مقالات

التاريخ الثقافي والسياسي لفنجان القهوة.

بيدر ميديا.."

التاريخ الثقافي والسياسي لفنجان القهوة

صادق الطائي

 

بعدما أصبح للقهوة يوم عالمي هو 19 سبتمبر، ربما يفكر البعض بفنجان القهوة الصغير الذي يفتتح به البعض يومهم، لكن في كل الأحوال لمحتوى هذا الفنجان الصغير من مشروب القهوة تاريخ سياسي وثقافي حافل بالأساطير والحروب والتحريم والتحليل والقتل والسجن. مفردة (قهوة) في اللغة العربية من الجذر قهى، أي لم يشته الطعام، واسم القهوة كان يطلق أولا على الخمر لأنها تقهي صاحبها أي تسد شهيته، ثم استعمل الاسم ذاته على المشروب الذي تستعمل في تحضيره حبات البن، بعد تحميصها وطحنها وغليها. وذكر الفخر أبو بكر بن أبي يزيد في أصل اسم القهوة في كتابه «إثارة النخوة بحل القهوة» أنها من الإقهاء وهو الكراهة أو الإقعاد ، ومنه سميت الخمرة قهوة لأنها تقعد شاربها من النوم وتكرّهه في الطعام.

الأماكن التي تقدم القهوة في العصر الحديث (المقاهي) ارتبطت ارتباطا وثيقا بتيارات الثقافة والسياسة وأصبحت مكانا للنقاش والحوار في عالمي الثقافة والسياسة

