التي كنا نعطيها له) , ويمكن أن نلاحظ كذلك مجموعة من المواضيع  الرئيسية ومن قضايا الأدب الروسي في ذلك الزمان النقاشات بشكل رئيسي حول “الناس الزائدين” وأخيراً نلاحظ التقاليد الملموسة لـ “لصوص” شيلير ولـ “الأخوين” لميخائيل ليرمونتوف.

لقد كوّن تولستوي الصراع على خلفية مواجهة بين أخَوَيْن  رجل الأعمال “العملي” أناتولي وفاليريان المأساوي الذي اعتاد الانغماس في الخمر والفرح والحزن , رغم  ان فاليريان  قُدِّمَت ملامح سيرته الذاتية : المتمثلة بمغادرته الجامعة بعد الفشل في الامتحان، والولع بالزراعة والخدمة العسكرية على التناوب، وعدم مفارقة كتاب فيشته “وظيفة الإنسان” والرغبة في البحث عن الحقيقة . . . وهكذا  ظهر سياق معيَّن تُنسب له تجربة تولستوي الدرامية الأولى , السياق أكثر من واسع ! نشأت كوميديا ليف نيكولايفيتش تولستوي الأولى في بوتقة الحياة المسرحية والأدبية الروسية في منتصف القرن التاسع التي كانت تغلي بشكل عاصف ويبدو أن تولستوي أراد أن يقحم في مسرحيته الكوميدية الأولى جميع المشاكل الأساسية التي شغلت المجتمع بعد أن بيَّن بشاعتها.

ربما لهذا السبب ظلت هذه التجربة الأولى غير مكتملة على الرغم من الإعداد المفصل للمشهد الأول فيها ؟ و ربما أيضاً لأن كوميديا أخرى بدأت “تُضني” تولستوي في العام 1856 نفسه وهي حول تحرير المرأة الذي بدأ ينخر كل شيء من حوله مثل الصدأ , حول المرأة التي نسيت مهمتها في بناء الأسرة وولادة الأطفال وتربيتهم.

“كوميديا من حياة أوليونكا” (احد بدائل تسميتها – “الحب الحر” مليئة  بكراهية الكاتب “لمذهب الكاتبة الفرنسية جورج صاند” التي هي برأيه شكل حاد لمرض الكثير من النساء الروسيات المستعدات من اجل التحرر أن يَتَخَلَّيْن عن المثل العليا للمرأة الأم. وكان تولستوي في عام 1857 في باريس حيث شاهد على المسرح أعمال مولير الكوميدية , وصارت مسرحيات الكوميديان الفرنسي الكبير بالنسبة له حسب تعبير ي .أ. بولياكوفا “نموذجاً أدبياً دائماً : فهم قريب من موقف مولير فيما يتعلق بالحياة بشكل عام وتجاه “النساء العالمات” على وجه الخصوص ومن ثقافته وفكره السليم والمجاهرة بالرغبة بإصلاح ما فسد من المجتمع , “يكاد مولير أن يكون اكبر فنان على مستوى الأمة وبالتالي فهو فنان رائع” قال عنه تولستوي وهو يواصل مبادئ الكتابة  الكوميدية  لمولير.

إننا نلاحظ هنا عند تولستوي التناقض نفسه الموجود في عمله الكوميدي الأول إذ تواجه أليونكا  الفتاة الريفية المحتشمة ليديا التي أفسدتها حياة العاصمة وهي فتاة مستهترة فاسدة وممسوخة تماماً , إنها تسعى جاهدة “لتنوير” الفتاة الريفية الطاهرة عديمة الخيرة لكنها تفشل , غير أن تولستوي سرعان ما يفقد الاهتمام بالكوميديا ولهذا لم يكمل كتابة ما بدأه , فما هو السبب ؟ إن الصيغة الدرامية تجذب الكاتب بإمكانياتها الواسعة بشكل واضح وتلقي بظلالها عليه ولكن كلما ازداد اهتمام تولستوي بالمسرح (شاهد في عام 1957 خلال شهر ونصف قضاها في باريس العديد من المسرحيات) كلما انكشف خوفه من عدم إتقانه لهذه الصيغة ومن عدم قدرته على أن يوصلها للقارئ وهذا هو الشيء الأكثر أهمية برأي تولستوي اللازم للمسرح الحقيقي.

