منوعات

الأخطبوط الذي خنق صحيفة «الغارديان» البريطانية.

بيدر ميديا.."

الأخطبوط الذي خنق صحيفة «الغارديان» البريطانية

هيفاء زنكنة

 

إذا كنا في البلدان العربية قد تعودنا على قيام السلطات الدكتاتورية بقمع حرية الرأي والتعبير، من سجن الصحافيين إلى منع تداول الكتب، لأسباب تثير الذهول لابتذالها وعدم القدرة على استيعابها، فإن سبب الهجوم المكثف على صحيفة الغارديان يوم السبت الماضي وما دفعها إلى الإعتذار الفوري، قد نجح في التماهي، في جوهره، مع ما تقوم به السلطات العربية القمعية من إسكات للأصوات المستقلة بإختلاف الأسلوب. فمن كان يتصور أن رسم صورة أخطبوط هو فعل عنصري يستدعي الإعتذار وحتى إنزال العقاب بمن رسمه في بلد يعتبر أجهزة إعلامه وسلطاته الأكثر ديمقراطية وإبتعادا عن السلطوية؟
لفهم وقائع منع رسم الأخطبوط، علينا النظر فيما سبق « الفعل العنصري» من أحداث. بعيدا عن إضرابات المعلمين والأطباء والممرضين التي تفضح عجز الحكومة البريطانية الحالية عن حل أزمات تشّل الحياة اليومية ومستقبل أهم ركائز التعليم والصحة، وبعيدا عما بات خرقا للقوانين الدولية في التعامل اللاإنساني مع محنة اللاجئين، عاشت أجهزة الإعلام البريطانية أجواء عاصفة تتعلق بالعلاقة المتشابكة بين الحكومة واستقلالية المؤسسة الإعلامية العمومية وانعكاسات ذلك على طبيعة العمل الصحافي وما تقود إليه من مساحة تتسع لحرية الرأي وموضوعيته.
بدت بوادر العاصفة مع تسرب ما أشار إلى أن تعيين ريتشارد شارب كرئيس لهيئة الإذاعة البريطانية ( بي بي سي) لم يتم، كما هو مفترض وفقا للميثاق الملكي للإذاعة الوطنية، الذي ينص على وجوب إقرار التعيين فقط بعد منافسة نزيهة، عادلة، ومفتوحة، فتم تشكيل لجنة تحقيق أكد تقريرها أن تعيين شارب جاء مخالفا للميثاق إذ أنه تم بعد أن ساهم بتسهيل ضمان قرض لرئيس الوزراء السابق بوريس جونسون، قيمته 800 ألف جنيه إسترليني، وذلك قبل أسابيع من تزكية جونسون له لتولي هذا المنصب. وأن جونسون كان على علم بأنه تقدم لطلب العمل كرئيس للهيئة. استقال شارب من عمله مباشرة بعد صدور التقرير، يوم الجمعة الماضي، مبررا في بيان استقالته أن نتيجة التقرير حول تضارب المصالح وما قام به كان غير مقصود تماما.
أثار التقرير ضجة إعلامية كبيرة وتساؤلات حول عمق الفضيحة ومدى تغلغل النفوذ السياسي المالي في تعيين رئيس لهيئة إعلامية وطنية، يُفترض فيها الاستقلالية السياسية، خاصة وأنها تعتمد في ميزانيتها على المبالغ المالية التي يتم تحصيلها من رسوم الرخصة المستحصلة من المواطنين وتغطي كافة نفقات برامج بي بي سي وخدماتها ـ بما في ذلك التلفزيون والإذاعة، وموقع بي بي سي ونشرات البودكاست. كانت صحيفة «الغارديان» واحدة من الصحف التي غطت الحدث، وتميزت بنشرها عدة آراء رسمت خارطة تفصيلية حول تشابك التعاون المالي ـ السياسي وتداخل النفوذ والمصلحة المالية بين شارب، المصرفي السابق في بنك غولدمان ساكس الذي أصبح شريكا فيه وهو في منتصف الثلاثين من عمره، ورئيس الوزراء السابق بوريس جونسون ورئيس الوزراء الحالي ريشي سوناك.

