أبحاث

مسارات الحروف وكواليس الكتابة .الحلقة الثامنة.

بيدر ميديا.."

مسارات الحروف وكواليس الكتابة .

د.خيرالله سعيد.

* شـغف الكـتابة في التراث : ح 8
* شكّـل كتـابي الأول ” النظام الداخلي لحركة إخـوان الصفـاء ” تمهيداً جيّداً لوضع اللّـمسات الأولى لكتابي الجديد ” عَـمل الـدُعـــاة الإسلاميين في العصر العبّـاسي ” حيث انـولدت فكرته بالأساس من الكتاب الأول، نظراً لاطّـلاعي الواسع على مصادر تلك المرحلة، مما جعلني ، وأنـا أكتب في الكتاب الأول، أن أفرد ” كشكولاً ” خاصاً لموضوع ” الدُعـاة ” أُدوّن فيه كُـلَّ مايخص هـؤلاء الدُعـاة، وخلال 6 أشهـر فقط، أنجزت هـذا الكتـاب. وقـد كانت لي عـلاقة طيبة ومتطوّرة مع الراحل د. طيّـب تيزيني، لا سيما بعـد أن أجريت معـهُ ” حـواراً مطوّلاً ” نشرته بمجلة ليبية، فصلية إسمهـا ” مجلة الوحـدة الثقافية ” وكان مُـديرهـا الأقليمي الأستاذ الناقـد ، المرحوم ” نـاجي علّـوش ” الكاتب الفلسطيني المعروف . وحين نُشر الحـوار بتلك المجلة، بعثت بنسخة منـه إلى د. طيّـب تيزيني، ليطّـلع على الحوار، ويحتفـظ بـهِ ، ومن ثم طلبت مـنه أن ” يضع مقـدمة لكتابي – عمل الدُعاة الإسلاميين في العصر العبّـاسي ، فاستجاب مشكوراً ، ووضع مقدمة ضافية للموضوع، مما أعطاه دفعـاً معرفيـاً ، وانتشاراً واسعـاً بين الأوساط الثقافية في سوريا وفي العالم العربي .

* * *
* الـورّاقون ، يـداعـبون مخيلتي :
* كنتُ في أغلب أيـام الجُـمعـة، أذهب إلى ” بـاعـة الكُـتب القديمة ” والذين يفرشون بسـطاتهـم على أرصفة المخازن التجارية، في شارع سينما الحمراء بـدمشق، أو عِـند موقف قطار الحجاز القديم، وصار هـؤلاء البـاعة يعرفـونني، ويعرفون مـاذا أُريد، ويخبـؤنـها لي، فـأشتريهـا منهم، وذات مرّة كنتُ عـند مقهـى الحجاز، أحتسي القـهـوة، فلاحظتُ كُـتيّـباً صغيراً وقديمـاً، وهـو عبارة عـن ” كُـرّاسة قديمة ” من غير جـلاد، وأوراقٍ صفراء قاتمة، فنهـضت من مكاني، وغادرت المقهـى، ورفعت ذلك الكتاب من الأرض، وكان عليه عـنوان ” الوراقة والورّاقون في الإسلام ” للبـاحث حبيب زيّـات ، وهو باحث كلاسيكي من مصر، ومؤشّـر على ذلك الكُـتيّب ” منشورات مطبعة المشرق لعام 1948 ، فسـالت صاحب البسطة : كـم سعرهُ ! فقـال : ليرتين ، قلت : هـاتـهُ ، ودفعت له اللّـيرتين ، ورحت أتصفّـح ذلك الكرّاس، والذي يقع في ” 32 صفحة ” من الحجم الصغير، وقلت: أتسلّى بـهِ وأنـا جالس في المقـهى، وما أن فتحت الصفحة الأولى منه، حتى تذكرت حـديث أستاذنـا الراحل د. مصطفى جـواد، في برنـامج ” النـدوة الثقافية ” في التليفزيون العراقي ، في منتصف ستينات القـرن المنصرم ، في عام 1965م ، وأنـا في الصف الرابع الإبتدائي، وقلتُ في نفسي: هـؤلاءِ هُـم من يقصدهـم الراحل د. مصطفى جـواد ، فلا بـأس من الإطـلاع