شعر

في تموز اختار محمود درويش إغلاق الدائرة بالعودة إلى حبيبته المدللة حيفا حتى لو غارت عكا

بيدر ميديا/صحافة.

في تموز اختار محمود درويش إغلاق الدائرة بالعودة إلى حبيبته المدللة حيفا حتى لو غارت عكا

 

وديع عواودة

 

الناصرة ـ «القدس العربي»: في الثامن من أغسطس/ آب 2008 رحل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش. وفي منتصف يوليو/ تموز2007 كانت زيارته الأخيرة للجليل، مراتع ومنابع شعره الأولى، وفي قمة الكرمل وحيفا التي سكنها في شبابه فسكنته كل العمر في منفاه، قدم واحدة من أجمل أمسياته وربما آخرها.
ويبدو أن هذه الزيارة وهذه الاحتفالية اندرجتا ضمن زيارة وداع لمسقط الرأس والأهل كما يعتقد مقربون منه، كيف لا وقد كان هاجس الموت قد تصاعد منذ أزمته القلبية وبعدما أبلغه طبيبه الفرنسي بأن قنبلة موقوتة تسكن داخل صدره.

الزيارة الأخيرة

في هذه الزيارة الأخيرة للوطن اختار محمود أن يبوح بحبه لعروس الكرمل مدينة شبابه وأحلامه، وهي مدينته المدللة والمحببة، حتى لو غارت عكا التي وصفها يوما بأنها أجمل المدن القديمة وأقدم المدن الجميلة.
كانت زيارة محمود درويش الأولى للجليل وحيفا في مايو/ أيار 1996 حينما جاء ليؤبن صديقه وزميله الأديب الراحل إميل حبيبي في حفل احتضنه مدينة الناصرة. بعدها زار درويش عام 1999 كفر ياسيف البلدة الجليلية التي احتضنته خلال المرحلة الثانوية، بدعوة من جمعية أصدقاء مدرسة يني يني.
في الزيارة الأخيرة عام 2007 لبى محمود درويش الدعوة، وكانت من قبل الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة بالتعاون مع مجلة «مشارف» ومحررتها سهام داهود. وهذا أثار جدلا غير متوقع داخل أراضي 48 بالأساس مع أوساط مقربة من حزب التجمع الوطني الديمقراطي ممن عابوا عليه الزيارة بتصريح إسرائيلي، وذهب بعض هؤلاء لحد الطعن بزيارة الشاعر الذي دخل حيفا بتصريح من الاحتلال، في مقال حاول الطعن بالشاعر والنيل منه بعنوان مسيء «محمود درويش بـ 50 شيكلا: سجل أنا عربي، وسعر بطاقتي خمسون.. شيكلا».
