مقالات

هل بدأ العد العكسي لتفكك المملكة المتحدة؟.

بيدر ميديا.."

هل بدأ العد العكسي لتفكك المملكة المتحدة؟

مثنى عبد الله

 

رحلت ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية، ووري جثمانها الثرى بحضور دولي وحشود شعبية. وبرحيلها انتهت حقبة عمرها سبعون عاما من تاريخ المملكة المتحدة، وإذا كان البعض يرى أن غياب الرموز السياسية، أو الزعامات الوجاهية تنحصر تأثيراتها فقط في دول ومجتمعات الشرق الأوسط، بحكم البيئة والعادات والتقاليد فتهزها، فلربما يشمل ذلك الحياة البريطانية أيضا.. فلم تعرف أجيال وأجيال غير اليزابيث ملكة على العرش، حتى أصبحت علامة تجارية لبلادهم. واليوم بغيابها تُثار أسئلة كبيرة عن مستقبل المملكة في ظل ملك جديد، لكن السؤال الابرز هو ما الدور الذي يمكن أن يلعبه الملك الجديد في الحفاظ على وحدة المملكة؟
بوفاة الملكة انتقل التاج الملكي شرعا وقانونا إلى الأمير تشارلز، الذي أصبح ملكا بعد مصادقة مجلس الوصاية، المكون من 720 عضوا، منهم رؤساء حكومات سابقون ولوردات، ورجال دين ورجال قانون، ثم أدى جميع النواب في البرلمان البريطاني قسم الولاء للملك الجديد، وفي مقدمتهم رئيس البرلمان ورئيسة الحكومة وزعيم المعارضة.

التحدي الأكبر، الذي سيواجهه الملك الجديد، هو الحفاظ على وحدة أراضي المملكة، وهذه المسألة ستحدد مصيره ومصير المملكة معا

