مقالات

ج1/هل تحولت العلموية إلى دين جديد وما علاقتها بالعلمانية؟

بيدر ميديا.."

ج1/هل تحولت العلموية إلى دين جديد وما علاقتها بالعلمانية؟

علاء اللامي

 

لا توجد علاقة بنيوية أو وظيفية للعلموية (Scientism) بالعلمانية (secularism)، إلا على سبيل التشابه اللفظي في العربية وفي السياق -النسق – التاريخي الجامع. وفي هذا السياق، يقول بعض العلمويين العرب، والذين ربما يجهلون أنهم علمويون، بسبب خلطهم بين الاصطلاحين، وتحت وطأة حماسهم العلماني النفسي ذي الجوهر الاستشراقي الأورومركزي، يقولون ما معناه؛ إن دول الغرب الأوروبي ومجتمعاته تقدمت على دولنا ومجتمعاتنا العربية والمسلمة المتخلفة لأنها اعتمدت العلم وتخلت عن الدين وإن طريق الحداثة الوحيد أمام شعوبنا هو عبر اعتماد وتصنيم العلم والعلم فقط لا غير! وتقال هذه المقولة بصيغ عديدة، ولكنها متقاربة من حيث المضمون والهدف. دعونا نؤجل قليلا تفكيك هذه المقولة، ونبدأ بتعريف العلمانية وبعدها العلموية لنفهم الفرق بين محتوى المفردتين/ المصطلحين:
* لا يوجد تعريف أكاديمي دقيق ومتفق عليه للعلمانية، ليس بسبب السجال السياسي الطبقي الضروس بين “الدينيين” و”العلمانيين”، بل أيضا، بسبب عدم وجود علمانية واحدة على أرض الواقع التاريخي وإنما ثمة علمانيات، مثلما لا توجد “دينية” واحدة بل هناك “دينيات”، فهناك العلمانية القصوية “المتطرفة” بنسختها الفرنسية “اللائكية/ من اللفظ اللاتيني (laicus)، وهو بدوره مأخوذ من اللفظ اليوناني (laós) ومعناه “الشعب”، وعلى هذا يمكنك ان تترجم اللائكية/ العلمانية إلى “الشعبية” دون أن تكون قد تجاوزت جذور المصطلح العتيقة، وهناك النسخ العلمانية الناعمة والتوفيقية في الدول الاسكندنافية والإنكلوسكسونية التي -على سبيل المثال – تبيح لرئيس الدولة “الفخري” أن يكون رئيس الكنيسة ويعين أعلى الرتب في كهنوتها كما في حالة ملكة بريطانيا الحالية إليزابيث، التي تحمل تقليديا لقب “حامي العقيدة/ الإيمان”، في تقليد بدأ منذ انفصال الملك هنري الثامن عن الكنيسة الكاثوليكية، بسبب قضايا متعلقة بطلاقه من إحدى زوجاته، في عام 1534، وتنصيبه لنفسه رئيساً على كنيسة إنجلترا الإنجليكانية. وهناك، أخيرا، علمانية الأمر الواقع الانتقائية الزاحفة المغلفة ببراقع دينية وقومية شتى، والتي تأخذ بها معظم دول العالم وخاصة في الجنوب ومنه الدول العربية لمُماشاة التطور الحضاري الطبيعي في الدول والمجتمعات المعاصرة، كما فصل مظاهرها عزيز العظمة في كتابه المرجعي “العلمانية من منظور مختلف”.
التعاريف السائدة للعلمانية متضاربة المحتوى بشدة، منها واحد تروِّجه الأحزاب السياسية الدينية ويقول “إن العلمانية هي مشروع إلحادي يريد فصل الدين عن الدولة والمجتمع بهدف القضاء على الدين” وهذا تعريف سياسي وأيديولوجي هجائي يريد تبرير وتسهيل قيام الدولة الدينية بفعل تكفيري يصل إلى حد إهدار دماء خصومها. وهناك تعاريف أخرى منها ما يقول؛ العلمانية هي فصل الدولة عن الدين، أو فصل السياسة عن الدين. أعتقد أن التعريف الأكثر واقعية ودقة في عصرنا هو: العلمانية هي منظومة قانونية تهدف لتنظيم العلاقات بين الدولة والدين بما يحترم حقوق الانسان الفرد ومنها حقه في الإيمان والعبادة وممارسة الطقوس وحقه في عدم الإيمان بدين الغالبية السكانية أو بأي دين آخر، وأن تكون الدولة قائمة على أسس المواطنة والمساواة بين الأفراد كذوات إنسانية مستقلة لا كرعية خاضعة وتابعة لسلطان ديني أو دنيوي.