يشار الى أن التذاكر التي بيعت وقتها رصد ريعها لدعم مجلة «مشارف» ولتغطية نفقات استئجار القاعة الكبرى في قمة الكرمل، حيث تمت الأمسية الاحتفالية المهيبة الأخيرة. وقتها رد محمود درويش على القادحين به بالقول والتلميح إن الحملة عليه صادرة عن «صبية» و«أولاد صغار» و«أنصاف مثقفين يملأهم الغيظ والغيرة».
وقال لكاتب هذه السطور في تلك الليلة « لا أفهم لغط هذه المجموعة من الصبية لأنني ذاهب إلى بلدي وليس إلى الكنيست. ذاهب لأقرأ الشعر لجمهوري العربي في حيفا التي لم أزرها منذ 40 عاما». وتابع متسائلا: ليست المرة الأولى التي أزور فيها بلدي وألتقي شعبي وفي كل مرة كنت أحصل على تصريح لمدة يومين من الحاكم الإسرائيلي بوساطة وتدخل من النواب العرب في الكنيست، فلماذا تثار كل هذه الضجة على زيارتي لحيفا؟
وختم عتابه بالقول «أتوقع أن يعترض على الزيارة الإسرائيليون، لكن أن يأتي الاعتراض والاتهام من سواهم فهذا ما يثير حفيظتي واستهجاني، فهما يصدران عن ذوات ترجح الحساسية الشخصية على المصلحة العامة».
وقتها تعرض محمود درويش لهجمات إسرائيلية متوقعة من اليمين تزامنا مع انتقادات إعلامية للنواب العرب في الكنيست لمقاطعتهم حفل تنصيب شيمعون بيريس رئيسا للدولة، وحتى صحيفة «هآرتس» قالت في عنوانها «درويش انتصر على بيريس».
في تلك الليلة التي بدت للكثيرين حلما على غمامة صيفية بيضاء ازدحمت قاعة الأوديتوريوم في قمة الكرمل حتى آخر مقعد، بل اكتظت أدراجها وممراتها بالمقاعد، فيما نقلت وقائع الأمسية الاحتفالية عبر شاشات كبيرة إلى قاعة مجاورة، فيما كانت الجزيرة مباشر تبثها بثا حيا مباشرا وبقي مئات من الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر يقفون في طوابير على عتبة القاعة، ربما يسترقون السمع علهم يظفرون بسماع محمود.
بعد غياب دام 37 عاما، احتضنت مدينة حيفا في تلك الليلة الخالدة أمسية تاريخية للشاعر محمود درويش، قرأ فيها الشعر ومارس السياسة على طريقته المجازية المفعمة بالحزن على ما يجري والأمل في تجاوز المحنة، وبالتأكيد على أن الحق لا يموت. وقال درويش مستهلا اللقاء: سألوني ألا تخشى على حياتك في الكرمل؟ قلت لهم لا اتمنى نهاية «أعلى وأجمل» ردا على ما أثير من مخاوف ولغط إعلامي سابق على حياته لحضوره الى إسرائيل.