وفي أصل التعرف على البن واستعمال نقيعه كشراب تروى بعض الاساطير، ومنها أنه كان في إثيوبيا في العصور الأولى للمسيحية رئيس دير يشكو دائمـا من أن رهبانه يغلب عليهم النعاس، إذا ما قاموا لصلاة منتصف الليل، وفي أحد الأيام زاره راع وقص عليه قصة غريبة مفادها، أن هناك في بطن الجبل أعشاباً إذا تناولتها معزاته تظل ساهرة طوال الليل، وقال إن هذه الأعشاب عبارة عن شجيرات ذات أوراق طويلة تحمل حبات تميل إلى الحمرة. وسرعان ما أمره رئيس الدير بأن يجلب له بعض أوراق هذه الشجيرات، ثم غلاها وطلب من الرهبان أن يشربوا ماءها، ولشد ما كانت دهشته عندما لاحظ أنهم ينشدون صـلاة منتصف الليل بحماسة ونشاط غير معهودين.
ومن المعروف أن أصل البن في العالم العربي كان قد انطلق من اليمن، وفي ما يتعلق بانتشار البن في اليمن تشير عدة مصادر إلى الشيخ علي بن عمر الشاذلي (ت811هـ – 1408م) الذي زار إثيوبيا (الحبشة) لنشر الطريقة الشاذلية وتعرف هناك على القهوة، وارتبط شرب القهوة بالطريقة الصوفية الشاذلية ارتباطا قويا، حتى بات البعض يطلق على القهوة اسم (الشاذلية)، كما أن من عادات شرب القهوة الباقية في بعض مدن الشام أمر طريف، إذ يُصب الفنجان الأول من ركوة القهوة ويسكب على الأرض ويقال عنه (إنه حصة مولانا الشاذلي)، وقد بات من المؤكد ارتباط شرب القهوة بالمتصوفة، الذين أقبلوا على شربها لتعينهم على السهر والعبادات وسموها خمرة المؤمنين. وفي تاريخ القهوة السياسي لا بد من المرور على قصة خاير بك الجركسي أحد أمراء المماليك، الذي عينه السلطان الغوري محتسبا لمكة المكرمة، إذ مرّ ليلة 23 من ربيع الأول سنة 917 هـ، فطاف بالكعبة الشريفة، ثم شرب من ماء زمزم، وعاد إلى بيته، فرأى في طريقه جماعة قرب المسجد الحرام متجمعين حـول قرقماس الناصري، فما أن رأوه حتى أطفأوا الفوانيس الموقدة، فأثاروا الشبهة حولهم. فلما أرسل في طلبهم سألهم عما يتعاطونه من شراب، إذ وجدهم يديرون كأسا بينهم يسقيهم بها قرقماس، الذي زعم أنه يقيم مولداً للنبي (ص)، فأنكر المحتسب ذلك عليهم وسأل عن هـذا الشراب، فأخبروه أنه شراب اتخذ في هذا الزمان يأتي من اليمن يسمى القهوة ذاع وشاع في مكة. وسرعان ما انعقد مجلس قضاة الشرع الذين أفتوا بأن هذه الهيئة التي يجتمع عليها الناس لشرب القهوة وارتكاب الموبقات مما حرم الله. أما حب البن فشأنه شأن النباتات، والأصـل في الشرع الإباحة، ما لم ينص على الحكم أو يثبت الضرر، وجيء بالأطباء فقرروا أن القهوة مفسدة للبدن، وختم الشهود، ووقع القضاة ونودي في مكة بمنع تعاطي القهوة. ولم يشذ عن القضـاة الموقعين القائلين بالتحريم إلا مفتي مكة الشيخ نور الدين بن ناصر الشافعي، فقـد جهر برأيه وتمسك به، فسمع ما يكره، ولقي العنت والأذى، وشنع بدوره على القضاة، ورماهم بالنفاق واتقاء شر الأمير بينما هم كانوا في طليعة شاربي القهوة قبل ذلك.
وسرعان ما جهز قضاة مكة سؤالاً وجهوه لعلماء القاهرة عاصمة السلطنة المملوكية يستفتونهم في أمر القهوة، وقصدهم طبعـا إحراج موقف خصمهم العنيد الذي يعارضهم ويشنع عليهم، وصدر مرسوم السلطان الغوري بعد فتوى علماء مصر بتحريم القهوة، لذا منع خاير بك تعاطي هذا المشروب في مكة في (28 ربيع الأول 917هـ – 1511م)، بعد ما أمر السلطان الغـوري بذلك في مرسوم جاء فيه، «أما القهوة فقد بلغنا أن أناساً يشربونها على هيئة شرب الخمر ويخلطون فيها المسكر ويغنون عليها بالآلة ويرقصون ويتمايلون، ومعلوم أن ماء زمزم إذا شرب على هذه الهيئة كان حراماً، فليمنع شرابها والتظاهر بشربها والدوران بها في الأسواق». ويمكننا أن نلاحظ إن الموقف من القهوة صار سجالا وتحول لاحقا إلى مشكلة اجتماعية ـ سياسية فضلاً عن كونها