وكان نيكراسوف في هذا الوقت قد أعلن أن تولستوي هو “الأمل الكبير للأدب الروسي” وفي تلك المدة أيضاً أكمل الكاتب “قصص سيفاستوبل” وتم بالفعل تمييز نثر تولستوي عن سائر الأدب الروسي المتمثل بـ “جدلية الروح” بوصفها وسيلة فريدة عند شخصياته للمعرفة ومعرفة الذات. ولكن كيف يمنح هذه الميزة للشخصيات المسرحية وبأي وسائل ؟ ففي النثر هناك جماليات خاصة تشمل تعليقات الكاتب واستمرارية الفكرة التي تحلل سلوك الشخصيات.

كيف يتحقق ذلك في الكتابة المسرحية ؟ كيف يجري خلق التوتر الذي لا تولد فيه فحسب “جدلية الروح” عند الشخصيات بل تجتاز طريقها المضني والمعقد والشائك ؟

لابد أن هذه الأفكار قد شغلت ليف نيكولايفيتش ولا بد أنها حالت دون إكماله واحد على الأقل من العملين الكوميديين اللذين بدأهما , ومهما كانت تلك الأفكار حقيقة ومهما غطت تساؤلاتها قضايا الحياة العصرية، فان “جدلية الروح” لم تتطور ولم تنكشف خفاياها من خلال حوارات الشخصيات المقتضبة , لم يتمكن تولستوي بعد من امتلاك  هذا السر . .

رغم انه كان يعرف ماذا يريد من العمل المسرحي : ” أن أقول شيئاً مهماً للناس عن علاقة الإنسان بالله والعالم وبكل ما هو خالد وابدي”.

كتبت ڤ.ڤ.فيدوروڤا في دراستها “المسرح الروسي في القرن التاسع عشر” : “يُنسب إلى العقد السادس من القرن التاسع عشر اثنان من أعماله المسرحية المكتملة : هما “الأسرة المصابة بالعدوى” و “العدمي” , ولم يجرِ عرض المسرحتين كليهما على خشبة مسرح احترافي”.

تعرض مسرحية “الأسرة المصابة بالعدوى” لأول مرة عند تولستوي موضوعاً مهماً بالنسبة له للغاية يطرحه فيما بعد في رواية “البعث” في فكرة رائعة وحادة كالسيف مفادها ان المجتمع الراقي مصاباً بالشعور بالذنب أمام الشعب  ويلزمه أن يُكَفِّر عن ذنبه هذا.

مثَّل العقد السادس من القرن التاسع عشر مرحلة جديدة في حياة ليف نيكولايفيتش تولستوي : ولا بد هنا أن نذكر في المقام الأول إفتراقه عن مجلة “المعاصر” وجداله العنيف مع إيفان تورغينيف , خاصة وان هذا الجدال في الواقع قد أملى على تولستوى بشكل من الأشكال ملامح شخصيات مسرحية “الأسرة المصابة بالعدول” وعُقَد الصراع فيها”.

الحدث الرئيسي وصول المعلم الجديد إلى المنزل وهو طالب يخرق السير الهادئ لصفو حياة “عش النبلاء” (أي الأسرة الإقطاعية وهو تلميح إلى رواية تورغينيف “عش النبلاء” -م ) يجعلنا نتذكر مسرحية  تورغينيف “شهر في القرية” , بيد أن الأمر يقتصر على التذكر فحسب ليس هناك حديث عن المقارنة أو التأثير , إذ هبطت في “الأسرة المصابة بالعدوى” شخصيات تورغينيف إلى مستوى”العدوى” وهو مرض خطير. فالنساء غبيات ومبتذلات والطالب وقح ومتغطرس وحسود والجميع بدون استثناء متساوون في ما بينهم . .

