منوعات

معاوية بن أبي سفيان… هل هو أمير المحنة العربية؟

بيدر ميديا.."

معاوية بن أبي سفيان… هل هو أمير المحنة العربية؟

محمد تركي الربيعو

 

في العقود الأخيرة، وفي سياق البحث عن سؤال لماذا يعيش العرب لوعة الاستبداد، بينما تقدم الآخرون، حاول عدد من المفكرين العرب، العودة بنا إلى الماضي. فالاستبداد ليس وليد الدولة الوطنية فقط، بل وليد ذهنية وتاريخ أطول، أو وفق تعبير بشير محمد الخضرا «النمط النبوي _الخليفي» الذي بقي يحكم العقل العربي. وكان الراحل المغربي محمد عابد الجابري، من بين أكثر المفكرين العرب تأثيرا وتنظيرا لهذا الطرح، كما ظهر في كتابه العمدة «العقل السياسي العربي» إذ وجد أنّ أزمة الانسداد العربي الحاصل اليوم، يعود بالأساس إلى كون مجاله السياسي قام على ثلاثة عناصر أساسية «القبيلة والغنيمة والعقيدة» ولذلك بدا معه، في سياق بحثه في جذور هذه العناصر، أنّ الخليفة الإسلامي معاوية بن أبي سفيان، هو أول من أسّس «للملك العضوض» في الإسلام. وفي فترته انتصرت القبيلة على العقيدة (التي كان يمثلها فريق علي بن أبي طالب). كما وجد أنّ معاوية قد اقترح عقدا سياسيا قائما على نوع من «الليبرالية» والتعبير هنا للجابري، يقوم على المشاركة في الغنيمة لا الحكم، ويعتمد على تحالف قبلي مع كلب اليمانية، التي كانت أقوى قبائل الشام. وعلى الرغم من أنّ هناك من عدّل على طرح الجابري قليلا، واذكر هنا المؤرخ التونسي محمد سعيد وأطروحته المهمة «النسب والقرابة في المجتمع العربي قبل الإسلام» فقد وجد أنّ التحالف بين معاوية والقبائل اليمنية، لم يكن تحالفا سياسيا أو مرحليا فقط، بل كان تحالفا قديما أساسه الزواج الداخلي (القرشي _اليمني) مقابل الزواج الخارجي (الهاشمي اليثربي). وقد مثّل القدوم الأموي لاحقا عودة مؤسسة الزواج الداخلي (العصبية) مقارنة بالفترة العباسية التي ستعود الغلبة فيها لمؤسسة الزواج الخارجي (الانفتاح).
لكن هذا الحفر التاريخي لم يغير من خطاطة الجابري الأساسية، وبقي نمط معاوية هو المسيطر على المخيال العربي في الماضي والحاضر، ولعل التعديل على صورة معاوية، جاء لاحقا مع عدد من المؤرخين، مثل عزيز العظمة، إذ أعادوا النظر في هيمنة فكر القبيلة، لصالح فكرة أخرى تقول إن لغة معاوية وأحفاده الأمويين السياسية، ليست وليدة القبيلة بالضرورة، بل اعتمدت على أنماط التعبير عن السلطة، وعلاقة السلطة بالمقدس، وهي علاقة نشأت في العالم القديم الشرقي والروماني، أو العصور العتيقة المتأخرة، وفق تعبير الألماني توماس باور، الذي يرى أنّ الإسلام حافظ على إرثه في العقود الأربعة الأولى من حكمه. ولذلك نرى معاوية، وفقاً لهذه الرؤية، رجلا يعتمد لغة عصره، وليس لغة أجداده القرابية بالضرورة.

ولعل الجابري لمّح إلى ذلك، عندما تحدث عن نشوء مجال سياسي إسلامي آخر (الجند القبليين مقابل الرعايا) لكنه ظل محتفظا بصورته حول معاوية القبلي. بينما يظهر معاوية في الرؤية الأخرى سليلا لتقاليد الحكم العتيقة في سوريا، التي أصبح قائدا عليها. وستتعزز هذه الصورة الأخرى لمعاوية الوارث لتقاليد الامبراطوريات القديمة، مع الطرح الذي قدّمه المؤرخ الأمريكي خوان كول في كتاب عن «محمد رسول السلام وسط صراع الامبراطوريات». ويجادل بأنّ النبي في سنواته الأخيرة، وجد أنه لا غلبة لدين على آخر، ومال في ظلّ الصراع الفارسي البيزنطي، إلى تشكيل «كومنولث ابراهيمي» أو توحيدي، في مواجهة الفرس، لكن هذا الأمر سينقطع مع وفاته واندفاع المسلمين في غزواتهم، مما سيعزز من الخلاف مع المسيحيين، بحكم أنّ بعض المواجهات جرت في سوريا ومصر. وهنا يلمح كول إلى أنّ معاوية ربما هو من استأنف مشروع الكومنولث الإبراهيمي، عندما شارك في احتفالات المسيحيين في بيت المقدس، وقدّم الضمانات لهم، بوصفه وارث الإمبراطورية الرومانية. وبالتالي نرى معاوية في هذه الصورة هو من يجلس على كرسي الإمبراطورية التوحيدية، بعدة وشعائر العالم القديم.