عليـه، وشرعت أقرأهُ وأنـا في مقهـى الحجاز، حتى أنهيته بحدود الساعتين، وأخذت أكتب مـلاحظاتي على النص مُـباشرةً، كإسقاطاتٍ هـامشية، تُـمهّـد لتكوين فكرةٍ مـا . وكان هـذا ديدني في كُـلِّ كتـابٍ أقرأهُ، ويكون عـائداً لي . فـانتشيت بهـذا الكرّاس، وعند الخروج من مقهـى الحجاز، إشتريت ” دفتراً كبيراً – كشكول ” ووضعت عليه تسمية ” الـورّاقــون ” وعند العـودة إلى البيت مساءً، بـدأت أستخرج ” أسماء المصادر والمراجع ” التي أشار إليهـا الباحث حبيب زيّـات ، وأضعهـا في نهـاية هـذا الكشكول، بغية البحث عـنهـا في ” بطـاقات فهـرست المكتية الظـاهـرية ” وشغلتني هذه الحالة في البحث عـن المصادر المذكورة، وأرقـامهـا ورموزهـا الدلالية، لأكثر من إسبوع ، بمعنى أني لا أحتاج بعـد لمراجعة ” فهـرست الكتب في المكتبة الظاهـرية ” بل مـا أريـدهُ أصبح مُـسجّـلاً لدي في ذلك الكشكول، ومـا أحتاجه هـو فقـط ” قسيمة الإستعارة ” من أمين المكتبة، والتوقيع عليهـا وذكر أرقامهـا ورموزهـا .
* كـان هذا الحدث في صيفِ عـام 1989 ، فشغلني هـذا الموضوع بشكلٍ غير متـوقّـع، فقـد أُغـرمتُ بـهِ، حتى أن ساعـات العمل التي أقضيهـا فيه، تصل أحيـانـاً بين 16 – 18 ساعة في اليوم الواحـد، وأشتغلُ بشغفٍ جـارف، لم أعـتدهُ بنفسي من قبل، وأحببت هـذا الموضوع بكل جـوارحي، وبـدأت أنشر بعض الفصول القصيرة مـنه في المجلات الدورية والشهرية، في مجلة ” الفيصل السعودية ” ومجلة آفـاق الثقافة والتراث ” الإماراتية في دُبي ، أو مجلة العربي – الكويتية، وغيرهـا من المجلات العربية . وقـد بـدأت سيطرة التراث العربي وآفـاقه، تُـهـيمن على تفكيري واهتماماتي الثقافية، وبـدأ حديثي مع الناس ومع الأدباء والمفكرين، ينحـو منحىً تـراثيّـاً، بشكلٍ واضح، كما ظهـر ذلك في لغتي التي أتخاطب بهـا مع الناس العاديين، أو في الأسلوب الذي أكتبب فيه مقالاتي ودراساتي، كما بـدأت تـأثيرات الجـاحظ تظهر في أسلوب الكتابة عـندي، بشكلٍ واضحٍ وجلي .
* ما أن إنتهـى عـام 1989 ، إلاّ وكنت قـد قطعت شوطـاً جيداً في مسارات ” بحث الورّاقين ” وقد نشرت في ” مجلة المعرفة السورية ” والتي تصدرهـا وزارة الثقافة السورية، بحثـاً منه بعـنوان ” تطـور أساليب الكـتابة في بغـداد في العصر العبّـاسي ” ممّـا جلب انتباه الكثير من النُـقّـاد والكُـتّـاب في دمشق، حتى أن الباحث الكبير، أستاذنـا الراحل عبد المعين الملّـوحي، أعجب في هذا البحث جـداً، ودعـاني إلى الحضور في ” مقر مجلة الثقافـة ” والتي كان صاحبهـا ورئيس تحريرهـا الأستاذ الشاعر ” مـدحـة عـكّـاش ” لأن الملّـوحي ، كان قـد وزّع ” المقال ” على عِـدة من الروّاد لهذا المجلس الثقافي في هذه المجلة، وهو مجلسٌ يحضرهُ الكثير من الأدباء والمفكرين السوريّين ، وفعـلاً حضرت لذلك المجلس ، أنـا والصديق الراحل