كتبت ي.أ. بولياكوفا: “الأسرة المصابة بالعدوى” مسرحية كوميدية كتبها الكونت تولستوي حين شق عليه أن يرى العوام من السيدات والشباب ساعين للمشاركة في الحياة الاجتماعية , بالنسبة  له ليس هناك أشخاص أمثال بازاروف (بطل رواية تورغينيف “الآباء والبنون” ) وليس هناك حاجة في روسيا إلى ناس جدد : انه يساوي بعدم الحاجة بين “الآباء” الساذجين أصحاب العزبة القديمة وأبناءهم الأكثر غباءً ومحدودية منهم.

لا يرى تولستوي في الشاب القادم لاستبدال الإقطاعي “العتيق” سوى وصولياً نفعياً . . . ويكتب “الأسرة المصابة بالعدوى” بوصفها كتاباً على شكل كوميديا موجه في المقام الأول ضد “الناس الجدد” وبرنامجهم لتجديد روسيا”.

إن الفكرة التي بدت قبل عدة عقود لا جدال عليها في السياق العام للنظر إلى الأدب الروسي في القرن التاسع عشر على انه ظاهرة اجتماعية تماماً لا مكان فيها لأي شيء لا يتطابق مع تطلعات الكُتّاب الديمقراطيين صار يُنظَر إليها اليوم بشكل مختلف  تماماً.

مهما كان الكونت ليف نيكولايفيتش تولستوي مخطئاً فيما تتعلق بالطبيعة البشرية وبسعيها الذي لا يكل من اجل التكامل الذاتي الأخلاقي والإقرار بالشعور بذنب أفراد “الطبقة العليا” مع أبناء “الطبقة الدنيا” فإنه كان حازماً في موقفه , الحقيقة ليست عند أمثال رحميتوف وبازاروف بأفكارهم الكارتونية وتأكيدهم على “الخلايا” بوصفها حجر الأساس (يتحدث عن الخلية، كذلك الطالب في “الأسرة المصابة بالعدوى”)، الحقيقة موجودة حيث الله والمبدأ الأخلاقي والتكامل الروحي , وان المبدأ الأخلاقي والتوجه الروحي أسمى بكثير من أفكار التحرر ومن الجدال حول ما هو الأنفع للإنسان الحذاء أم بوشكين ومن التحقق من الروح البشرية من خلال القدرة على النوم على المسامير والكثير الكثير مما ملأ العقول الروسية في منتصف القرن.

العقد السادس من القرن التاسع عشر بالنسبة لليف نيكولايفيتش تولستوي هو مدة البحث المضني عن الحقيقة المستحيلة من دون الله أي من دون إدراك ذنبه بما يجري مع العالم والإنسان.

صارت مسرحية “الأسرة المصابة بالعدوى” إحدى مسرحيات تولستوي المكتملة ولكن لمّا صاغ تولستوي الفكرة المهمة بالنسبة له ظل غير قادراً على منحها شكلاً مسرحياً مشرقاً : فالموعظة وغياب المثل المعبَّر عنه بوضوح و”الإشارة” هذا كله أثقل العمل وحرمه من الروح المسرحية والدينامية المطلوبة للمسرح.

وليس من قبيل المصادفة أن لا يستحسن مسرحية “الأسرة المصابة بالعدوى” الاكساندر نيكولايفيتش أوستروفسكي وهو المتذوق الرقيق للطبيعة المسرحية , ومع إن الكاتب المسرحي الخبير اجتنب الإساءة إلى ذات الكاتب فقد قال لتولستوي إن في المسرحية حركة قليلة. وكتب  إلى نيكراسوف : “اصطحبني تولستوي معه وقرأ عليَّ مسرحيته الكوميدية الجديدة : إنها عمل مشوه بحيث ثقلت أذناي عن سماعه”, وحتى ليف نيكولايفيتش نفسه كتب بعد مضي بعض الوقت إلى أ.أ. تولستايا :”أوستروفسكي كاتب أحبه كثيراً , قال لي ذات مرّة شيئاً ذكياً جداَ , فقد كتبت قبل سنتين مسرحية كوميدية (لم انشرها) وسألت أوستروفسكي كيف استطيع  عرض المسرحية في مسرح موسكو قبل الصوم الكبير , قال لي : لا تستعجل، الأفضل أن تعرضها في العام المقبل”, فقلت له : “كلا، إني ارغب بعرضها الآن لأن المسرحية عصرية جداً لن تنال ذلك النجاح في العام القادم” , “أتخاف أن يتنبهوا بهذه السرعة؟”.

