مقالات

العراق: مهزلة المحلل السياسي.

بيدر ميديا.."

العراق: مهزلة المحلل السياسي

صادق الطائي

 

مع انفجار الفضاء الإعلامي في العراق بعد نيسان/أبريل 2003، حيث ظهرت مئات الصحف وعشرات الإذاعات والقنوات الفضائية، بات لزاما على العاملين في الإعلام توفير المادة التي ستملأ هذا الحيز العملاق الذي يفتح شدقيه كل يوم ويطالب بمزيد من الأخبار والمعلومات والتحليلات، هذا الأمر خلق مهنة عدت جديدة نسبيا على الساحة الإعلامية العراقية وهي، مهنة «التحليل السياسي».
إذ كان الوضع في ظل النظام الشمولي متمثلا في احتكار رموز ورجال الحكم والدولة والحزب للحديث السياسي الرسمي، يضاف لهم بعض الكتاب السياسيين في صحف ودوريات تعد على أصابع اليد، بالإضافة لقناتي تلفزيون حكوميتين وإذاعتين، لكن في كل الأحوال لم تكن هنالك صفة تُلحق باسم المتحدث يكتب فيها «محلل سياسي».
منذ 2003 مع استضافة العديد من الوجوه الجديدة التي كانت تظهر على شاشات الفضائيات، كان منتجو ومعدو البرامج يسألون المتحدث، ما هي الصفة التي تحب أن تظهر بها على الشاشة؟ فلا يجد المتحدث جوابا، فيتبرع البعض بالقول له، هل نكتب محلل سياسي؟ فتأتي موافقة المتحدث مباشرة، لأن الصفة فيها «برستيج» مبهر جديد على الساحة العراقية. ومع تحول العراق في كل أزمة مرّ بها إلى مركز الحدث العالمي طوال أشهر، وربما سنوات، أصبحت صفة «المحلل السياسي» تدريجيا تثير السخرية في العراق، لأنها ببساطة أصبحت مهنة من لا مهنة له، وبات كل من هبّ ودبّ تلصق باسمه صفة محلل، يطلق الكلام على عواهنه، من دون أن يطالبه أحد بأدلة على ما يطرحه من أفكار، أو ينقله من أخبار، أو يتوقعه من أحداث. ومع التوسع الهائل وانتشار وسائط تكنولوجيا المعلومات، وشيوع شبكات التواصل الاجتماعي، ولد جيل من «المحللين السياسيين» انتقلوا من صفة ناشط، أو مدون، أو بلوكر في شبكات التواصل، ليصبحوا نجوما على شاشات الفضائيات، حتى أن بعضهم عملوا في وسائل الإعلام وأصبحوا نجوما بعد أن دخلوا المعترك من بابه الخلفي.
الملاحظ أن بعض «المحللين» أراد تحسين صورته، فبدأ ينوع على الصفة التي يظهر بها فولدت توصيفات جديدة مثل «خبير أمني»، أو «محلل استراتيجي»، والأدهى والأمر، أن بعض التوصيفات ليس لها مدلول فعلي في الحياة، مثال ذلك سياسي عراقي كان يظهر في الإعلام بصفة «خبير في شؤون المرجعية»، ولا أحد يعلم ماهية هذه الصفة، أو ماذا يعمل هذا الشخص الذي دخل معترك العملية السياسية لاحقا، وصال وجال فيه على مدى سنوات. كما ظهر بعض المتحدثين بصفة «خبير في الاتفاقية الصينية – العراقية» وهو لا يعرف من الاتفاقية سوى ما يقرأه على صفحات التواصل الاجتماعي، أو ما يسمعه من نميمة سياسية في كروبات الواتساب، لكن بعض المحللين أراد أن يلبس «البرستيج» المناسب في زمن مهازل التحليل السياسي في العراق، فانتقل من لقبه القديم إلى صفات وهمية تمحور أغلبها حول إدارة مراكز بحوث، أو معهد دراسات، فأصبحنا نقرأ اسم أحدهم ملحقا بوصف «مدير مركز الدراسات الاستراتيجية»، أو «مدير معهد الأبحاث الأمنية والعسكرية»، وهي غالبا مراكز وهمية لا وجود لها على أرض الواقع. ومن المفارقات العراقية استعمال لقب الأكاديمي، يسبق أسماء محللين لم يحصلوا حتى على شهادة جامعية، لكن بعضهم يصر على أن يضع دال نقطة قبل اسمه، ويطالب المتحدثين بمناداته بلقب دكتور، أو بروفيسور. وللأمانة حاول البعض أن يجمل أكذوبته الأكاديمية فسعى إلى الجامعات الوهمية في الدنمارك، أو السويد، أو لبنان، أو ايران، أو غيرها من الدول التي أصبحت ملاذا لمشتري الشهادات والألقاب، ليحصلوا على شهادات دكتوراه مفبركة، تكمل صورة «المحلل» الأكاديمية، وحينها يضع لقب دكتور قبل اسمه وهو مرتاح البال.