في زيارة وداع سبقت رحيله في 8 آب

أكد درويش في كلمة ألقاها أمام حشد كبير من عشاقه، أن ذاته الشعرية تبلورت في الوطن الأول حيث سلك «الطريق الوعرة إلى مغامراته» مشيرا إلى أن الفلسطيني لا يمتلك «ذاتاً ذاتية، ولا حق له في الوجود خارج صراع حقه مع القوة التي اقترحت عليه طريقا وحيدا للنجاة: أن يكون الخروج من الجغرافيا خروجا من التاريخ».
وفي إشارة لما يعايشه الفلسطينيون من محن هذه الأيام استطرد درويش بالقول إن «من سوء حظهم أن الركاكة ماثلة أمامهم بعدتها الكاملة». وأضاف بلغة تختلط فيها السخرية مع الاحتفاظ بالأمل «لكننا نجحنا في أمر واحد: نجحنا في ألا نموت، حتى لو ارتكبنا من الأخطاء ما سيدفع هوميروس إلى إعادة يوليسيس إلى أكلة اللوتس لينسوه طريق العودة». كما تخللت كلمة درويش إشارة إلى الصراع على الحق التاريخي للفلسطينيين في أرضهم بقوله «إنه ليس من حق المؤرخين أن يسلخوا عنها اسمها وأن يشككوا بهوية أصحابها الأصليين».
وتابع ضمن سجالية مبطّنة مع الصهيونية حول الحق التاريخي ونبشهم الدائم عن موجودات أثرية تاريخية تدعم مزاعمهم في البلاد «ولأن الإسراف في البحث عمّن سبق في بناء الأسطورة، ومن كتب على الحجر قبل الآخر لا يخص سوى علماء الآثار العاجزين عن الإتيان بالبرهان، فإن حقنا في وطننا الوحيد لا ينصاع إلى سجال البراهين المترف لأننا نحن البرهان. إذ لم نولد في غير هذا المكان، ولم نضع على الورق مشروعا لبناء أمّة تبحث عن أرض خالية من السكّان».
وعن إشكالية الوطن والدولة بالنسبة للفلسطينيين قال درويش إن «الضحية الفلسطينية أدركت أن عليها، لتبقى وتبقي حقها في الغد، أن تجري تمييزا ما بين حقها في الوطن وحقها في دولة على أرض وطنها الذي جعلته العملية التاريخية بلدا لشعبين».
وأشار إلى إمكانية أن تتمتع أرض السلام والمحبة بتسميتها، معتبرا أن عقلية الغيتو الإسرائيلية تقبض على هويتها المضغوطة كما تقبض على قنبلة، وتخشى من اندماج محتمل بين اللاعادي والعادي وتغلق الذات على الذات خوفا من هواء الآخرين. وتطرق الشاعر لما شهده قطاع غزة من قتال بين الأخوة الأشقاء الفرقاء بتصوير ساخر موجع كضرب السكاكين لمن لم يمت الإحساس فيه، قائلا» انتصرنا واستقلت غزة عن الضفة الغربية وصارت لشعب واحد دولتان، زنزانتان لا تتبادلان التحية. فيا لنا من ضحايا في زيّ جلادين… انتصرنا ونحن نعلم أن الاحتلال هو المنتصر».
وأكد درويش أن الاحتلال ساهم في شحن من أسماهم بالمحاصرين المحبطين بطاقة العنف داخل الأسرة الواحدة. وأضاف «المنتصر فينا مهزوم دون أن يعلم. والمهزوم فينا لا يتعلم درس الهزيمة. لكننا نؤمن بأن الروح الحية في هذا الشعب البطل الذي استعصى على مشروع إبادته السياسية على أيدي أعدائه، ستعرف كيف تضع حدا لجنون أبنائه، وكيف تمنع قتل المعنى».
وعما حصل من اقتتال وسفك دماء وتغليب، أضاف متألما: «إن صحوت من الغيبوبة على علم بلون واحد يسحق علما بأربعة ألوان.. على أسرى بلباس عسكري يسوقون أسرى عراة، فيا لنا من ضحايا في زي جلادين».
محمود الذي سبق وقال ما أوسع الثورة وما أضيق الرحلة.. ما أكبر الفكرة ما أصغر الدولة، عاد وقال في حيفا بين جد وابتسامة: «الدولة الفلسطينية واحدة من عجائب الدنيا السبع..لأن الاحتلال يريدها هزيلة عليلة».
زبعد المقدمة النثرية حان موعد القصيد فقرأ درويش أمام جمهور عاشقيه في مدينته حبيبته المدللة، على مدى ساعتين، عشرين قصيدة من دواوينه الحديثة «كزهر اللوز أو أبعد» و«لماذا تركت الحصان وحيدا» مصحوبا بعزف على العود للأخوين الفنانين وسام وسمير جبران. ومن جملة هذه الباقة الشعرية ألقى محمود درويش قصيدة «أنا يوسف يا أبي» التي قابلها الحضور بتصفيق طويل.

«أحن إلى خبز أمي»