هل أثَّرت هذه الكلمات التي كررها تولستوي أكثر من مرة في رسائله على استيعابه للكوميديا أم فكرة إنهم “لن يتنبهوا” أبداً التي ومضت فجأة عنده ؟ ومن يدري . . . إننا نعرف أن تولستوي سرعان ما صار لا يبالي بتجربته المسرحية : انه لم يكتفِ بالقول عن “الأسرة المصابة بالعدوى” بأنها “كوميديا رديئة” بل سرعان ما نسي مضمونها ووقت كتابتها كذلك , وظلت مسرحية “الأسرة المصابة بالعدوى” بالنسبة لمؤلفها إحدى التفاهات الشبيهة بالأحاجي التي كان يكتبها في طفولته أو المسرحيات التي يعدها للعرض المنزلي في ضيعة ياسنايا بوليانا . . .

تبقى “الأسرة المصابة بالعدى” بالنسبة لنا أولى مسرحيات ليف نيكولايفيتش المكتملة التي تحدد ملامح تولستوي بوصفه كاتباً مسرحياً : المتمثلة بالبحث المضني عن الطريق المؤدي نحو الحقيقة من خلال إدراك الذنب المقتَرف ومحاولات التكفير عنه.

ولا يعود تولستوي إلى الكتابة المسرحية إلّا بعد عقدين من الزمن , وكانت تلك مدة زمنية طويلة جداً بالنسبة للحياة المتغيرة بسرعة في روسيا ومَعْلماً مهماً جداً بالنسبة لليف نيكولايفيتش , ولم يفارق تولستوي الاهتمام بالدراما بوصفها شكلاً صارماً من أشكال الأدب في تلك السنوات : فقد قرأ كثيراً وأعاد قراءة  شكسبير وغوته وبوشكين وغوغول ومولير , وكتب الى فيت في شباط من عام 1870 : “إني لا اكتب شيئاً: لكني  ارغب جداً بالحديث عن شكسبير وغوته وعن الدراما بشكل عام , طوال الشتاء الحالي وأنا مشغول بالدراما وحدها بصفة عامة وكما يحدث مع الناس الذين لم يفكروا قبل سن الأربعين بموضوع ما على الإطلاق وحتى لم يُكَوِّنوا لديهم أي فكرة عنه أبداً ثم فجأة بعد سن الأربعين يوجهون انتباههم بكل وضوح إلى موضوع جديد لم يسمعوا به، يبدو لهم دائماً أنهم يرون فيه الكثير مما هو جديد . . . أنا كذلك انتابتني الرغبة بقراءة سوفوكليس ويوريبيديس”.

ذكرت صوفيا اندرييفا أن تولستوي في هذا الوقت قرأ “هاوية الأعمال المسرحية” الكتاب الذي صاغ ودقق “نظري المسرح” , لقد أحس بهذه الهاوية ورآها بشكل جلي وواضح كثيراً وتوصل بالتدريج إلى أن المسرح  تلزمه البساطة الشديدة التي تؤدي إلى خلاص البشرية , وليس من قبيل المصادقة أن يكرر تولستوي دائماً في مطارحاته الدينية : “تعاليم يسوع كلها تكمن في كلمات بسيطة يكررها الناس : خلِّصْ روحك”.