محمد خـالد رمضان ، واستقبلنـا الأستاذ ” مـدحت عـكّـاش ” وجلسنا في باحة تلك الدار الدمشقية التي تقع على كتفِ نهـرِ بـردى، والقريبة من بداية شارع أبي رمّـانـة، والمقابلة إلى ” ثـانوية التجهـيز ” المشهـورة بدمشق، وجرى الحديث مع عقولٍ كبيرة ومطّـلعة على التراث العربي – الإسلامي ، وكان ضمن الحاضرين العـلاّمة د. عـدنان درويش، المسؤول عـن ” قسم التراث العربي – الإسلامي ” في وزارة الثقافة السورية، والإستاذ ميخائيل عيد، والأستاذ إليـاس سعـد غـالي، وبعض الأساتذة من جامعة دمشق، فتصدّر الحديث الأستاذ الفاضل عبد المعـين الملّـوحي، وتحدّث بشكلٍ مُسهـبٍ عـن الثقافة العربية في بغداد في العصر العبّـاسي وأشار إلى أهمية تسليط الضوء عليهـا في مقالي المنشور في مجلة المعرفة السورية ، ثم جرى حديث طويل على الموضوع من قبل الحاضرين، وقد أبِـنتُ لهـم بأنّي في أوّل الطريق، للبحث في هـذا الموضوع، ثم شرحت لهـم آفـاق المشروع، والخطّـة التي أسير ُعليهـا في هـذا البحث، فـأثنى الجميع على هـذا الموضوع، وقد دامت تلك الجلسة بحدود الساعتين، ونحن في مقر مجلة الثقافة، لصاحبهـا الشاعر مـدحة عـكّـاش، والذي طلب مني ” بعض المقالات ” لنشرهـا في مجلتـهِ ، فوعـدته خيراً .
* حين خرجـنا أنا وأبو عبدو – الأستاذ محمد خالد رمضان ، إستصحبنـا الأستاذ عبد المعين الملّـوحي إلى دارهِ الموجودةِ في ” ساحة النجمة ” وحين دخلنـا شقّـتهِ، هـالني ما رأيت من ” مكتبة مُذهـلة ” وكلّهـا لكتب التراث، فقال الملّـوحي : كُـل هـذه المكتبـة ، تحت تصرّفك ، في أيِّ وقت، ثم أهـداني بعض مؤلّـفاتهِ ومنهـا : موسوعة الشعراء اللّـصوص 4 أجزاء ، وفهـرست كتاب الأغاني، وتحقيقه لكتاب الزمخشري ” أعجب العجب في شرح لامية العرب ” ، والأدب الفيتنامي – ترجمة له – في 4 أجزاء، ثم ترجمتهِ لديوان الشاعر الباكستاني محمد إقـبال ” جـناح جبريل ” . فشكرتـه جداً، وتمنيت لـه دوام الصحة والسلامة وطول العمر، وقـد أخبرني بـأن لديه ” حـوالي 360 كتاب ، بين مخطوطٍ ومطبوع، في الترجمة والتـأليف والتحقيق والشعر، ولذلك يطلق عليه السوريّـون لقب ” جـاحظ العصر ” .
* سَـرّني هذا اللّـقاء كثيراً، لا سيما وأن الأستاذ عبد المعين الملّـوحي، عرض عليَّ أن يُـراجع بعض فصول كتاباتي عـن الورّاقين، فشكرتـهُ لذلك جـداً، لأنه كان يعشق مثل هذه الموضوعات التراثية .
* حين غـادرنـا البيت قال الصديق محمد خـالد رمضان، كان هذا المساء جميلاً، وحضوراً رائعـاً مع هذه الكوكبة التي كانت حاضرة في ” مجلة الثـقـافة ” إضافة إلى حديث الأستاذ عبد المعين الملوحي، وهذا الأمر سيعـزّز إسمك وحضورك الثقافي بين الأوساط الثقافية السورية، وسترى ذلك في الأيام القادمة، فشكرته على ذلك، ثم ذهبنا سويّـة إلى بيتـه في ” مشروع دُمّـر السكني” وبتُ تلك الليلة هـناك.
