ثقافة

أية وحدة٫٫٫ وأي تعدد؟

بيدر ميديا.."

أية وحدة٫٫٫ وأي تعدد؟

سعيد يقطين

 

بدأت تسود في الخطابات والنقاشات الحالية قضايا تتعلق بوحدة الثقافات والهويات أو تعددها. وصار الكثيرون يتحدثون عن الوحدة والتعدد. أي بات التسليم بوجود هويات وثقافات ولغات متعددة في الوطن الواحد، أمرا واقعا، وذلك دفعا لأي تنازع أو تصارع بين مختلف مكونات مجتمع ما. فهل نتحدث في هذا السياق عن: الوحدة والتعدد؟ أم عن التعدد في نطاق الوحدة؟ أم عن الوحدة في التعدد؟
أؤكد أن هذه الأسئلة تميز بين أشكال من العلاقات بين الوحدة والتعدد. وما لم نحسن التمييز بينها لا يمكننا إلا أن نقع فريسة الاستعمالات، التي نسلم بها، دون أن نتفق على تفاصيلها.
إذا أخذنا المغرب نموذجا، وهو ما يمكن تعميمه على كل الدول العربية، نعاين أن وحدة مكونات المجتمع كانت قائمة، وإن اختلفت أو تعددت خصائصها ومقوماتها. يكمن ذلك منذ أن انتشر المذهب المالكي وهيمن في كل الغرب الإسلامي، بما فيه الأندلس قديما. وإذا كان التمييز المذهبي شأن الفقهاء والعلماء، فإن كل الشعب كان يرى وحدته في تشبثه بالإسلام، الذي على أساسه كان يميز نفسه عن اليهودي والنصراني.
فاليهود كانوا يشكلون نسبة من المغاربة لهم ارتباط بدين يقر به المسلمون، تماما مثل النصارى، الذين تعرفوا عليهم من خلال العلاقات، التي كانت تربط بينهم منذ الفتح الإسلامي بصورة عامة، ومنذ الاستعمار بوجه خاص. ظل المغاربة طيلة فترة الاستعمار يتحدثون عن النصراني، وليس عن الفرنسي، ولا يميزون في ذلك بين الإسباني والإيطالي وغيرهم، فكلهم نصارى.
ولما كان النصارى قد فرضوا أنفسهم على المغرب بالقوة، فكان حضورهم في الحياة اليومية، ولا سيما في المدن مهيمنا. أما اليهود فبسبب تعايشهم مع المسلمين المغاربة لعدة قرون، كانت العلاقة التي تربطهم بهم جيدة، على المستوى العام.
كان الإسلام يوحد المغاربة قاطبة، ورغم التعدد الديني، بسبب وجود أهل الكتاب (اليهود) بين ظهرانيهم، كان الاعتراف بهذا الدين في نطاق هيمنة الإسلام. فلم يتدخل المغاربة في دينهم، ولا في عاداتهم وتقاليدهم. كما كان اليهود مقرين بأنهم يعيشون في أحضان مجتمع إسلامي، فلم يكن من بين أهدافهم سوى ضمان حريتهم وممارستهم، التي كان المسلمون يضمنونها لهم.
أما نصارى الاستعمار فكانوا يعملون على فرض هويتهم ولغتهم على مسلمي المغرب. فلم يكونوا يقرون لا بتاريخه، ولا بلغته، ولا بدينه. بل إنهم مارسوا التمييز بين المغاربة باستغلال الأمازيغية، للتفرقة، وفرض تعدد الهويات، لتبسط من خلاله وحده هوية الاستعمار على الأهالي. فكان الصراع والمقاومة، من جهة. وكانت الخيانة والتواطؤ من جهة ثانية، ولا سيما من لدن بعض من باتوا يرون أنفسهم مختلفين، ولهم مقوماتهم الخاصة.
ولاحظنا هذه الصورة متكررة في التجربة العراقية، بعد الاحتلال الأمريكي، وتدمير وحدة البلد. فكل الهويات التي ظلت ترى نفسها مهضومة الحقوق حاولت الظهور وفرض نفسها، بل والدعوة إلى إبادة الهوية، التي كانت مهيمنة، فكان التنابذ والصراع الطائفي، الذي ما يزال يفرض نفسه إلى الآن.
نجد إلى جانب الوحدة الدينية التي تجمع المغاربة تعددا على المستوى الإثني واللغوي. فهناك قبائل عربية، وأخرى أمازيغية. وكان كل مغربي له انتماؤه الخاص إلى قبيلة محددة. وطبيعي أن يعتز بها ويدافع عنها في نطاق الصراعات، التي كانت تحدث بين القبائل فيما بينها، وبينها جميعا والسلطة المركزية (المخزن). لكن كلما وقع اعتداء خارجي كانت الاختلافات الهوياتية المتعددة تتلاشى، وتعود الوحدة لتجمع مختلف القبائل والمخزن على الحفاظ على سلامة البلاد والعباد. وكل تاريخ المغرب في صراعه مع الإسبان والبرتغاليين والاستعمار دال على ذلك. ولهذا السبب لم يكن اختلاف الهويات المحلية بين مكونات المجتمع المغربي دالا على التمايز، الذي يقضي بالانعزال وتأكيد الاختلاف، بل كان دالا على الوحدة. فكان التزاوج وتبادل المصالح، والارتحال من فضاء لآخر مؤكدا على هوية عامة موحدة.
كان الصحراوي يتزوج أمازيغية، وكذلك العربي يتصاهر مع الصحراوي والأمازيغي. وقد يعيش الناطق بالأمازيغية في منطقة عربية فيتكلم لغتها، وكذلك الأمر بالنسبة للعربي. فكان التمازج والاختلاط والتساوي في الحقوق والواجبات قائما خلال كل التاريخ المغربي.
فما الذي يجعلنا الآن نتحدث عن الهوية في المغرب الحالي، ويجعلنا نتناقش: من نحن؟ وما أصلنا وفصلنا المدعم بالوثائق والجينات، وندعو إلى محو الأساطير الدينية والتاريخية، ونحلم بخلق أساطير وأديان لا أحد يعرفها، ولا علاقة له بها؟ ونعمل من أجل خلق هوية صافية نقية طاهرة معلقة فوق التاريخ والجغرافيا؟ أختزل جوابي في الفشل: إنه فشل ثقافي وعجز سياسي. ولا يؤدي الفشل والعجز سوى إلى استعادة أساطير يتوهم صاحبها أنه بها سيخلق واقعا جديدا.
حين لا تقوم الوحدة على القيم وأخلاق التسامح ومبادئ التعايش، يكون التعدد أساس الخلاف والصراع والحقد. وحين تتدخل أمريكا وإسرائيل، وقبلهما الاستعمار، ليملوا علينا ما يجب أن يُوحِّدنا نحن المغاربة والعرب والمسلمين من قيم ومعتقدات تتعارض مع ما كان يوحدنا قديما، فإنهم يسعون بذلك إلى أن يكون تعددنا وافتراقنا في خدمة وحدة مصالحهم في المنطقة، وهذا مما لا يحتاج إلى برهان.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com