ورغم انزعاجه من قصائد البدايات ختم اللقاء بقصيدته المعروفة «أحن إلى خبز أمي» بناء على طلب الجمهور الذي لم يتوقف عن التصفيق للشاعر واحتضانه ببحر من الحب والتقدير.
يذكر أن درويش (66 عاما وقتها) قد زار ذويه والتقى بوالدته حورية درويش في قرية الجديدة في الجليل داخل أراضي 48، وعاد في اليوم التالي إلى رام الله حيث استقر حتى رحيله.
النائب محمد بركة عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة التي نظمت الأمسية بالتعاون مع مجلة «مشارف» قال معقبا وقتها إن لقاء درويش بأهله كان حدثا إنسانيا مؤثرا.
ولفت إلى الطريقة التي استقبلت بها الأم التي قاربت التسعين ولدها الشاعر، الأمر الذي دفع الجميع إلى البكاء تأثرا دون استثناء.
وقبيل تلك الأمسية قال درويش في حديث لصحيفة «هآرتس» العبرية ردا على سؤال عن مشاعره وهو عائد إلى حيفا،» إنه عندما تجاوز سن الخمسين تعلم التحكم بمشاعره. وتابع «أسافر الى حيفا بلا توقعات. ثَمّ غطاء علي قلبي. قد أذرف بضع دموع في قلبي لحظة لقائي الجمهور. أتوقع احتضانا حارا، لكنني أتخوف أيضا ان يخيب أمل الجمهور، لأنني لا أنوي أن اقرأ كثيرا من القصائد القديمة. لا أريد أن أظهر بمظهر الوطني أو البطل أو الرمز. سأظهر كشاعر متواضع».
■ لماذا تستهين بقصائدك القديمة؟
□ «عندما يعلن أديب بأن كتابه الأول هو الافضل يكون ذلك سيئا. أنا أتقدم بدأب من كتاب الي كتاب».
ما الذي تنوي قوله في المناسبة في حيفا؟ «أريد أن أتحدث كيف هاجرت من الكرمل وكيف أعود الآن، وأن اسأل نفسي لماذا هاجرت».
■ هل تشعر بالأسي لأنك غادرت في 1970؟
□ «يثمر الزمن احيانا الحِكمة.علمني التاريخ ما هو الشعور المتهكم. سأسأل دائما سؤالا: هل أنا نادم لأنني تركت في 1970؟ خلصت الى استنتاج أن الاجابة غير مهمة. قد يكون سؤال لماذا هاجرت من الكرمل أهم».
■ لماذا هاجرت؟
□ «كي أعود بعد 37 سنة. يعني ذلك أنني لم أهاجر من الكرمل في السبعين ولم أعد في 2007.كل شيء مجاز. إذا كنت الآن هنا في رام الله وفي الأسبوع القادم على الكرمل وأذكر أنني لم أكن هناك 40 سنة تقريبا، فإن الدائرة تُغلق وهذا السفر كله الذي طال سنين كان مجازا».
وردا على سؤال حول وجود أمل أو مستقبل للفلسطينيين، قال ضمن إجابته على هذا السؤال» إن لم يوجد الأمل علينا إيجاده».
■ كيف تفعل ذلك؟
□ «أنا عامل استعارات لا عامل شعارات. أؤمن بقدرة الشعر الذي يمنحني أسبابا للنظر الى الأمام ولتعرف بارقة ضوء. قد يكون الشعر وغدا. فهو مزور ومحرف، ويستطيع ان يجعل غير الواقع واقعيا، والواقع خياليا. يستطيع ان يبني عالما يناقض العالم الذي نعيش فيه. أرى الشعر دواءً روحانيا».
■ هل الاستعداد للسلام كان متبادلا؟
□ يشكو الإسرائيليون من ان الفلسطينيين لا يحبونهم. هذا أمر مضحك. يتم السلام بين دول ولا يقوم على الحب. ليس اتفاق السلام حفل زواج. انا أتفهم كراهية الإسرائيليين. فكل إنسان طبيعي يكره العيش تحت الاحتلال. نصنع السلام قبل وبعد ذلك نمتحن مشاعر الحب او عدم الحب. قد لا يأتي الحب أحيانا بعد صنع السلام. فالحب مسألة خاصة ولا يمكن فرضها علي الغير».
■ هل يبدو لك انك ستحظى في حياتك برؤية اتفاق سلام بين الشعبين؟
□ «لست يائسا. أنا ذو صبر وانتظر ثورة عميقة في وعي الإسرائيليين. العرب مستعدون لقبول إسرائيل القوية والمتسلحة بالسلاح الذري ويجب عليها فقط أن تفتح أبواب قلعتها وأن تصنع السلام. كفوا عن الحديث عن خطى الانبياء وعن حروب بلعام وعن قبر راحيل فهذا هو القرن الـ 21 ».

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com