علماً، أن هناك ثماني دول علمانية فقط تقول دساتيرها إنها علمانية في العالم. أما الغالبية الساحقة من دول العالم فهي دول علمانية إلى هذه الدرجة أو تلك دون أن تسجل ذلك في دستورها. وبعضها يسجل أن دولته مدنية، وهي صيغة مراوغة ابتكرت قبل عقود قليلة لعدم استفزاز الأحزاب الدينية أو ذات المرجعيات الدينية.
أما العلموية؛ فهي نزعة أيديولوجية تقوم على التطرف والمبالغة في اعتماد العلوم التجريبية الحديثة لتفسير وإدارة العالم وكافة مظاهر الحياة، أي على تصنيم “اعتباره صنما مقدسا” العلم التجريبي – الإمبريقي ليحل محل الدين والتفسير الديني أو بعبارة بالتنغا ليكون “مذهبا شبيهاً بالدين”. أي أن نقدنا هنا يطاول العلموية كأيديولوجيا سياسية ولكنه لا يبخس العلوم التجريبية أهميتها العظيمة ودورها العميق والفعال في الحياة الإنسانية!
يذهب الباحث الماركسي البريطاني تيري إيغلتون في نقده للعلموية إلى أن كريستوفر هيتشنز – وهو أحد واضعي أسس العلموية – لديه فكرة علمية قديمة عما يُعتبر دليلاً، وهو يختزل المعرفة في ما يمكن وما لا يمكن إثباته عن طريق الإجراء العلمي. نجد في كلام إيغلتون هنا رفضا عميقا للاختزالية المعرفية التي تقوم عليها العلموية، فهذه الاختزالية لا تعني سوى إخراج العلم من سياقه التاريخي الطبقي، والشطب على البديهية القائلة إن “العلم وسيلة وليس غاية بحد ذاته”، أي أنه سلاح ذو حدين (حدُّ يقتل الأبرياء وآخر تجرى به العمليات الجراحية لانقاذ المرضى) يمكن، بل ولابد، أن ينطوي على المضمون الطبقي عبر مَن يستخدمه؛ فالعلم عند صاحب المصنع سواء كان مصنع أسلحة أو بضائع سلمية، وصاحب المستشفى يختلف من حيث الهدف والتوظيف عنه عند العامل والزبون – المريض وعامة الناس.
لماذا تضامن نقدياً ضد العلموية فلاسفة وباحثون مؤمنون وملحدون؟
بعد أن بيَّنا الفروق بين العلموية والعلمانية في الجزء السابق نستكمل في هذا الجزء عرض النقود التي وجهت للأولى: لم يأتِ النقد التفكيكي الشديد للعلموية من جهة اليسار الماركسي فحسب، بل من جهات فلسفية وأكاديمية ليبرالية أيضا وأخرى لاهوتية دينية، فالفيلسوف النمساوي فريدريش هايك يُعرِّف العلموية بأنّها “التقليد العبودي لمنهج ولغة العلوم التجريبية”. وقد طور الباحث ميكائيل ستينمارك، هذا التعريف بقوله “تنصُّ أقوى صيغة للعلموية على أنّ العلم التجريبي ليس له حدود، وأنّ جميع المشكلات الإنسانية وجميع جوانب المساعي الإنسانية، سيتم التعامل معها وحلُّها عن طريق العلم التجريبي وحده. وُصفت هذه الفكرة أيضاً بأسطورة التقدم”.