* في مطلع شهـر أيّار من عام 1990 ، كنتُ كعادتي في الصباح، أكون في المكتبة الظاهـرية، وقد تجاوزت الساعة الحادية عشر صباحـاً، دخلت سيدة في الخمسين من العمر، وعلى هـيئتـهـا ملامح الوقـار، ودخلت مباشرة على الأستاذ إبراهـيم الزيبق، مسؤول قاعـة الباحثين في المكتبة الظاهـرية، وسلّمت عليه بهـدوء، وبعد حديث قصير معهـا، إنتـبه إليّ وأشار بإصبعه إلى حيث أجلس، ثم قال : أستاذ أبو سعاد، الدكتورة مُـنى إليـاس ، عـاوزة تتحدّث معـاك، فنهضت من مكاني وسلمت عليهـا، وخرجنا من قاعة الباحثين إلى فـناء المكان، جلسنا على الأريكة الخشبية الموجودة هـناك، فبـادرتني د. منى إلياس قائلة : أستاذ خيرالله، نحنُ سعداء أن تكون في ضيافتنـا، في برنـامج تيليفزيوني، في يوم الخميس القادم، إسمه ” في رحـاب الأدب ” وهو برنامج نصف شهـري، نجري فيه أحاديث أدبية وفكرية، حول مختلف الموضوعات في الأدب العربي، والحلقة القادمة ستكون بعـنوان ” الورّاقون في الثقافة العربية – الإسلامية ” وقيل لي بأنّـك تشتغـل في هـذا الموضوع منذ مدة طويلة، وسـأكون سعيدة إذا حضرتك وافقت على الإشتراك معـنا في البرنـامج! ، قـلت : لا مـانع لدي، ولكن ألم تجدي غيري من الباحثين السوريين ليقوموا بهذه المهـمة ؟ قالت : نعم بحثت عـنهم، وتوجهـت مباشرة إلى د. عدنان درويش، مسؤول قسم التراث والمخطوطات العربية – الإسلامية في وزارة الثقافة، وطلبت مـنه ذلك، فقال لي : هـناك باحث عراقي، مقيم في المكتبة الظاهـرية، أكفـأ مني ، حيث أنه يشتغل في هذا الموضوع، منذ مـدة طويلة،. وهـاأنذا قدمتُ منه مباشرة إليك،! قـلت حـاضر، آتيك إلى مقر التليفزيون العربي السوري في ساحة الأمويين ، قـالت : سـأكون بإنتظارك في الساعة 11 صباحـاً، وكنتُ في الموعـد المحدّد، وفي الزمان المحدد، ثم دخلنـا إلى الأستوديو، أنـا وإثنان من الأساتذة الجامعيين، وتم تسجيل البرنـامج، وكانت حلقة من أمتع الحلقات في هـذا البرنـامج، فقد كتبت عنه ” جريدة تشرين السورية، في قسمهـا الثقافي، بعـدهـا زارني الكثير من الأصدقاء وأثنوا على ذلك الحضور في ذلك البرنـامج. ومـن حُـسن حـظّي، أن في تلك اللّـيلة التي عُرضت فيهـا تلك ” الحلقة ” كان يُشـاهـدهـا الأديب السوري ” نـادر السباعي ” وكان قـد سبق لـنا وأن تعارفنـا في إتحـاد الكتّـاب العرب، وكان في ضيافتـه في تلك الليلة، ضيفـاً سعوديّـاً، هـو السيّد مدير دائرة البحوث والنشر في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وقـد شاهـد البرنـامج بكاملهِ ، وقد سـأل الضيف السعودي الأستاذ نـادر السباعي، فيمـا إذا كان يعرفني بشكلٍ شخصي، فقال : نعـم، ويمكن أن نلتقي فيه غـداً، إذا رغبت ! وعنـد الصباح جاءني شاب ، وطرق باب الدار وقال مرحـباً : عمو أنـا فراس بن الأستاذ نادر السباعي، وأبي يريدك أن تـأتي إليه في الحـال، قلت : دعـنا نفطر ونذهب سويّـة ! قال : أبي ينتظرك على الفطور الصباحي، فـارتديت ملابسي، وخرجنا من مخيم اليرموك بسيارتـه، متوجهـين إلى منطقة ” الجسر الأبيض ” بدمشق، ودخلنـا ذلك البيت الدمشقي الجميل، فرحّب بنـا الأستاذ نـادر، وتناولنـا الفطور في باحة الدار، وأخبرني بإعجابهِ عـن حلقة الأمس الخاصة بالورّاقين في التليفزيون السوري ، ثم قال : بالأمس كان عـندي صديق من السعودية، مسؤول الدراسات والبحوث في مركز الملك فيصل، وشاهـدنا الحلقة سـويّة، وقد طلب منّـي أن أعطيك ” كـارت تعريف ” خاص بهِ، لأنـه يريد هـذا الموضوع، إذا كان متكاملاً، لنشره في مركز الملك فيصل، وأعطاني هذا الكارت. فقلت : البحث لم يُـكتمل بعـد، وقد أنجزت القسم الأول مـنه، وبعضـاً من القسم الثاني، والقسم الثالث خاص بـترجمة أسماء الورّاقين. قال : أكتب لـه كل هذه التفاصيل، وتفاصيل العمل ، برسالة خـاصة، وابعثـهـا لـه، كي يكون على اطـلاع أولاً ، وثانيـاً هـو معجب جداً في هذا الموضوع، فلا تفوّت الفرصة هذه ، قلت : افعل، ثم جرى الحديث بينـنـا في قضايا الثقافة والتراث، وضرورة إعـادة قراءة كتب التراث بنظرة معاصرة، وبرؤية نقـدية، تعي مهـامهـا. ثم طال بنـا الحديث لأكثر من ساعة، فاسـتأذنتـه في الذهـاب، بغية العـودة إلى البيت، فنادى على إبنهِ فـراس ليوصلني إلى البيت في مخيّـم اليرموك .
