مقالات

الملكة اليزابيث الثانية وذكرى الملك فيصل الثاني.

بيدر ميديا.."

الملكة اليزابيث الثانية وذكرى الملك فيصل الثاني

صادق الطائي

 

مع خبر وفاة الملكة اليزابيث الثانية يوم 8 أيلول/سبتمبر الجاري، تداعى في ذاكرة العديد من العراقيين ممن يحنون إلى العهد الملكي أمنيات وذكريات وحنين لزمن آخر ملوك العراق، فيصل الثاني وذلك بسبب العلاقة التي ربطت بين الاثنين اليزابيث الثانية وفيصل الثاني، وقد كرس هذا الحنين فيلم وثائقي صور أحداث زيارة الملك الشاب للندن عام 1956 واستقبال الملكة الشابة له برفقة زوجها الأمير فيليب ووالدتها الملكة الأم واختها الأميرة مارغريت في محطة فيكتوريا في قلب العاصمة البريطانية لندن.
وتجدر الإشارة إلى أن علاقة العائلة المالكة العراقية ببريطانيا علاقة قوية، رغم كل ما انتابها من شد وجذب، فمؤسس العائلة المالكة الملك فيصل الأول كان مرشح بريطانيا لتولي عرش العراق عام 1921، لكن ابنه الشاب الملك غازي، الذي قتل في حادث تحطم سيارته عام 1939، كانت علاقته متوترة مع بريطانيا حتى أن الكثير من الشكوك حامت حول تورط الإنكليز في مقتله نتيجة مواقفه المعادية للوجود البريطاني في العراق.
اما الملك الثالث والأخير فيصل الثاني، فيختلف عن أبيه وجده، إذ تمت تنشئته منذ ولادته كملك مستقبلي، وتم الاعتناء به وفق بروتوكولات ملكية، بضمنها إعداده تعليميا، وقد ارتبط بحب بريطانيا منذ صغره، وكانت مربيته بتي موريسون إنكليزية وكان يناديها ماما، بينما كان ينادي والدته الملكة عالية «ستي» أي سيدتي. ويسرد طبيب العائلة المالكة البريطاني الدكتور سندرسن باشا في مذكراته، وصفا لأول زيارة قام بها الملك الطفل فيصل الثاني إلى لندن وقد كان سندرسن بصحبة أفراد العائلة المالكة في تلك الرحلة، إذ كان الملك في الحادية عشرة من عمره في أيار/مايو 1946 وكان بصحبته في تلك الرحلة والدته الملكة عالية، وأمها الملكة نفيسة، وخالاته الأميرات عابدية وبديعة وجليلة. وكانت تلك الرحلة هي المرة الأولى التي يسافر فيها الملك فيصل الثاني بحريا، إذ سافرت العائلة المالكة من ميناء الإسكندرونة إلى مرسيليا، ومنها إلى باريس ومنها وصولا إلى لندن.
قضى فيصل الثاني أربعة أشهر في زيارته الأولى للندن، حيث تعرف على الملك جورج السادس والملكة اليزابيث الأم وابنتيهما الأميرتين اليزابيث ومارغريت، وقد اعتنت العائلة المالكة البريطانية بالملك فيصل الثاني وتعاطفت معه ورعته بشكل خاص، إذ دعاه الملك جورج السادس إلى حفلة لسباق الخيل، وأخرى لسباق الزوارق البخارية، كما زار مبنى البرلمان البريطاني العتيد، وبعض المتاحف ومعاهد أبحاث البترول، كما تحدث من هيئة الإذاعة البريطانية ووجه حديثه لتلاميذ المملكة المتحدة قائلا: «أنا مسرور لوجودي في المملكة المتحدة، رغم الامطار وفيضان الأنهار»، ثم تكلم عن جغرافية العراق ومقارنتها بجغرافية المملكة المتحدة، واختتم بقوله: «لقد تعلمت أثناء وجودي في لندن ركوب الدراجات الهوائية وصرت مغرما بها». يبدو أن عشق فيصل الثاني للندن، وخطط تعليمه الملكية اتفقتا على إكمال دراسته في بريطانيا، حيث سافر لها بعد مرور عام واحد على زيارته الأولى، ففي 27 تموز/يوليو 1947 غادر الملك فيصل الثاني إلى بيروت ومنها ركب البحر متوجها إلى لندن تصحبه والدته الملكة عالية وخالته الأميرة عابدية والأمير رعد نجل الأمير زيد للالتحاق بمدرسة «ساندرويد» التحضيرية، بعد أن أكمل دراسته الابتدائية في بغداد، وفي لندن سكن الملك فيصل الثاني في منطقة كنكستون في ضاحية ستينس في المنزل الذي تم شراؤه لغرض إقامته، وهو قصر صغير يطل على مطار هيثرو. أنهى الملك فيصل الثاني عامه الأول في مدرسة «ساندرويد» واجتاز الامتحانات النهائية بتفوق، وقد ورد في تقرير المدرسة الذي رفع لخاله الأمير عبد الإله الوصي على العرش ، حيث جاء في التقرير: «أن جلالته يتقن الألعاب الرياضية كافة والملاكمة على وجه الخصوص، ويهوى ركوب الخيل وقد تفوق في ذلك على طلبة المدرسة جميعا وعددهم مئة. ويميل جلالته إلى الأدب ميلا عظيما، فهو يطالع كل ما احتوته مكتبة المدرسة من كتب أدبية وعلمية واجتماعية». وبعد أن أنهى الملك عامه الدراسي في هذه المدرسة أصبح مؤهلا للالتحاق بكلية «هارو» الشهيرة، التي كان يدرس فيها أبناء النخبة من مختلف دول العالم، وبعد الاختبار تم قبول الملك الشاب في صف أعلى من أقرانه بعد اجتيازه امتحان الدخول الخاص بتفوق.