ويقدم د. إبراهيم الرماح عرضا مفصلا حررته سهام سايح عن موضوع النقود التي وجهت إلى العلموية؛ يقدم تعريفا مركبا للعلموية يقول فيه: “العلموية هي اعتبار العلم التجريبي الوسيلة الموضوعية الوحيدة التي يجب على المجتمع تحديد القيم المعيارية والمعرفية بواسطتها. إنَّ مصطلح العلموية يستبطن تطبيقاً تبجيليّاً للعلم التجريبي في سياقات لا مسوِّغَ لها”، وأيضا في قوله إنَّ العلموية تعني المطالبة “باعتبار العلم التجريبي مصدراً وحيداً أو أساسيّاً للقيم الإنسانية (التي هي مجال أخلاقيات تقليدي)، أو مصدراً للمعنى والغرض – الغاية؟ – (التي هي مجال تقليدي للدين والرؤى الكونية ذات الصلة)”. العلموية إذن تريد إحلال العلوم التجريبية (وهي العلوم الطبيعية من فيزياء وكيمياء وأحياء والتي انفصلت عن العلوم الإنسانية كالفلسفة والأدب والتاريخ…إلخ)، محل الدين، ليكون – العلم التجريبي – دينا جديدا يجيب على أسئلة الإنسان ويعالج أزماته وهذا عبث ما بعده عبث، ثم إن هذا المنطق أو الدعوات ليست جديدة! فهذا مؤرخ الأفكار جاكسون ليرز اعتبرها نوعاً من العودة إلى وضعية (Positivism) القرن التاسع عشر، التي تزعم “أنّ العلم التجريبي قد اكتشف، أو على وشك اكتشاف، جميع الحقائق المهمة عن حياة البشر، والقياسات الدقيقة والحسابات الصارمة في هذا الرأي، هما الأساس لتسوية الخلافات الميتافيزيقية والأخلاقية الدائمة”. غير أن هذه النزعة المتطرفة واجهت نقودا مختلفة وشديدة من مختلف الاتجاهات، فحتى الفيلسوف الملحد توماس ناجل – كما يخبرنا د. الرماح في عرضه بما يؤكد أن الملحدين والمؤمنين يمكن أن يتوحدوا في توجيه النقد للعلموية لأنها تعني تفريغ الحياة من كل أبعادها غير الفيزيقية وسواء كانت روحانية دينية أو غير دينية “جمالية”- كان ناجل إذن قد وجَّه نقده إلى أحد القائلين بالعلموية، وهو عالم الأعصاب سام هاريس، لأنه خلط بين “المعرفة التجريبية” و”المعرفة العلمية”. وهذا الخلط هو ذاته الخلط بين المعرفة بأنواعها الأربعة، والعلوم بأنواعها الأربعة. وإذا ما عدنا الى تعريف الوضعية الأقدم، وضعية القرن التاسع عشر، والذي يقول إنها “في مجال العلوم الاجتماعية، كما في العلوم الطبيعية، فإن المعرفة الحقيقية هي المعرفة والبيانات المستمدة من التجربة الحسية، والمعالجات المنطقية والرياضية لمثل هذه البيانات”، عندها سنعطي الحق لجاكسون ليرز في إرجاعه العلموية إلى وضعية القرن التاسع عشر.
أما مايكل شيرمر المختص في العلوم وتاريخها، ومؤسس جمعية “الارتياب العلمي” فخلص إلى وجود توازٍ بين العلموية والحركات الدينية التقليدية!
ومثلما استهدف النقدُ اليساري الماركسي والليبرالي العقلاني العلمويةَ، فقد استهدفها من جهة أخرى الفلاسفةُ على اختلاف مدارسهم ومعهم اللاهوتيون الدينيون الذين ركزوا نقدهم على أن “العلموية تشطب على الغائية الوجودية” أي أنها تلغي أسئلة الغاية من الوجود والتي يعتقدون ان أديانهم تقدم لهم إجابات عليها. وهذا ما سنسلط عليه الضوء في الجزء الثاني والأخير من هذه المقالة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

This site is protected by wp-copyrightpro.com