ثقافة

سمعتُ كل شئ…وأنا أحث الخطى لمعرفة كل شئ.

بيدر ميديا.."

سمعتُ كل شئ…وأنا أحث الخطى لمعرفة كل شئ.

 

  • مؤيد داود البصام

هو الذي رأى كل شيء/ فغنّي بذكره يا بلادي/ وهو الذي رأى جميع الأشياء وأفاد من عبرها/ وهو الحكيم العارف بكل شيء:لقد أبصر الأسرار/وكشف عن الخفايا المكتومة/وجاء بأنباء ما قبل الطوفان/لقد سلك طرقاً بعيدة/متقلباً ما بين التعب والراحة/فنقش في نصب من الحجر/كل ما عاناه وخبره. ملحمة كلكامش

(سمعتُ كل شئ) رواية الكاتبة سارة الصراف، وهو أول عمل روائي لها تقدمه عبر 408 ص من القطع المتوسط، الصادرة عن دار الحكمة- لندن، جاءت ب60 فصلا، أذا اعتبرنا كل عنوان  قصر أم طال فصلا، لأنه يحمل حدثا مغايرا للذي قبله وعنواناً، مع تحكمها بالتسلسل المنطقي للأحداث على الرغم من استخدامها لغة السينما (السيناريو) في تقطيع الزمن،  تتلاعب به رؤية البطلة  في ملاحقة الأحداث، وقد جنست عملها على ظهر الغلاف (رواية) ولكنها في ص57 تقول( ما مر بي من أحداث سأوردها في هذه المذكرات)، وهنا تضعنا لتجنيس روايتها، كما يطلق على هذا النمط من الأعمال (الرواية السيرية). فهي تدمج بين الواقع وبين رؤياها لخلق واقعاً مغايراً تعيد تشكيله حتى لا يبدو عملها واقعيا مئة بالمئة، ويصلح لشحذ خيال المتلقي والاندماج مع الأحداث، وهو ما اشتغلت عليه ساره الصراف، لتكتب رواية من خلال سيرتها الذاتية وملاحقتها للعالم الذي عاشت أحداثه، تغوص في أعماق ذاتها الساردة وهي تتكئ لتروي تفاصيل الحياة التي عاشتها، ما بين البوح الذاتي وعلاقته بالواقع، وبين شجنها وهي تداور بين انفعال الذات وجحيم المجتمع، محاولة التمرد والتغيير مع التمسك بالعلاقات التي تربطها بجدتها التي تعيش وإياها من دون أب وأم خلال الأحداث في طفولتها.

 

عتبة النص….

تضعنا الروائية منذ البداية في كشف حقيقة أدراك ما تكتب، عندما تضع عنوان روايتها( سمعتُ كل شئ) موازياً لملحمة البطولة الكلكامشية ( هو الذي رأى كل شئ)، وهذا ما سنجده عندما استطاعت بحبكة عالية، أن تجمع أغلب ما  يدور في المجتمع العراقي والذي يمكن مجازاً ينطبق على المجتمعات العربية عموماً، وجمعت مختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، في مظلة البيت الكبير في منطقة الأعظمية- شارع طه، التي كانت منطقة تمثل جزء مهم من الطبقة البرجوازية والارستقراطية وبعض من القيادات التي حكمت العراق في العهد الملكي، مع وجود الطبقات المتوسطة والفقيرة على الهامش، وهي واحدة من المناطق البغدادية التي حافظت على هذا الكيان ، مثل منطقة الكاظمية والكرادة، لتمثل خلاصة المجتمع مع أخذ الحالات الأقل أهمية اجتماعياً كجيران أو محاذين للبيت الذي ضم أغلب أبطالها، ومن هنا تمكنت من تحقيق الرؤية التي انطلقت منها       ( سمعتُ كل شئ)، جدتها التي تمثل الطبقة الارستقراطية التي تتشبث بالبقاء وهي ترى مراحل ثلم هذه الطبقة وبداية خروجها من المجتمع البغدادي كحالة متوارثة، التي بدأت تحدث مثيلها في المجتمعات العربية والعراقية بالذات،]”غرفة الأغراض” الملاصقة لباب السطح، وهي غرفة واسعة تضم كل قديم، لكنه لا يزال عزيزاً على جدتي، ولا تريد أن تعترف بأنه مكسور أو لم يعد ذا فائدة[ص 235..فطوم الخادمة التي يعتبرونها جزء من العائلة، ولا تعامل كأجيرة، لكنها تعرف مكانتها وتعي أنها تعمل لدى العائلة وليس منها، أبن فطومة وزوجته، عايده وأبنها، خالها فارس وزوجته….الخ أخذت أغلب حالات المجتمع واستعانت للتكملة بمن كانوا خارج بغداد، خالتها موده وبقية الأقارب، والأهمية أنها أخذت الزمن المحدد الذي قلب الحالة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية في العراق، أثناء حرب السنوات الثماني، وسنرى أنها ظلت على الحياد في نقل الوقائع وبموضوعية، ولم تتدخل لفرض رأيها على المتلقي، وإنما استخدمت أسلوب السلاسة والحميمية في علاقاتها مع الآخر والأحداث السياسية.