* في الأسبوع الثاني لظهوري في برنـامج ” في رحاب الأدب ” وحديثي عـن الورّاقين في العصر العبّـاسي ، وأنا داخل ” قاعة الباحثين ” في المكتبة الظاهـرية، دخل شخصان يبحثان عـنّي، وسـألا الأستاذ إبراهيم الزيبق عنّي ، فـأشار لهـما علي، فتقدمـا نحوي وسلّما علي وقالا : إذا تكرّمت علينـا ببعض الدقائقِ من وقتـك، خارج قاعة البحث، فـأجبتهما بالإيجاب، وخرجنـا إلى باحة المكتبة، وجلسنا على تلك الأريكة، قال أحـدهم، بعـد أن عرّف عـن نفسهِ وعـن صاحبهِ وقال : نحنُ ” أصحاب شركة إنتاج سينمائي وتيليفزيوني” ونهـتم جداً بقضايا التراث العربي – الإسلامي ، ولهـم فرع في دول الخليج وفي ليبيـا، وقـد شاهـدنا حديثك عـن الورّاقين في الأسبوع المنصرم، في التليفزيون السوري، وقررنـا الإتصال بـك، لكتابة ” سيناريو ” عـن موضوعـة الورّاقين في التراث العربي الإسلامي ، كمُـسلسل تيليفـــزيـــــوني، لأكـــثر من ( 30 حلقة )، ونحن جاهزون لأيِّ طلب ، ولأيِّ مبلغ تراهُ مناسباً، ثم بـدأنـا الحديث عـن المشروع، وقد عرضا عليّ ” مليون دولار ” كعقد إبتـدائي، وحين يكتمل ” السيناريو ” وتتم الموافقة عليه، قـد نضيف عليه ” مليون آخر ” . لم أُصدّق ذلك، في قرارة نفسي، وقلتُ : حسنـاً، تعـالا في الأسبوع القـادم، وسوف أكتب مُخطّـطـاً أوليّـاً بأسماء الحلقات الرئيسية، والمحاور التي يدور حولهـا الحديث وتفرّعاته، وفعـلا قـدما في الأسبوع التالي، وسلمتهما ” المخـطط الأولي ” لمسارات السيناريو، فرحّـبا بـهِ ، وقالا : سوف نتصل بـكَ بأقرب فرصة، ويتوجّـب علينـا أن ” نعرض هذا المخطط ” على أصحاب رؤوس الأموال ، أو الشركات المنتجة، وعـندما تحصل الموافقة عليه، سنصتصحبك معـنا إلى ليبيـا، وتتـفرّغ هـناك ” لكتابة السيناريو ” وطلبا عـنواني ورقم تليفوني، فقلت : هـنا عنـواني الدائم ” المكتبة الظاهرية – قـاعة الباحثين ” وخرجا على أمل العـودة بعـد حينٍ من الزمـن .