يتأمل تولستوي في يومياته لعام 1870 كثيراً بطبيعة الدراما : “مهما كثر الحديث عن ضرورة غلبة الأحداث في الدراما على الحوار، لكي لا تصبح الدراما باليه يجب أن تعبِّر الشخصيات عن نفسها.

إن من يتكلم جيداً يمَثل بشكل رديء ومن ثم البطل لا يستطيع أن يعبِّر عن نفسه بالكلمات , وكلما تكلم أكثر قل الوثوق به , وإذا ما تكلم الآخرون، لا هو فإن الاهتمام سينصب عليهم لا عليه.

 

الكوميديا الشخصية المضحكة , ممكنة لكن التراجيديا في ظل التطور السيكولوجي لعصرنا صعبة بشكل رهيب . . .

الأدب المسرحي الروسي لديه نموذجين اثنين لواحد من أنواع الدراما الكثيرة والكثيرة : لواحد هو اصغر الأنواع وأضعفها، انه نموذج السخرية، مسرحية “ذو العقل يشقى” لألكساندر غريبويديف – م) و”المفتش” ( لغوغول – م) , والأعمال الباقية الكثيرة ليست الساخرة، بل الشعرية لم تطرقَ بعد”.

بعد أن انتقلت أسرته إلى منزل جديد في خاموفنيكي في ضواحي موسكو بدأ تولستوي يلاحظ عن كثب الناس لاسيما “عمال المصانع” , شاهد عملهم واحتفالاتهم، وحاول أن يفهم ما يحتاجه هؤلاء الناس وتوصل إلى استنتاج مفاده أن بحثهم عن المتعة والراحة يملي عليه إنشاء مسرح مختلف تماماً , ليس مجرد هزل بسيط ، بل فعل وعظي معقد يضم في جنباته تقاليد التراث الشعبي والألعاب والملابس الشعبية.

بدأ تولستوي في عام 1884 العمل على مسرحية “بيتر الخباز” التي اعتزم فيها أن ينقل إلى المسرح حكاية بطرس العشار المشهورة الذي عاش حياة الخطيئة والخمول ثم إستبصر ووزع ممتلكاته على الفقراء وصار يعيش بشكل مختلف.

وليس صعباً عليناً هنا أن نلاحظ آراء وتصرفات ليف تولستوي في ذلك الوقت بالذات “عندما تبَسَّط” وتاب عن حياته السابقة , إن الوعظ بمذهب تولستوي الجديد يشكل أساس مسرحية “بيتر الخباز”، الأمر الذي مكن الباحث ك. لومونوف أن يكتب عن كون “موضوع السيرة الشخصية يتدخل في المسرحية البسيطة ويشوه مدلولها” (الكلام يدور حول الجزء الثاني من “بيتر الخباز”، الذي يتحدث عن نزاعات بيتر العائلية مع أقاربه الذين لا يفهموه).

لم يُقَدَّر لهذه المسرحية أن تكتمل , إذ وضع ليف نيكولايفيتش خطتها وملخصَّها في العام 1848 نفسه في كتاب ونسيها , وبعد ذلك بعشر سنوات باشر تولستوي في ياسنيا بوليانا بعمل مسرحية شعبية، فقد أملى ليف نيكولايفيتش على ابنته خلاصة مفصلة تساعد على ارتجال المسرحية بشكل واسع لكن المسرحية  لم تتم ولم يُعثر على الخطة الأولية لمسرحية “بيتر الخباز” إلّا في عام 1914.

رغم ان تولستوي “نسي” مسرحيته الشعبية، بل حتى انه لم يكملها لكن فكرة المسرح الشعبي لم تفارقه , وعندما كان تولستوي يتأمل فيما ينبغي أن تكون عليه الدراما الشعبية الحقيقة والمسرح الشعبي الحقيقي كتب في عام 1886 بصورة سريعة وحماسية مسرحية صغيرة بعنوان “أول مَن صنع الخمر، أو كيف استطاع الشيطان أن يكسب  قوته” وهي عن الإدمان على المسكرات بوصفه قوة شيطانية مهلكة تهدف إلى إبادة الناس وتَبَلُّدهم.