رواية اجتماعية أم سياسية لفهم قلق الموت…

تبدأ الرواية ( سمعتُ كل شئ) في السابع من آب 1982 وتنتهي في 8آب 1988 بنهاية الحرب، فهل هي رواية سيريه لمناقشة الحياة الاجتماعية أو زجت بالواقع لطرح إشكالية الواقع السياسي لتلك الفترة التي حددتها بزمن البداية عندما احتدم الصراع بين العراق وجارته إيران والنهاية في يوم انتهاء الحرب،  وكتبت بأسلوب تعدد الأصوات، الذي جعلته منهاج الرواية، والتي كتب عنه العديد من الدراسات،واخترنا فقرة من كتاب مؤيد الطلال (مفهوم “تعدد الأصوات” بين النظرية والتطبيق)في تساؤله عن رواية فؤاد التكرلي رائد الرواية النفسية في العراق والمتعمق في كشف حقائق المستور في المجتمع العراقي، أذ يكتب( هل هي رواية اجتماعية واقعية سياسية أم استخدمت الواقع المُعاش لطرح إشكاليات فلسفية كبرى أهمها قضية الحياة والموت, والتأمل في الكون والمصائر البشرية؛ ) وأخذنا هذا التساؤل، لان أغلب أعمال فؤاد التكرلي، هي خلاصة الغوص في أعماق المجتمع العراقي واستخلاص في كشف الحقائق المخفية، وهو نفس السؤال الذي سيحكمنا في سردها،  فالوقائع التي ترويها، تضع الخطوط للأسئلة التي ذكرها الطلال عن رواية التكرلي، على الرغم من استخدامها بعض الأحيان صيغة (الاسترجاع) والمنولوج الداخلي إلا أنها باتخاذها أسلوب  تعدد الأصوات، أتاحت لشخوصها حرية التعبير ولم تفرض سلطتها للحديث عنهم خارج نطاق الوقائع، وتقف موقف المراقب على الرغم من أنها تقارن بعض الأحيان بين واقعها وما يحدث للأشخاص أمامها، لدراسة طبيعة هذه الشخصيات، وكشف الغطاء عما يصعب الحديث عنه علناً( عايدة وقصة حبها، وخالتها مودة وطلاقها وزينب صديقتها وخالها) وهذا ما يجعلها في حالة تكافؤ مع شخوصها في حرية التعبير، وتقف بعض الأحيان في رفض التصرفات لبعض شخوصها(عايده) مثلا ولكنها لاتقف موقف الخصومة كما نجدها في الكثير من روايات المتعددة الأصوات، ومثالا وليس حصرا( أبطال دستويفسكي والمؤلف) والسبب أن دستويفسكي كان يكتب عن الصراع بين الخير والشر كفكرة مركزية، بينما في رواية ساره الصراف ، نقل الواقع ورؤية المراقب عن قرب ما يحدث وعفوية الحياة لشخوصها، واستخلاص شخصيات غير نمطية، دون أن تحدد موقفاً،  كاشفة عن عذاباتها وروح القلق التي تتلبسها، والتناقض والاختلاف في العذابات التي تنتابها، ليس لأنها في واقع مغاير ولكنها وضعت في موقف السكون على تفكيرها كونها تتحدث بلسان طفلة ،  ففي الوقت الذي تعيش عايده قصة عذابها وقلقها مع عباس بشخصيتها القلقة كمطلقة وأم لطفل، الذي يجعل موقفها ضعيف وعدم قدرتها على الحسم، تقف شخصية خالتها موده التي تحسم عذاباتها وقلقها باتخاذ قرار الانفصال والطلاق من زوجها، في الوقت الذي ظلت عايده متمسكة على الرغم من رؤيتها في لحظات انهيار كل شئ، ولكن الحسم جاء من الخارج عند إشكالية عباس بعد خروجه سالماً من التحقيق الذي خضع له، أن شخصيات الصراف تعيش حالة القلق والرعب الذي خيم على العراق في حرب الثماني سنوات وقد التقطت أبطالها من واقع القلق المبرر من الخوف و الموت والمجهول، ودخلت إلى أعماق أبطالها دون أن تتدخل في عذاباتهم وقلقهم إلا من ناحية التعاطف لأنها تكتب بلسان طفلة كما سبق القول، وتنضج الحكاية مع سني نضوجها، إنها تحدد مكان سردها بمنطقة محددة من مدينة بغداد ( الاعظمية – شارع طه) وزمن محدد، ولكنها تسرد مشكلات تدور في حياة العراقيين،  وتلاحق أحداثه عبر شخصياتها ورؤياها الذاتية، مبحرة في أعماق أهم حدث حدد مصير الشعب العراقي في تلك الفترة بموضوعية وروح المراقب الذي لا يتدخل في الأحداث ليفرض رأيه ، وأدارت الصراع على الصعيد الشخصي بين شخوصها أو الصراع العام بين الحياة والموت الذي فرض نفسه بقوة أثناء حرب الثماني سنوات، أن وعي السارده بشخوصها، جعلها متمكنة من الغوص في أعماق شخصياتها، والتعبير عنهم، ووصولها إلى المجال الذي تريد قوله، واستطاعت من جر المتلقي في تنقلاتها والإيهام بان وراء القص شئ جديد مما يجعلها على قدم المساواة في ملاحقة الحدث، والتأثير المباشرلتمرير ما تريده، كما أنها استطاعت بقدرتها التحليلية وتأملاتها لشخصياتها ناقلة بسرد متماسك وبواقعية، أن تنقل معاناة تلك النفوس القلقة والمعذبة وهي تعيش حالة الحرب ولحظة التأمل بالنجاة، التي بدت بعيدة بعض الأحيان، وتمنح لحظة التفكير بالموت قوة متباينة بين شخص وآخر، وتفهمنا لماذا انتظرت 16 عاماً حتى تظهر عملها.

