المرأة العربية ورِدّةُ التّنوير المبتور؟
كثيراً ما يغيب السؤال المركزي التالي في ثقافتنا: لماذا آلت تجارب العالم العربي التنويرية كلها إلى الإخفاق في المجتمع والسياسة، بينما نجحت في كثير من مناطق آسيا الإسلامية وفي إفريقيا؟ فقد انتهت أغلب التجارب العربية مضادة إلى نفسها، في حالة ردة غير مسبوقة لأقطابها الذين ناقضوا أفكارهم على الرغم من أنهم واجهوا الصعاب في البداية وتعرضوا لكل ما يؤذي وجودهم الفكري والمادي. أكتفي هنا بمثال واحد يجسد حقيقة حالة الإخفاق عند النخبة المتبنية للمشروع الحداثي والمقاومة للعنصر المحافظ التراجعي الذي ظل يرى في المرأة «عورة» و»ناقصة عقل ودين» وليس طاقة خلاقة فعلية. حالة قاسم أمين مربكة كلياً؛ مازلنا إلى اليوم نحتفي بأطروحاته عن تحرير المرأة، بدأ مقاوماً للتيارات السلفية ولحالة تثبتها، وانتهى معادياً للمرأة غير المتحجبة، المرأة التي اختارت النموذج الغربي أو التركي بالخصوص بعد ثورة أتاتورك واختياره الغرب نهائياً. لهذا، خيارات قاسم أمين تستحق الاهتمام ومحاولة فهم ظاهرة العودة إلى الحاضنة الأولى التي انتقدها بشدة، أكثر من ضرورة؛ فهي نفسها حالة طه حسين وحتى حامد أبو زيد وغيرهم من الذين اصطدمت أسئلتهم بحائط ثقيل من التخلف المجتمعي بسبب نسبة الأمية المستشرية التي بدل أن تنقص تضاعفت في النصف قرن الأخير بسبب الحروب وإخفاق سبل التطور والانتقال نحو مجتمعات الحداثة. الحداثة عربياً لم تتخط السبل الاستهلاكية.
حاول قاسم أمين أن يتبع منهجاً عقلانياً إلى حد بعيد، فأعاد النظر في «الثوابت» الوهمية التي حصرت جهد المرأة في البيت أو ما شابه ذلك، فهي سبب الفتن. كان واضحاً أن قاسم أمين الذي لم يكن أول من خاض في ذلك، إذ سبقه أحمد فارس الشدياق، دخل إلى عالم راكم الكثير من التخلف الفكري بسبب الفترة العثمانية التي ارتبطت بها الكثير من النخب العربية، وهي تعرف أنها كانت وبالاً على المجتمعات العربية. ولحق ذلك فترة استعمارية غربية فككت المجتمع العربي بسرعة فانتسب جزء منه إلى النموذج البريطاني، بينما الثاني ارتبط بالنموذج الفرنسي. فكان الخروج من دائرة الضيق والتخلف إلى دائرة التبعية الثقافية التي كانت فيها أوروبا هي مقياس التحول. ظهرت في هذا السياق نخبة حاولت أن تظل متأصلة في ثقافتها ودينها وتستفيد من المنجز الأوروبي ثقافياً واجتماعياً، فكان «إصلاح ذات البين» هو مدارها الذي لم يعط النتائج المرجوة، لأن الحرب التي فتحت على عدة جبهات لم تكن سهلة. يضاف إلى ذلك التقاليد التي ترسخت وتداخلت مع الإسلام ولم تكن هناك أية محاولة جادة في المرحلة الأولى للتفريق بين الصفاء الديني في مراميه الإنسانية البعيدة والكبيرة، والتقاليد البالية.