وعلى الرغم من تعدّد صور معاوية في المقاربات السابقة (قبلي/وريث بيزنطة/حامل مشروع كومنولث ابراهيمي) لكن ما يغيب عن هذه الصورة أحيانا، قراءة الفترة التي سبقت قدومه للخلافة، أو أن التعامل مع هذه الشخصية في الكتابات العربية ظل ينطلق من فكرة كتابة تاريخ بطولي، تظهر فيه حنكة معاوية منذ الصغر (مصطفى العقاد مثلا).

معاوية التاريخي

وعلى الرغم من تعدّد صور معاوية في المقاربات السابقة (قبلي/وريث بيزنطة/حامل مشروع كومنولث ابراهيمي) لكن ما يغيب عن هذه الصورة أحيانا، قراءة الفترة التي سبقت قدومه للخلافة، أو أن التعامل مع هذه الشخصية في الكتابات العربية ظل ينطلق من فكرة كتابة تاريخ بطولي، تظهر فيه حنكة معاوية منذ الصغر (مصطفى العقاد مثلا). ولعل من الدراسات الجديدة التي حاولت تجاوز هذا الأسلوب من الكتابة البطولية، كتاب المؤرخ الأمريكي ستيفن هامفريز «معاوية بن أبي سفيان.. من الجزيرة العربية إلى الإمبراطورية» والمترجم حديثا للعربية عن المركز الأكاديمي للأبحاث، ترجمة هشام شامية، وما يحسب للمؤرخ في هذا الكتاب، أنه سيسعى إلى البحث عن معاوية التاريخي، وفق تعبيره. وهو رجل لم يولد ليكون خليفة لاحقا، ولم ينتظر أو يخطط لذلك، بل هو ابن سياق وأحداث تاريخية، مثّلت وشكّلت فرصة أمامه للارتقاء، بدلا من القول إنّه كان وراءها بالضرورة.
وما ميّز الكتاب أيضاً، منهج المؤلف وتعامله مع المصادر الإسلامية وغير الإسلامية (أرمينية، لاتينية) إذ يلاحظ في كتاب الجابري مثلا، أنه يعتمد على ما دوّنه الطبري، كوثيقة وحقيقة، بينما يتعامل هامفيز مع كتابات الطبري، أو ابن عساكر عن معاوية، بوصفها نصوصا لم تخلُ من تأويلات لبعض الأحداث والقصص عنه. فنتعرف على الطبري المؤرخ بوصفه صاحب خيال أدبي رفيع، ورجلا لا يدوّن أو ينقل الأحداث كما هي، بل يميل للتقاليد العراقية المؤيّدة لعلي والعباسيين. بينما يظهر ابن عساكر في المقابل ميالا لتقاليد سوريا في الكتابة عن الأمويين، ولعل هذا المنهج ليس جديدا على المستشرقين، كما أنّ الكتاب في الأساس صدر تحت إشراف باتريشا كرونه، التي عرفت بمنهجها المشكك بالمصادر الإسلامية، والبحث عن مصادر أخرى. وهو منهج ينسف آلاف الصفحات والمخطوطات، بدعوى أنها كتبت في العصر العباسي مثلا، لكنه لا يخلو من قراءات جيدة (ويبدو أنّ المركز الناشر للكتاب، يبدي تأثرا بهذه القراءات، كما نرى في سلسلة من الكتب التي أصدرها وفق هذا المنهج، ومن بينها كتاب مكة قبل الإسلام). مع ذلك، لا يسير هامفريز مع هذا الطرح، بل نراه يعطي للمصادر الإسلامية حقها، مع إثارة السؤال حول أسلوب كتابتها للأحداث وزمن صدورها، وهي أسئلة مشروعة ومهمة.