السرد وقوة الحبكة…..

تمكنت ساره من تحقيق الإفصاح عن أحلامها وطموحاتها وكل ما تحمله من أفكار وخصوصيات الأنا، بمنتهى السلاسة والشفافية، ودمجتها مع قضايا المجتمع ولم توقف القضايا على شخصيتها وإنما سردتها كمشكلات مستمرة لا تنتهي بسلاسة وتشوق، وتعمقت في دراسة شخصياتها، ولم تتركهم معلقين بين القارئ والمؤلف ، إنما أعطت أبعاد سردها مستخدمة لغة واضحة وكلمات متقنة، وهذا ما جعل الرواية تشكل جزء من فكر ورؤية المتلقي، وهي تبوح له عندما نضجت خبراتها وتجاربها، وامتلكت أفاق جديدة في الحياة، وبهذا تشكل رواية (سمعتُ كل شئ) عملاً مهما في قائمة السردية العراقية والعربية.

ملاحظة على الهامش ….

(ولابد أن أعترف بان جزء من استمتاعي بالرواية لأني أعرف عائلة ساره وعلاقتي بجدها لأمها العلامة أحمد سوسه، وخالها علي عليهما الرحمة ووالدتها د. عالية عن بعد رحمها الله، وأني رايت سارة طفلة، في الزمن الذي كتبت عنه روايتها، عن بعد أيضا أثناء زياراتي لجدها العلامة) ولهذا فهي تذكرني  بجزء من الأيام الجميلة التي عشتها في حياتي ، عندما كانت العائلة العراقية وحدة متماسكة، قبل أن يغزوها الجراد ويفرق شملها قبل وبعد حرب الثماني سنوات،  إنها شاهدة عصرها، لم تنبش في التاريخ وتختار شخصيات تاريخية بزمانها وأحداثها ومعلوماتها، ثم تقوم بإعادة الكتابة عنها، أنها تحدثت عن أيامها التي عاشتها وشخوصها الذين خبرتهم وتفاعلت معهم خلال الفترة الزمنية التي حددتها لسردها، وهي من أصعب الفترات التاريخية في حياة الشعب العراقي والمنطقة، استطاعت أن تلم بأهم المشكلات التي أحاقت بالمجتمع العراقي في وقتها وتضعها أمامنا بكل سلاسة وشفافية، ولم تكتب روايتها بواقعية فتفقدها التشوق والدهشة، أنما مزجت بين الواقع والمخيال،  لتقدم لنا عالم من الوان الجمال الزاهية، على الرغم من الواقع السوداوي الذي لف الواقع العراقي، وغير الكثير من ثوابته الاجتماعية والاقتصادية والفكرية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com