خلافاً فقهياً، لذلك نص مرسوم السلطان الغوري على عدم تحريم المشروب، بل منع الطقوس والعادات المصاحبة لشربه في ما يعرف ببيوت القهوة، فإذا تناوله الشخص في بيته فلا ضير في ذلك، لاسيما أن هناك خلافا بين العلماء في أمره، فقد كان موقف شيخ الإسلام زكريا الأنصاري قاضي قضاة الشافعية في الأزهر، الذي شهد سقوط دولة المماليك وسيطرة السلطان العثماني سليم الأول على مصر، متقلبا بين التحريم والتحليل، فبعد أن حرمها رجع عن تحريمه بإباحتها وقد صنف في ذلك رسالة قاطعاً فيها بالحل.
وشهد عهد السلطان العثماني سليمان القانوني بعد ذلك تشددا تجاه القهوة، إذ أرسل قاضي القدس طلبا إلى السلطان بمنع القهوة في مدينة القدس المقدسة، وعلل ذلك بزيادة الإقبال على (بيوت القهـوة) والانصراف عن (بيوت الله)، وقد وصل عدد بيوت القهوة في القدس عام 1565 إلى خمسة، وقد تجاوب السلطان سليمان القانوني مع هذا الأمر، وأصدر مرسوماً في 3 ديسمبر 1565 هذا نصه؛ «لقد أرسلتم كتاباً ذكرتم فيه أنه منذ أقدم الأزمان لم تعرف القدس ما يسمى بيت القهوة (القهوة خانة) وأن الأهالي متمسكون بدينهم مواظبون على صلواتهم الخمس وأنه قد فتحـت مؤخراً خمسـة بيـوت للقهـوة فـي خمـسة أماكن وأن هذه أصبحت أماكن لتجمع اللوندات، والأشرار الذين لا يكفون ليل نهار عن التصرف بإزعاج وخبث وعبث، ويبعدون المسلمين عـن ورعهـم ودينهم المقـدس، لـذا مـن الضروري حسب رأيـكـم إقفـال وإغـلاق واستئصال بيوت القهوة في هذا المكان المقدس، وقد أمرت الآن بإقفال واستئصال بيوت القهوة وأصدرت أوامري بأن تتولوا شخصياً هذا الأمر وأن تزيلوا (بيوت القهوة) وعليكم ألا تتركوا في مدينة القدس أي مكان يمكن أن يسمى (بيت القهوة) وألا تدعوا الأهالي يجتمعون هناك».
لكن مع التساهل مع شرب القهوة الذي شهدته العاصمة إسطنبول وانتشار المقاهي في مختلف ولايات الدولة العثمانية لاحقا، انتقلت القهوة من الدولة العثمانية إلى أوروبا. ويشير البعض إلى إن أول دولة أوروبية دخلتها القهوة هي النمسا بعد انكسار العثمانيين في حصار فيينا. بينما يشير آخرون إلى أن القهوة دخلت فرنسا أولا على يد سفير الدولة العثمانية في باريس. ويذكر وليم هاريسون وركس في كتابه (كل شيء عن القهوة) إن؛ «رجال الدين المسيحي أدانوا شرب القهوة عندما وصلت إلى فينسيا عام 1615، وكان الجدل على القهوة كبيرا؛ حتى أنه وصل للبابا كليمنت الثامن، الذي تذوق القهوة ليفصل في الخلاف، وبعد أن نالت إعجابه حصلت القهوة على تأييد بابوي. وفي عام 1777 وضع فريدرش فيلهلم الثاني ملك بروسيا القهوة في قائمة المحظورات، وشجع على تناول البيرة، بدلًا عنها، مبررا ذلك بأنها صحية أكثر من القهوة. فقد أورد قوله: «لقد ساءني أن تناول الناس القهوة في ازدياد، وبالتبعية الأموال التي تنفقها الدولة عليها. الجميع يشرب القهوة، فلو أمكن ولم يكن بد أن يتناول شعبي البيرة». وكان الملك يدعي إن الجنود شاربي القهوة لن يتحملوا المعارك، ولن ينتصروا على الأعداء، بينما كان السبب الحقيقي لكره فريدريش للقهوة اقتصاديا بحتا، فقد أثار قلقه أن الاستيراد الكثير للقهوة قد يُدمر اقتصاد الدولة، لأن القهوة كانت تجلب من الخارج على عكس البيرة المصنعة محليا.
وأخيرا يذكرنا التاريخ السياسي للقهوة، ان الأماكن التي تقدمها في العصر الحديث والتي اصبحت تعرف بالمقاهي ارتبطت ارتباطا وثيقا بتيارات الثقافة والسياسة وأصبحت مكانا للنقاش والحوار في عالمي الثقافة والسياسة، إذ انطلقت من المقاهي في مختلف العواصم والمدن التيارات الثقافية وحركات الاحتجاج السياسية والثورات التي شكلت وعي وتاريخ مختلف الدول.
كاتب عراقي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com