علاقة العائلة المالكة العراقية ببريطانيا قوية، رغم كل ما انتابها من شد وجذب، فمؤسس العائلة المالكة الملك فيصل الأول كان مرشح بريطانيا لتولي عرش العراق عام 1921

دراسة الملك فيصل الثاني في كلية «هارو» استمرت لثلاث سنوات دراسية من 1950 إلى 1952، وكانت بالنسبة للملك الشاب من أسعد سنوات حياته، لكنها لم تخل من المنغصات، إذ أصيبت والدته الملكة عالية بمرض عضال نتيجة انتشار الأورام السرطانية أسفل البطن، وأجريت لها عمليات جراحية في لندن لكن الأطباء فشلوا في إنقاذها، ما اضطر الملك فيصل للعودة مؤقتا إلى بغداد والبقاء مع والدته حتى وفاتها في 21 كانون الأول/ديسمبر 1950، عاد بعدها إلى كلية «هارو» ليكمل فيها دراسته. وفي 23 تشرين الأول/أكتوبر 1952 أصدرت رئاسة التشريفات الملكية في بغداد بيانا أعلنت فيه انتهاء دراسة الملك فيصل الثاني في كلية «هارو»، وإحرازه الشهادة الرسمية بتفوق، ومغادرته لندن وهو في طريق عودته إلى بغداد، والتهيؤ لتسنمه مناصبه الدستورية كملك دون وصاية عندما يبلغ الثامنة عشرة من عمره بعد أشهر، وكانت الملكة اليزابيث الثانية قد جلست على عرش المملكة المتحدة خلفا لابيها الملك جورج السادس قبيل ذلك في شباط/فبراير 1952. الزيارة التي أثارت موجة الحنين لدى بعض العراقيين وهم يشاهدون الافلام التسجيلية تمت في 16 يوليو 1956، وحصلت فيها بعض المفارقات. إذ وصل الملك فيصل الثاني يصحبه ولي العهد الأمير عبد الإله إلى العاصمة البريطانية لندن قادما من العاصمة الأردنية عمان، وجرى له استقبال ملكي رسمي في محطة فكتوريا، وكانت على رأس المستقبلين الملكة اليزابيث الثانية وزوجها دوق أدنبرة الأمير فيليب، والملكة الام وشقيقة الملكة الأميرة مارغريت، ثم استقل الملك فيصل الثاني تصحبه الملكة اليزابيث الثانية العربة الملكية المكشوفة التي تجرها الخيول وصولا إلى قصر باكنغهام.
أثناء أيام الزيارة الملكية العراقية للندن، أقامت الملكة اليزابيث في قصر باكنغهام دعوة عشاء ملكية تكريما للملك فيصل الثاني، وألقت كلمتها الترحيبية المميزة بتلك المناسبة، كما حضر الملك الشاب في الأيام اللاحقة عددا من الفعاليات والدعوات، بينها دعوة الحكومة البريطانية لحفل استقبال في لانكستر هاوس، كذلك زار الملك القاعدة الجوية في أودهام، ثم زار كلية «هارو» التي درس فيها قبل سنوات، وقد أقام الملك فيصل الثاني دعوة عشاء للملكة اليزابيث الثانية في السفارة العراقية في لندن ردا لدعوتها السابقة. في 26 يوليو 1956 حضر الملك فيصل الثاني حفل العشاء الذي أقامه على شرفه السير انتوني آيدن رئيس وزراء بريطانيا في مقر إقامته في 10 داوننغ ستريت، وحضره مع الملك نوري السعيد رئيس وزراء المملكة العراقية، وبعض الساسة العراقيين والبريطانيين، واثناء تناول العشاء تلقى الحضور نبأ إعلان الرئيس المصري جمال عبد الناصر قرار تأميم قناة السويس. وسرعان ما انتهى حفل العشاء، وبعد أن ودع أنتوني آيدن الملك فيصل الثاني والضيوف الآخرين، عقد مجلس الوزراء البريطاني اجتماعا عاجلا لبحث الموقف بعد تأميم قناة السويس، وكان المشاركون في الاجتماع يرتدون ملابس السهرة، التي كانوا قد حضروا بها حفل العشاء، وتم اتخاذ قرار إعلان الحرب على مصر، في ما سيعرف لاحقا بالعدوان الثلاثي إذا لم يتراجع عبد الناصر عن قرار التأميم. أما الزيارة الأخيرة للملك فيصل الثاني لبريطانيا، التي كان من المقرر أن يصحب فيها خطيبته الأميرة فاضلة محمد علي ذات الستة عشر ربيعا والتي كانت تدرس في مدرسة هيثفيلد الداخلية لبنات الطبقة الارستقراطية في أسكوت قرب لندن، وكان الملك فيصل الثاني ينوي في زيارته تلك تعريف خطيبته على الملكة اليزابيث الثانية وعائلتها، وكان المخطط لهذه الزيارة أن تتم صباح يوم 14 يوليو 1958، وقد استعد الملك للسفر إلى لندن مرورا بإسطنبول، لكن قطعات اللواء عشرين الذاهبة إلى الاردن مرورا ببغداد قامت بانقلاب عسكري وتوجهت إلى قصر الرحاب في بغداد وهاجمته فجر يوم 14 يوليو، وتم قتل الملك فيصل الثاني وولي العهد الأمير عبد الإله وكل نساء العائلة المالكة وبعض الخدم، ولم تتم زيارة الملك فيصل الثاني الأخيرة للملكة اليزابيث الثانية التي تم التخطيط لها قبل 64 عاما.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com