الوسط المكي

يظهر معاوية في هذا الكتاب عبر ثلاث مراحل: ما يقرب من ثلاثين عاما، تتراوح من الطفولة إلى أوائل سن الرشد، ومرت ضمن الهياكل العائلية والدينية التقليدية لقبيلة قريش العربية، وخمسة وعشرين عاما، قضاها بوصفه عضوا في النخبتين السياسية والعسكرية الإسلاميتين المهيمنتين حديثا، وخمسة وعشرين عاما يناضل من أجل تولي زمام السلطة العليا، ثم تولاها رئيسا للإمبراطورية الإسلامية. وربما حتى هجرة النبي في عام 622 لا يوجد ما يقال، إذ كان معاوية أصغر سنا من أن يشارك مشاركة كبيرة في التوترات بين النبي مع رجال قريش. ومع تحوله للإسلام يرى المؤلف أنّ معاوية بدا مدركا أنه لم ولن يكون أبدا عضوا في الدائرة الداخلية للنبي، وأنه في الوقت ذاته عليه خدمة النظام الجديد لتحقيق مكانة أخرى. سيُكلّف بعد وفاة النبي عام 632 ليحل محل عمر بن العاص في حصار قيصرية، ولكونها مدينة ساحلية، فقد غدت منطقة انطلاق لهجمات مضادة من البحرية البيزنطية. وستلعب هذه التجربة دوراً في تعرّفه على فن البحرية العسكري. مع ذلك، لا يبدو معاوية في هذه الفترة، شخصا ذا طموح سياسي، ويبدو أنّ الصدف جاءت لصالحه، وبالأخص قدوم الطاعون الذي تسبب بوفاة قادة عسكريين من أمثال أبو عبيدة الجراح وأخيه يزيد. مع ذلك سيذهب المؤرخون إلى أنّ ما جرى ليس سوى تدبير، وستأتي مرحلة عثمان بن عفان لتعزّز من هذه القناعة، خاصة أنّ معاوية كان يعمل على تعزيز سيطرته على سوريا. ولا يفسّر المؤلف ذلك بخطة مدبرة من معاوية، بل لأنّ الحكومة المركزية في المدينة، لم تمتلك آنذاك أي آلية رسمية للإشراف والمراقبة على تصرفات حكّام المناطق الجديدة، ولذلك لم يكن أمام عثمان سوى تعيين رجال قريبين منه. ومع هذه الرؤية، كانت سيطرة معاوية وترتيب سوريا تجري بشكل متواصل، دون أن يكون في خاطره السيطرة على حكم المسلمين، وإنما كان الالتزام الأساسي له الحرب ضد بيزنطة، وتحقيق الاستقرار في سوريا، ما كان يتيح لعثمان تركيز انتباهه على الأقاليم المتوترة مثل، البصرة والكوفة ومصر. ويظهر معاوية في هذه الفترة مشغولا بمشروع بناء أسطول بحري. وهنا يناقش المؤلف الرواية التي ذكرها الطبري عن رفض عمر بن الخطاب لنوايا معاوية البحرية، خوفا من زيادة قوته، ما دعاه إلى القول «إنا سمعنا أنّ بحر الشام يشرف على أطول شيء على الأرض، فكيف أحمل الجنود في البحر الكافر». ويبدو متشككا من رواية الطبري قليلا، أو أسلوبه بالأحرى في تخيّل الحدث وتأويله، فهو يرى ربما أن ما دعا عمر لقول ذلك، أنّ قوات المسلمين في فترته كانت قد استنفدت طاقتها بالفعل، ولم يكن لأي من القبائل في سوريا فكرة عن كيفية إدارة سفينة. لذا تطلّب إعداد أسطول أعدادا كبيرة من غير المسلمين السوريين والمصريين المسيحيين، الذين كانت ولاءاتهم غير متوقعة إطلاقا. بالتالي آثر عمر الانشغال بإكمال هيكله الإداري للأراضي الشاسعة، بينما لم يكن لديه وقت للتفكير في مشروع البحرية.

من بين الملاحظات التي تسجل على الكتاب، أن المؤلف يتسرع أحيانا في تفسير بعض الحوادث، وكأنها تعكس خلافات جهوية أو شخصية، مثل قراءته للخلاف بين علي بن أبي طالب والسيدة عائشة، الذي يعتقد أنه يمثل امتدادا للخلاف بين الشخصين بسبب حادثة الإفك.