مضمون هذه المسرحية الشعبية بسيط وساذج : يَمْثُل أمامنا في البداية فلاحون ايجابيون إنهم عقلاء ونشطون وأصحاء وقادرون على تحديد القليل الذي يلزمهم في الحياة اليومية , لكن ها هو الشيطان يعلمهم أن يغلوا دواءً وما أن يباشرون الشراب حتى يفقدوا ملامحهم البشرية. تقول حكاية تولستوي بلغة مفهومة للجميع : كان هناك رجل فقير وكادح كان مخلوقاً ربانياً لكنه خضع للغواية واستغنى وسقط في سطوة الشيطان , وبعد أن تناول جرعة من “دواء الشيطان” صار يسحب الآخرين وراءه إلى الهاوية لأن الناس بعد الثمالة يفقدون أرواحهم ويتوحشون ويقعون ضحية للإغراءات . . .

كان بانتظار هذه المسرحية قدر سعيد نسبياً : وان جرى  عليها الكثير من الحذف والتعديل إلّا انها سرعان ما نشرت وجرى عرضها في المسرح الشعبي التابع لمصنع الخزف الإمبراطوري.

وقالت عنها صحيفة “الأسبوع” في 27 تموز من عام 1886 : “حتى هذا الوقت كانت خشية المسرح هذه تعرض ترهات تمثل مجموعة من المسرحيات العادية ذات النمط الهزلي على العموم. لكن قبل بضعة  أيام جرت محاولة لإعطاء المسرح الشعبي أهمية اكبر مما نالها حتى الآن بمسرحياته الهزلية : إذ جرى عرض كوميديا الكونت ليف تولستوي “أول مَنْ صنع الخمر” , وعلى الرغم من سوء الأحوال الجوية وهطول الأمطار الغزيرة تجمع أكثر من ثلاثة آلاف من العمال لمشاهدة المسرحية”.

الحقيقة ان عرض المسرحية جرى مرة واحدة فقط إذ منعت الرقابة “أول من صنع الخمر” , ولكن مع هذا استطاع ليف نيكولايفيتش تولستوي أن يبتهج بنجاحه الأول.

لقد فرح به فعلاً واعتمد على الاستمرار والدليل على ذلك إنشاء م.لينتوفسكي مسرح “المهرج” الشعبي  في موسكو وسعي فنان بطرسبورغ ب. دينيسينكو إلى إنشاء مسرح مشابه له في بطرسبورغ وصدور مجلة مخصصة لقضايا المسرح الشعبي , وقد توجه لينتوفسكي ودينيسينكو كلاهما في الوقت نفسه إلى ليف نيكولايفيتش طلباً “للدعم المعنوي”، ورد تولستوي على فنان بطرسبورغ بحماس كبير : “قضية المسرح الشعبي التي تشغلكم، تشغلني أنا كذلك كثيراً , وسأكون سعيداً جداً إذا كان بإمكاني إسناده، وليس فقط لأني سأكون مسروراً جداً إن حوَّلتم قصصي إلى أشكال درامية بل حتى اني ارغب بمحاولة الكتابة لهذا الغرض بهذا الشكل بصورة مباشرة , حاوِلوا تكريس الجهود كلها لهذه القضية وباشِروا بها من دون تفكير واستعدادات وتحولات : أي عدِّلوا وترجِموا واجمعوا (أنا سأكتب الآن) المسرحيات ذات المحتوى العميق والخالد والتي يفهمها الجمهور كله بما فيه من يرتاد المسارح الهزلية واعِدّوها واعرضوها حيث ما اقتضى الأمر في المسارح أو في المسقفات , واذا ما قمتم بهذا الأمر سأخدم هذه القضية بكل ما اقدر عليه بكتاباتي وبإشراك الأفراد القادرين على توفير الأموال اللازمة لتغطية النفقات (إذا اقتضى الأمر) , إن القضية بنفسها ذات أهمية كبيرة ومسألة خير لوجه الله : ولابد أن  يجري الأمر ويلاقي  نجاحاً كبيراً.