لم تكن حرب قاسم أمين سهلة، لكنه خاضها بشجاعة وشغف المثقف الواعي الذي يريد أن يحرر طاقة خلاقة سجينة. فقد التحم مع الدوق داركور الذي سخر من مصر والمصريين. فرد عليه قاسم أمين الذي كان يتقن اللغة الفرنسية بكتاب سمّاه «المصريون» باللغة الفرنسية، بنخوة بارزة، منتصراً للمجتمع التقليدي، فدافع عن فكرة تعدد الزوجات، وهاجم تحرر المرأة الأوروبية الذي اعتبره مسخاً للشخصية البشرية، وأفضلية الرجل على المرأة، لدرجة انتفاض الأميرة نازلي التي أبلغته غضبها ورفضها لأطروحته عن طريق محمد عبده، فتراجع عما صدر منه، وكتب كتاب «تحرير المرأة» (1899) الذي كان إيذاناً بمرحلة جديدة ليس فقط في فكره ولكن في المجتمع المصري وتقاليده، أردفه بـ «المرأة الجديدة» (1900). أيده في مشروعه الإصلاحي محمد عبده وسعد زغلول وأحمد لطفي السيد. فقد خص في «تحرير المرأة» جزءاً كبيراً للحجاب، حيث أكد فيه أن حجاب المرأة السائد ليس من الإسلام، وقال إن الدعوة إلى التحرر ليست خروجاً عن الدين. وتحدث أيضاً عن تعدد الزوجات والطلاق، وقال إن التفريق بين المرأة والرجل لم يكن أساساً من أسس الشريعة، وإن لتعدد الزوجات والطلاق حدوداً يجب أن يتقيد بها الرجل، ودعا لتحرير المرأة لتخرج للمجتمع وتلم بشؤون الحياة. في السنة نفسها، رد عليه زعيم الحزب الوطني آنذاك مصطفى كامل، حيث هاجمه وربط أفكاره بالاستعمار الإنجليزي، ورد عليه أيضاً الاقتصادي المصري طلعت حرب، بكتاب «فصل الخطاب في المرأة والحجاب»، ومحمد فريد وجدي بكتاب «المرأة المسلمة». في غياب الجدل الحقيقي والعلمي، حل الإقصاء والضغينة والتهمة. فقد اعتُبر كتاباه «تحرير المرأة» و»المرأة الجديدة» امتداداً لـ «الفكر الاستعماري».
قاوم قاسم أمين هذه العاصفة ست سنوات قبل أن يستسلم لها. فتراجع عن أفكاره، التزام المصلح الذي ناصر المرأة وتحمل من أجل أفكاره التنويرية شتائم المحافظين. فبدأ بانتقاد نفسه ومشروعه. نشرت إحدى الجرائد (الطاهر في أكتوبر 1906) نقلته لاحقاً (المجلة العربية العدد 137)، بعض اعترافاته التي بدت غريبة: «لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك، بل الإفرنج في (تحرير نسائهم) وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق الحجاب وإشراك المرأة في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم، ولكن … أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس، فلقد تتبعت خطوات النساء من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال وأخلاقهن بكل أسف، ما جعلني أحمد الله ما خذل دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي… رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا عليها بألسنة البذاءة، وما وجدت زحاماً فمرت به امرأة إلا تعرضوا لها بالأيدي والألسن»، هل هي عودة الوعي الغائب كما في حال توفيق الحكيم؟ الإعلان عن عجز فكري صعب تخطيه؟ خيبة كبيرة من هذا الارتداد أصابت بعض النخب النسوية، لدرجة أن نتساءل إذا ما كان صاحب هذا التصريح هو نفسه المصلح الذي ناصر تحرر المرأة؟
يجب تأمل لحظات الردة الفكرية كيف تحدث وكيف تتسع مستدعية كل المبررات التي تجعلها مقبولة في المنظور الاجتماعي العام. المبررات التي قدمها قاسم أمين لا تقنع، ولكنه يلفها ضمن نسق أخلاقي سبق أن خاض حرباً ضده. الغريب كأنه عاد إلى قدامته archaïsme الأولى التي سبق أن نشرها في كتابه «المصريون» قبل أن يتراجع تحت ضغط الأميرة نزلي، ويعود لها في 1906؟