* تتـوالى الأيـام، وأنـا مازلت على برنـامجي اليومي في القراءة الصباحية، حتى الساعة 2 بعـد الظهـر، ثم العـودة إلى البيت لتناول طعام الغـداء، وأخذ قسطـاً من الراحة، ونوم القيلولة . وهذا الأمر يلازمني حتى اللحظة، وذات مرّة، وأنـا في ” نوم القيلولة ” وقت الظهيرة، وبحدود الساعة الثالثة والنصف ظهـراً، رنَّ جرس الدار، فاستيقظت من حُـلمٍ جميل، كان فيه الجـاحظ قـد زارني في ذلك الحلم، وهـو يقول في المنـام : قُـم يا فتـى، فـإن بين يـديك موضوعـاً هـامـاً عـن الورّاقين، فلا تجعل هِـمَّـتُك تتـباطئُ فيه ” واستيقظت على ” رنـّة جرس الدار” وفتحت البـاب، وإذا بالشاعر الكبير كـاظم السماوي، واقفاً في الباب، فرحبتُ بـهِ وأدخلته الدار، وقصصتُ عليه ” الحُـلم ” الذي كنتُ فيه، والحوار الذي كنت عليه مع الجـاحظ، قبل قرعِ الجرس، فـاستغرب لذلك وقال : هـاي من كُـثر قراءتك للجـاحظ، واشتغالك بالورّاقين، وهـم أصحاب الجـاحظ، ولذلك ” غـار الجـاحظ منك ” ثم ابتسم إبتسامة عريضة، وجلسنـا نتجاوب أطراف الحديث، وقد صنعت له غـداءً، حيث أنّـه جـاء من محافظة اللاّذقية، وهـو لا يستريح إلاّ في بيتي، ولذلك بقينـا تلك الليلة بدون قراءة، بل بقينـا بأحاديث طويلة عـن تاريخ الثقافة في العراق ، ونظرتهِ إلى الأحداث الثقافية والسياسية، بوصفهِ أحـد المثقفين في زمن عبد الكريم قاسم، وهـو أوّل مدير عـام للإذاعة والتليفزيون في ثورة 14 / تموز / 1958 . فغرّب وشَـرّق، وانتقد كل الحركة السياسية في العراق، والتي أقامت مـا يُـعرف بــ” الجبهـة الوطنية التقدمية ” في العراق، صابّـاً جام غضبهِ على الحزب الشيوعي العراقي ، والذي صافح البعـثيّين، وهُـم أيـاديهـم ملطخة بـدمـاء الشيوعيين العراقيين في عام 1963 . وهاهُـم قـد عادوا للتحالف معهم في عام 1973 ، والجرحُ لم يجُفَّ بعـد، ووصلنا إلى ما وصلنـا إليه اليوم، وكل واحدٍ منّـا في بلد، والعراق تحكُمه الفاشية البعثية الصدّامية، ولا نعرف إلى أين يقـود البعث العِـراقَ!
* كان كـاظم السماوي، واحدٌ من أعـلام ” القـيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي ” والتي انشقّـت عـن الحزب في ” إنتفاضة الأهـوار عام 1967 ” .
هـدأتـهُ قليلاً، ورحتُ أسـأله عـن عائلتهِ وأولاده، فذكرهم بحزنٍ عميق، لأنهم بيعيدون عـنه، فـإبنتهِ ” تحرير السماوي ” متزوجة في الأردن، وهي صحفية معروفة، وإبنهِ الأكبر ” رياض ” قـد عـاد من الحرب العراقية الإيرانية، وهـو منكسِـرٌ بكل معنى الكلمة، وإبنهِ الأصغر مقيمـاً في الصين، وزوجتـهِ مريضة، ومقيمة معه في اللاّذقية. حـاولت أن أخرجهُ من تلك الحـالة النفسية، فسـألتـهُ مباشرة عـن ” حلقة الورّاقين ” في برنـامج ” في رحاب الأدب ” وهـل شاهـد تلك الحلقة ّ وحديثي فيهـا عـن الورّاقين البغـدادييّن !؟ فقـال : هـذا الحدث هـو الذي قادني إليك، لأعبّـر لك عـن كامل إحترامي وتقديري لهـذه الثقافة العميقة عـن تاريخ بغـداد في العصر العبـّاسي، وعـن الموضوعية العلمية في حديثك الجميل ، فشكراً لك . وقد أيقنت بـاني أخرجتُـهُ من حالة الحُـزن التي كانت طاغية عليه .
عـند صباح اليوم التـالي، كان مستيقظـاً في تمام الساعة السادسة صباحـاً، فـأيقظني معه. تنـاولنـا الفطور الصباحي ، وعند الساعة السابعة صباحـاً، تـوجّـه إلى ” كـراج الكرنـك ” في دمشق لإستقلال الحـافلة والعـودة إلى اللاّذقية، وقـد طلب مني أن أزوره في اللاّذقية، فوعـدتـهُ بـذلك، وأوفيت الوعـد بعـد مُدةٍ قصيرة .
* * * يتبع

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com