كان من الطبيعي أن يرسم كاريكاتيرا حول استقالة شارب وعلاقته بجونسون وسوناك وأخطبوطية العلاقات المتشابكة المالية السياسية

إذ كان شارب رئيس سوناك الذي عمل في المصرف بعد تخرجه. وتعمقت العلاقة أكثر بينهما وبين جونسون عندما عيّن جونسون سوناك وزيرا للمالية فقام بدوره بتعيين شارب مستشارا له.
ولأن لصحيفة « الغارديان» تقليدا في نشر كاريكاتير يومي يرسمه الفنان مارتن روسون، كان من الطبيعي أن يرسم كاريكاتيرا حول استقالة شارب وعلاقته بجونسون وسوناك وأخطبوطية العلاقات المتشابكة المالية السياسية. وبينما تُمرر كل أعمال روسون النقدية الجريئة المستهدفة للأزمات السياسية والاقتصادية والمجتمعية بإعتبارها جزءا لا يتجزأ من حرية الرأي، قامت الدنيا ولم تقعد ضده وضد الغارديان حالما نشر كاريكاتيره عن شارب. لماذا؟ وما هو الكاريكاتير الذي سحبته الصحيفة من موقعها واستدعى اعتذار روسون؟ ما هي قصة الأخطبوط؟
أظهر الكاريكاتير شارب وهو يحمل صندوقا عليه علامة غولدمان ساكس، البنك الاستثماري الذي كان يعمل فيه. يحتوي الصندوق على أخطبوط ودمية لريشي سوناك. بجانب شارب، يجلس جونسون عارياً على كومة من الروث والنقود، وهو يخاطبه صارخا: « ولا يهمك يا صديقي. لقد أضفتك إلى مرتبة النبلاء في قائمة الشرف الخاصة باستقالتي». أثار الكاريكاتير، الذي نشر بعد يوم من استقالة شارب، ومن نشر الغارديان مقالات عن أخطبوطية النفوذ المالي السياسي، من بينها « لشارب أصدقاء في كل مكان» هجوما سريعا من جهات إرتأت ألا تمر تغطية الغارديان بسلام.
فما هو السبب ألذي تسوقه حملة المهاجمين ؟ يقول مسؤول مؤسسة « الأمن المجتمعي» التي «تهدف إلى توفير السلامة والأمن والمشورة للجالية اليهودية ورصد كل ما تراه معاد للسامية» الذي قاد الحملة أن الكاريكاتير معاد للسامية، أولا: لأنه صوّر شارب، بشكل مشابه للصور الأخرى التي تصور اليهود «بملامح ضخمة ومخيفة، غالبًا مقترنة بالمال والسلطة». وهو عنصري لأن الرسوم الكاريكاتورية العنصرية التي تهاجم اليهود عبر التاريخ صّورتهم بملامح مبالغ فيها. مع العلم أن من يلقي نظرة على كل رسوم الكاريكاتير، للفنان نفسه، سيجدها تحمل أسلوبه المتميز برسم الأجساد والوجوه الثقيلة والملامح المشوهة الضخمة للأشخاص، وبخلفية داكنة تشي بالسخرية والتهكم. ثانيا: إن تصوير شارب وهو يحمل الصندوق يصوره كيهودي « يتحكم سرًا في النظام العالمي الاقتصادي والسياسي، وهو عبارة عن سرد طويل الأمد ومجازي معاد للسامية يستخدمه منظرو المؤامرة». مع العلم، أن كون شارب يهوديا لم يكن محط إشارة من أي شخص أو جهة تناولت استقالته ونفوذه المالي والسياسي. وهو ما ذكره الفنان عند إعتذاره عما أثاره عمله حساسية البعض، مؤكدا أن «يهودية شارب لم تخطر ببالي أبدًا كما رسمته».
من الواضح، إذن، أن جوهرالحملة المعادية يستند إلى الدين، مما يثير إشكالية في النظر بشكل مختلف إلى الكاريكاتير وبالتالي التساؤل من ذات المنطلق. فهل يحق لنا التساؤل عن الموقف من وجود جونسون، رئيس الوزراء السابق ( المسيحي) عاريا وجالسا بشكل مهين على كومة روث؟ وسوناك رئيس الوزراء الحالي (الهندوسي) المُقّزم في الصندوق؟ لماذا لم يستنكر الصحافيون والممثلون وأعضاء البرلمان الذين سارعوا إلى توجيه الاتهامات كيفية تصوير هذين المسؤولين؟ أم أن هناك دلائل أخرى تؤكد معاداة السامية في الكاريكاتير «والناس لا يلاحظونها» كما يوضح قائد الحملة، مضيفا مفردة جديدة إلى قائمة مؤشرات «معاداة السامية» بقوله: «المشكلة هي الأخطبوط. هو أيضًا فكرة معادية للسامية شائعة، تستخدم لتصوير مؤامرة يهودية مفترضة».

كاتبة من العراق

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com