وقد أعلن الملك في أول خطاب له إلى الأمة أنه سيسير على نهج والدته، لكن المشكلة ليست في هذه النقطة بالذات، بل في نظرة الأمة إليه وإلى الدور الذي يمكن أن يلعبه في حياة الناس. فلم يعد خافيا على الكثيرين أن المؤسسة الملكية ككل، لم تعد تلعب دورا في وضع المملكة المتحدة، بينما هناك واقع صعب جدا في بريطانيا، حيث حصلت تغيرات كثيرة مسّت حياة الناس، وباتت مهددة من نواح عديدة، فهنالك أزمة بنيوية فيها، حيث تعاني المملكة من مخاض اجتماعي وسياسي واقتصادي، وحالة ركود وتضخم. وتشير التوقعات إلى أن التضخم سيصل إلى 20 في المئة العام المقبل، إضافة إلى العجز في الميزانية والفقر، ومستقبل الملكية والمملكة، فالتأثيرات التي خلفها الخروج من الاتحاد الأوروبي، ألقت ظلالا قاتمة على المجتمع البريطاني، وضرب الغلاء قوت الطبقات الفقيرة والمتوسطة وتدهور الاقتصاد، وأمام كل هذه المشاكل بات السؤال الذي يدور في أذهان الناس هو، ما الدور الذي يمكن أن يلعبه الملك والملكية في هذا المآل؟ ولأن المجتمع يعرف جيدا أن الملك والمؤسسة الملكية ككل ليس لهما أي دور في حل هذه المعضلات، فإن ذلك يدفع الناس للتساؤل عن جدوى وجود حلقة زائدة في النظام السياسي، ليس لها من دور في حل المشاكل الوطنية، لكنها في الوقت نفسه تشكل عبئا اقتصاديا على خزانة المملكة ودافع الضرائب، لذلك تشكل تيار في المجتمع البريطاني من دعاة الجمهورية، الذي يرون أن النظام الملكي في ظل هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة، يجب أن يرحل، وأنه لا بد للشعب في المملكة من أن يختار من يدير شؤون البلاد، سواء كان نظاما جمهوريا أو ملكيا، أو في أحسن الأحوال إعادة النظر في شكل الملكية، وفي بعض السلوكيات والتصرفات الصادرة عن العائلة المالكة. وإذا كان وضع العائلة المالكة في ظل الوضع الاقتصادي الصعب يشكل أحد التحديات التي سيواجهها الملك الجديد، فإن التحدي الآخر هو ترميم العائلة المالكة من الداخل، فالسنوات الماضية أفرزت العديد من المشكلات التي واجهتها العائلة المالكة، التي سمع بها الناس، فهل الملك الجديد مؤهل لمواجهة هذا التحدي؟ هنالك بعض المقربين منه يتحدثون عن رؤيته في تحديث وعصرنة الحياة الملكية والنظام الملكي، ليواكب التطورات الكبيرة في العالم والسرعة التي تسير بها الحياة العصرية. كما يتحدثون عن نيته في تقليص أفراد العائلة المالكة وتحديد أدوارهم، وأنه قد يعيد النظر في بعض الملفات المتعلقة بما تردد من مزاعم العنصرية، وبعض الشبهات المالية، أيضا هنالك تحدي مقارنته بوالدته، حيث هنالك أشخاص كثر في المجتمع البريطاني أمناء لفكرة أن الملكة كانت الوحيدة التي عرفوها، لذلك لا يمكن الجزم بأن دعمهم لها سوف ينتقل إليه بشكل روتيني، والدليل على ذلك صيحات الاستهجان التي انطلقت من بعض الاشخاص، حين عُزف النشيد الوطني بعد أن تم تغيير عبارة ليحفظ الله الملكة، إلى عبارة ليحفظ الله الملك. فالمعروف عن الملك شعبيته المنخفضة، التي وصلت إلى نسبة 54 في المئة في استطلاع أجري في شهر مايو/ أيار الماضي، بينما حظيت الملكة بنسبة 81 في المئة وولده الأمير وليام 75 في المئة. كما أن استطلاعات أخرى وضعته في المرتبة الخامسة في تسلسل العائلة المالكة حتى بعد أعضاء غير رئيسيين فيها. ومع ذلك تبدو كل هذه التحديات مجتمعة أصغر من التحدي الأكبر، الذي سيواجهه الملك الجديد، ألا وهو الحفاظ على وحدة أراضي المملكة، وهذه المسألة ستحدد مصيره ومصير المملكة معا. فوحدة الأراضي البريطانية مسألة مطروحة منذ ستينيات القرن المنصرم، وملفات استقلال ويلز وأيرلندا الشمالية وإسكتلندا تطل برأسها بين الحين والآخر وهي مهمة صعبة جدا، فالزعامات السياسية في هذه المقاطعات كانت تطرح أفكار الانفصال عن المملكة، لكن يبدو أن دور الملكة كان كالغراء الذي يلصق هذه المقاطعات بالتاج البريطاني. اليوم تبدلت الصورة تماما.. ملك جديد لا يشعرون بأنه جزء من تاريخهم، ووضع اقتصادي بائس، وحنين للعودة إلى الاتحاد الأوروبي، ومع أن خروج الناس إلى الشوارع كان لافتا عندما مرّ نعش الملكة في بعض هذه المقاطعات، لكنه تصرف نابع من الظروف الحزينة التي شعروا بها، ولا يلغي طموحاتهم في الاستقلال عن المملكة، وإصرار رئيسة وزراء إسكتلندا على إجراء الاستفتاء، يفتح الباب أمام سؤال مهم هو، كيف سيواجه الملك هذه المواقف؟
أما دول الكومنولث التي كانت معظمها مستعمرات بريطانية، والتي ما زال بعضها مرتبطا بالتاج البريطاني، فإنها بدأت بالانفراط عن التاج منذ سنوات قليلة. واليوم ربما يكون رحيل الملكة فرصة تاريخية كبرى للبقية من هذه البلدان في التخلي عن التعلق بالجلباب الاستعماري البريطاني، على سبيل المثال دولة بربادوس، وهي جزيرة صغيرة في منطقة الكاريبي أعلنت رئيسة الوزراء فيها في عام 2020 أنه (حان الوقت لترك ماضينا الاستعماري وراءنا بالكامل) وتحولت من النظام الملكي إلى الجمهوري، وقطعت ارتباطها بالتاج البريطاني. كما تتوقع رئيسة وزراء نيوزيلندا أن تصبح بلادها جمهورية بعيدة عن التاج البريطاني. وقبل هذه وتلك قطعت دولة موريشيوس علاقاتها مع التاج البريطاني منذ عام 1992. وقد أظهر الكثير من استطلاعات الرأي في دول الكومنولث، أن شعوبها تقول بضرورة فك الارتباط مع بريطانيا، لأنها تذكرهم بسيطرة النظام الملكي على حياتهم وجلبه الضرر والمآسي لهم. إن المراحل التاريخية لها شروطها وقوانينها ووسائلها التي تحقق بها رؤاها، وواهم من يعتقد أن ما شهده العالم من مشاعر تجاه رحيل ملكة بريطانيا هو دليل على شعبية راسخة للنظام الملكي في بريطانيا، ربما تكون هذه المشاعر وليدة اللحظة المرتبطة برحيل ملكة فتحت أجيال وأجيال عيونها فوجدوها ملكة عليهم. واستطلاعات الرأي تقول بأن المتقدمين في العمر يؤيدون النظام الملكي، بينما فئة الشباب لا تدعم النظام الملكي البريطاني، وربما الدليل على ذلك أن رئيسة وزراء بريطانيا الحالية كانت ترفض وجود ملك في بريطانيا، عندما كانت شابة في مقتبل العمر.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com