لم يتحقق شيء من ذلك لا المسرح ولا المجلة , وحتى “مهرج” لينتوفسكي لم يُظهر ميلاً نحو المسرحيات “ذات المحتوى العميق والخالد” , لكن ولع تولستوي بفكرة إنشاء مسرح شعبي حقيقي “سواءً في المسارح أو المسقفات” لم يذهب سدى , فقد تحول هذا الولع إلى مسرحية متكاملة أسست لكتابة مسرحية حقيقة هي “سلطة الظلام”.

صديق قديم لتولستوي هو المدّعي العام في مدينة تولا ن.ف. دافيدوف حدَّث ليف نيكولايفيتش في عام 1880 عن جريمة ارتُكبت بالقرب من ياسنيا بوليانا.

“عندما كنت مدعياً عاماً في تولا أدهشتني بحالتها إحدى قضايا الفلاحين حول جريمة قتل طفل تنظر بها محكمة  المقاطعة، كتب فيما بعد في يومياته , إنها قضية عن مقتل رضيع لإحدى الفتيات الفلاحات على يد والد الطفل الذي كان على علاقة بالفتاة التي كانت تعيش في إحدى العائلات في المسكن معه , إن خصوصية هذه القضية إضافة إلى الموقف الدرامي للجريمة نفسها حدد سلوك القاتل الذي أعلن أمام الملأ بسبب تقريع الضمير عن ندمه على الجريمة التي اقترفها وصار ينتظر المحاكمة والعقاب بفارغ الصبر ورغم الحكم عليه بالأشغال الشاقة والنفي إلى سيبريا كان راضياً بالحكم لأنه رأى في العقوبة تكفيراً عن ذنبه ووجد فيها عزاءً له وفرصة للحياة اللاحقة. وقد أطلعتُ ليف نيكولايفيتش بالتفصيل على حيثيات هذه القضية التي اهتم بها كما كنت أتوقع : وقد التقى في السجن مع المحكوم وبعد ذلك بوقت قصير كتب أول أعماله الدرامية , وقد أجرى عدة تعديلات على حالة القضية مضيفاً عليها ظرف دس السم لزوج مازفا كولوسكوفا السابق.

نغفر للمدعي العام جهله بالطريق الطويل الذي سار به تولستوي ليصل إلى “سلطان الظلام”، ذلك الطريق الذي امتد مدة عقدين من الزمان لكن هذا ليس مهماً في نهاية المطاف , المهم أن ليف نيكولايفيتش “المعلول” بمضمون يتطابق تماماً مع فكرته (أي تولستوي) عن الذنب ولزوم التكفير عنه قد أبدع دراما شعبية حقيقية، تحدث عنها نفسه لستاخوفيتش بكل فخر : “إما أني لم اكتب إلى المسرح منذ زمن طويل أو حدثت معجزة فعلاً ! “.

اعترف ليف نيكولايفيتش انه “افرغ” لـ “سلطة الظلام” دفاتر مذكراته وحرّك كل شيء : الأمثال والأقوال المأثورة ونكات الفلاحين في ياسنيا بوليانا وأحاديث الخادمة والشتائم التي سمعها من العجائز والعبارات الشعبية الطنانة التي يرددها أبناء المدينة على أرصفة السكة الحديدية . . . ونفعت كذلك قضية يفريم ومارفا كولوسكوف وشكوى شيخ عجوز قادم الى ياسنيا بوليانا : “كان ابني ڤانيا يعمل مصلحاً في السكك الحديدية وماريشكا طباخة , ربما كانت هناك علاقة بينهم , لكن ماريشكا حبلت , قلت لڤانيا تزوجها، لكنه صار يفرك سحنته . . . وها أنا أتوجه بطلب استعطافكم لكي تعقّلوا ڤانيا”.