المحلل السياسي الحقيقي هو ذلك الشخص الذي يتمتع بقدرات علمية ويمتلك خبرات عملية تؤهله للتعاطي بحيادية وموضوعية مع الحدث

المحللون السياسيون الحقيقيون في العالم يبذلون جهودا كبيرة ليحصلوا على هذا اللقب، وعندما يطلق على أحدهم لقب «محلل سياسات» ويتدرج في مراكز الأبحاث الرصينة ليصبح «كبير المحللين» في موضوع ما، أو الخبير في شأن ما، تكون هذه الصفات ذات دلالات يمكن التأكد منها ببساطة وشفافية، عبر الدخول إلى موقع عمل هذا المحلل أو الخبير، والاطلاع على جهوده البحثية والأكاديمية التي تخضع لتقييم موضوعي صارم. أما في الحالة العراقية فقد أصبحت ولادة محلل سياسي، أو خبير إستراتيجي أمرا مجانيا يثير السخرية والتقزز، ولا يمكننا تتبع السيرة الشخصية الحقيقية لمدعي التحليل، أو ما يحمله من شهادات أكاديمية، أو التعرف على مراكز الدراسات الوهمية التي يديرها. وبعد كل هذه المهازل، نكتشف أن «المحلل السياسي» في العراق هو عبارة عن سمسار يبيع مواقفه للجهات الإعلامية التي يظهر فيها، إذ يطرح أفكارا وتحليلات تتواءم مع سياسة الوسيلة الإعلامية التي يظهر فيها، بل يتملق القائمين عليها بطريقة مضحكة، إذ أن بعض المحللين يتنقلون بين القنوات، خصوصا في أوقات حدوث الأزمات، ويدلون بتصريحات في عدد من القنوات، ولا يخجلون من إطلاق تصريحات متضاربة في فترات زمنية متقاربة. من ناحية أخرى ولدت ظاهرة خطيرة ارتبطت بمهازل التحليل السياسي في العراق، التي يمكن تسميتها بـ»الابتزاز السياسي» الذي يمارسه بعض المحللين بحق سياسيين، أو شخصيات عامة فاعلة في المجتمع، عبر مهاجمتهم والتلويح بكشف ملفات فساد مرتبطة بهم، فإذا سعى الشخص، ضحية الابتزاز، إلى عقد اتفاق مع المحلل أو الجهة التي حركته، عندها يهدأ الهجوم، وإلا تتحول المهاجمة إلى حملة تسقيط صحافية شعواء يقودها «محللون» و»إعلاميون» وجيوش إلكترونية، حتى يتم ترتيب تراض وتخادم الطرفين، وحينذاك يتم غلق ملف الفساد الذي تم التلويح به.
بعض المحللين باتوا معروفين بأنهم من مروجي نظريات المؤامرة المعروفين، وهؤلاء باتوا متخصصين في ربط كل حدث مهما كان بعيدا، ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد ببلد ما، أو فكرة ما، إذ نجد «المحلل المؤامراتي» يربط المواضيع، ويلوي عنق الحقائق، ويسرد الأكاذيب، ليثبت للمتلقي نظرية المؤامرة التي يروجها، ونجد أن بعض «المؤامراتيين» متخصصون في مهاجمة دولة، وبعضهم متخصص بمهاجمة حزب، أو حركة سياسية، أو قومية، أو مذهب، وتراهم يتحدثون عن كل حدث عالمي، أو إقليمي، أو محلي على أنه مرتبط بمؤامرات الشخص الفلاني، أو مجموعة الحركة الفلانية، أو هذا المذهب، أو تلك القومية، وبعض هؤلاء المؤامراتيين أصبحوا نجوما في قنوات الفضائيات، لهم «برستيجهم» الخاص عندما يتحدثون عن اكتشافاتهم المؤامراتية المضحكة. كما تجدر الإشارة إلى بعض المحللين السياسيين، الذين يمكن أن نصفهم بأنهم «محللو قطاع خاص» إذ يعملون لدى هذه القناة أو تلك، التابعة لهذا الحزب أو ذاك التيار، ويعملون على تلميع وترويج سياسات أصحاب القناة وداعميهم من السياسيين، والتصفيق والتطبيل لكل ما يصدر عن أفراد الطبقة السياسية الرثة الموجودة في الساحة العراقية، حتى بات المشهد الإعلامي العراقي ينضح رثاثة بدءا من القنوات الحكومية الرسمية، وانتهاء بأصغر مؤسسة صحافية وإعلامية. ونادرا ما نجد اليوم مؤسسة إعلامية ملتزمة بأخلاق مهنية تسعى لتنفيذ واجبها التوعوي القائم على نشر الحقيقة، وإيصال ما يهم المتلقي من أخبار بموضوعية وحيادية.
المحلل السياسي الحقيقي هو ذلك الشخص الذي يتمتع بقدرات علمية ويمتلك خبرات عملية تؤهله للتعاطي بحيادية وموضوعية مع الحدث، وهذا الأمر أصبح نادر الوجود في الساحة العراقية المتخمة بالمدعين، واليوم عندما نشاهد أكاديمي مختص، أو نقرأ لكاتب ومحلل يضع نصب عينيه مسؤولية مصداقية المعلومة، ومصلحة الوطن، وأمن ورفاهية المواطن نحمد الله ونقول: «لو خليت قلبت».

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com