ظهور الخليفة الأموي

ومع مقتل عثمان، بدا معاوية الشخصية أو الزعيم المسلم الوحيد الذي يتمتّع بسيطرة قوية على الموارد المالية والبشرية لإقليمه، في حين كان علي بن أبي طالب يقف على أرض العراق القلقة والمضطربة. وترى المصادر العربية التي يهيمن عليها العراقيون والمؤيدون لآل علي، أنّ رجال علي كانت لهم اليد العليا، وكانوا على وشك الانتصار، لولا حيل معاوية الذي سيندفع في عام 660 إلى إعلان نفسه خليفة من قبل قواته. وهو قرار يراه المؤلف واقعيا آنذاك، بالأخص بعد معارك علي مع الخوارج، خاصة أنّ المشروع الإسلامي بأكمله والامبراطورية التي شكِّلت مؤخرا، ظهرا معرضين لخطر الانهيار. لكن معاوية لن يطرح نفسه هنا خليفة للمسلمين فقط، بل عبّر من خلال انفتاحه على المسيحيين في سوريا، الذين كانوا أغلبية آنذاك، عن طموحه في أن يكون وارثا لتركة الامبراطوري الروماني، أو ممثلا لمشروع الكومنولث الإبراهيمي، وفق تعبير كول.

توريث يزيد والتوتر الثقافي

من بين الملاحظات التي تسجل على الكتاب، أن المؤلف يتسرع أحيانا في تفسير بعض الحوادث، وكأنها تعكس خلافات جهوية أو شخصية، مثل قراءته للخلاف بين علي بن أبي طالب والسيدة عائشة، الذي يعتقد أنه يمثل امتدادا للخلاف بين الشخصين بسبب حادثة الإفك. وهي قراءة تبدو لنا خارج السياق الذي عرفته تلك الفترة، وربما هذا ما جعل المؤرخ التونسي هشام جعيط يحذّر من هذه القراءات المتسرعة للأحداث، فالجماعة الإسلامية وقت معركة الجمل، لم تكن جماعة سياسية أو قبلية بالضرورة، بل كانت تعيش قبلها سياقات التحول نحو جماعة لها أيضا أسسها الأيديولوجية (دينية). ولذلك نراه يرى في صراع عائشة وعلي خلافا دينيا (حادثة القتل) بل يذهب إلى القول إن عائشة في ثورتها ضد علي، كانت أول مصلحة في الإسلام، لأن فعل القتل مثّل انتهاكا لأسس وقيم الجماعة الجديدة، التي كانت تتشكل وتترسخ في زمن عمر وعثمان.
لكن إن تجاوزنا هذه النقطة، الفصول الأخيرة مهمة للغاية، وبالأخص موضوع توريث يزيد بن معاوية الحكم، وهو الحدث الذي أسّس لخلاف جدي حول موضوع وراثة الحكم، بدلا من النموذج الراشدي في الإسلام المبكر. ويرى مؤلف الكتاب أن الموضوع لم يكن مجرد توريث، بل جاء يزيد كتعبير عن ظروف وتوازنات القوى في الدولة الإسلامية آنذاك. فالحسين، كان يحظى باحترام شديد لتقواه، لكن دون خبرة سياسية جادة، وقاعدة يزيد الاجتماعية القتالية، لعبت دورا عن طريق أخواله الكلبيين في سوريا. مع ذلك لم يكن يزيد بمثابة الخيار الأمثل لمعاوية. ولا يخفي المؤلف هنا تأثّره بمقاربة ابن خلدون الذي وجد أنه بسبب طبيعة المجتمع البشري، كان لا بد من ظهور فكرة الملك أو التوريث، فقد نجمت عن المنطق السياسي للحال آنذاك، وليس لأن العرب قبلوا قرار معاوية جراء ضعف إسلامهم (كما يذهب لذلك فلهاوزن). ويرى في هذا السياق، أنّ معاوية بقي أحد سكان المدن والنشأة، ولذلك فهو ينفي تأثره بالفكر البدوي، إلا كمسألة حنين لا أسلوب حياة. ولعل الأهم في هذه التفسيرات التي قدمها المؤلف، أنها عرفتنا على صورة أخرى لمعاوية، أقرب لواقعه، فهو شخص ولد واختبر مراحل تاريخية عديدة، وتمكن من استغلال الفرص المتاحة أمامه، وبالتالي فإنّ ظهوره على الأحداث لم يكن مجرد قدر مكتوب له، أو ناجم عن عالم الحيل، بل هو عالم الخبرة والميدان.
والأهم من ذلك، أنه تمكن من القذف بنا إلى ذلك الزمن، وتوخي الحذر، ونحن نقرأ مرويات المسلمين عن تلك الفترة، هو ما يجنبنا ربما أي محاولة لاستعادة معاوية وقذفه إلى أيامنا هذه، باعتباره يتحمل أزمة فشل ومحنة العرب اليوم.

كاتب سوري

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com