سار العمل بسرعة تثير الإعجاب رغم أن تولستوي أدرك تماماً الفرق في العمل على النثر منه على الدراما، لكنه اعترف “الرواية والقصة عمل كالرسم حيث يحرك الفنان الفرشاة ويضع الأصباغ على القماش، وهناك خلفيات وظلال وألوان انتقالية , أما الدراما فهي مجال للنحت فحسب , إذ ينبغي العمل بالشفرة لا الفرشاة ولا ينبغي وضع الألوان بل حفر النقوش . . . لقد فهمت الفرق كله بين الرواية والمسرحية عندما باشرت الكتابة بمسرحيتي “سلطان الظلام” , عملت عليها في بداية الأمر بأساليب الروائي ذاتها، التي اعتدت عليها أكثر من غيرها , لكني رأيت بعد كتابة الصفحات الأولى ان القضية هنا ليس كذلك , هنا على سبيل المثال لا ينبغي استحضار لحظات معاناة الأبطال، ولا ينبغي إجبارهم على التفكير على خشبة المسرح وعلى التذكر وعلى تفسير طبيعتهم من خلال الاستطراد بالماضي هذا كله مثير للضجر وممل وغير طبيعي , المطلوب هنا حالات جاهزة , يجب أن تكون أمام الجمهور حالة الروح مصمَمَة والقرارات متَّخَذة “.

الواقع ان في هذا الاقتباس المعروف قد صيغت مسلمات اللغة المسرحية الجديدة وهذا هو اكتشاف تولستوي الكاتب المسرحي , فمن جانب تمثل “سلطان الظلام” بشكل واضح تراجيديا ارسطوطاليسية بمهمتها الرئيسية المتمثلة بهز روح المتفرج وتطهيرها، ومن جانب آخر هي دراما حياتية يومية لا مكان فيها للرمز والخرافة، بل فيها الكثير من التفاصيل الحياتية ودقائق الحياة اليومية ولا تخلو من الموعظة.

التسمية الكاملة للمسرحية “سلطان الظلام، أو إذا امسك مخلب بالطير سيهوي الطير كله” لها دلالات كثيرة : الجزء الأول هو اقتباس من الإنجيل (“هذه ساعتكم وسلطان الظلام ” يقول المسيح للحراس السائرين خلفه)، أما الجزء الذي يأتي بعدها فهو من الأمثال التي يستعملها تولستوي بسخاء في تسمية قصصه الوعظية , ومن ثم كما تشير ي.أ.بولياكوفا “انه يرى المأساة الحديثة بالمسرحية الموعظة وبمسرحية المأثور عن الإثم الكبير , انه ليس مثلٌ بسيط عن مخاطر الشرب (السكر)، بل المأساة بالذات تجسيد لقدر إنسان دمر حياته , وهي مسرحية مخصصة للمسرح الشعبي سواء كان مسرح دنيسينكو أو لنتوفسكي او مسقف ميدان البنات (العذراوات) توجه لمشاهدي هذا المسرح إرشادات ومواعظ مفهومة  للجميع ومسماة باسمها الكامل.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الجزء الأول من التسمية “سلطان الظلام” لا يعبر فحسب عن الفكر الديني لتولستوي بل عن فلسفته كذلك : وليس من باب الصدفة أن تأتي بالتزامن مع هذه المسرحية مسرحية أخرى تحمل تسمية شبيهة “نور العالم” (ثم يطلق عليها فيما بعد عبارة من الإنجيل “والنور يضيء في الظلمة”) , “الظلمة” بالنسبة لتولستوي مفهوم أخلاقي : إنها سلطان الغرائز الوحشية والعمياء والحيوانية على الإنسان الذي لا يجد في نفسه القوة للمقاومة لأن الظلمة هذه تحل فيه ليس من العالم الخارجي فقط بل حتى من العالم الداخلي الذي أسقطه الشيطان في أسره , إنها مأساة الأعمدة المحطمة والتقاليد الأخلاقية المتأصلة (أي  الطبيعية) في الحياة، ويبدو مفهوم “الخطيئة” في “سلطان الظلام” ذا معاني متعدد أهمها “معدٍ” وفاتن.

 

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com